المعجزة العددية في الوسطية والسيرة النبوية في الآية 143 من سورة البقرة

د.محمد جميل الحبال*

clip_image649

المقدمة

قال تعالى في محكم كتابه: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143)

من خلال دراسة المؤشرات العددية في الآية رقم (143) من سورة البقرة نستطيع إستنباط الحقائق العددية في موضوعات (الظاهرة الوسطية) في الإسلام وبعض أحداث (السيرة النبوية) ومنها حادثة تغير القبلة الى مكة المكرمة (أم القرى) التي تقع وسط اليابسة من الكرة الارضية (القارات السبع)، وعدد الصلوات في اليوم والليلة (الصلوات الخمس)، وذلك على مستوى رقم هذه الآية المباركة وعدد كلماتها وحروفها باعتماد الرسم القرآني (العثماني) للمصحف الشريف، وأن المقصود بالوسط هو الذي يتوسط الشئ ويقع في مركزه (فرديًا في حالة الارقام) ، وكذلك يقصد به المنتصف الذي يقسم الشيء الى نصفين (زوجيا في حالة الارقام) وتفصيل ذلك كما يأتي:

أولا : الظاهرة الوسطية

1)    إن رقم هذه الآية هو (143) وتقع في وسط (منتصف) سورة البقرة بالضبط والتي هي من أطول سور القرآن الكريم، ومجموع آياتها (286) حيث أن( 286÷2=143). إن الأمة الإسلامية هي أمة الوسط بين الأمم (ووسط الشيء أشرفه وأحسنه ) والوسط هنا كما قال المفسرون هو الخيار والأجود والعدل. ولما جعل الله هذه الأمة وسطا فقد خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج. وقد جاءت هذه الآية عدديا في وسط السورة كذلك، فحصل التطابق التشريعي والعددي بينهما, والذي هو من خصائص كتاب الله المحكم, المتناسق والمتطابق في كل شئ !

2)    وإن موقع كلمة (وَسَطاً) في هذه الآية المباركة هو الرابع في قوله تعالى: (َوكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وكلمة (وَسَطاً) تتألف من أربعة حروف حسب الرسم القرآني للمصحف الشريف (العثماني) وكذلك تتألف من أربعة صوامت (المقاطع الصوتية) وفق المنهج الصوتي لعلم الأصوات في اللغة العربية. ورقم الآية (143) والعدد( 4 ) يقع في وسط (مركز) هذا الرقم!كما أن مجموع العددين المتجاورين له هو(4) أيضا (1+3=4).

3)    إن مجموع كلمات هذه الآية هو (45 ) كلمة وعدد حروفها هو (194) حرفاً ، وهناك ظاهرة ترابط وتعانق بينهما ومما له علاقة بالعدد (4)أيضا الذي يظهر في رقم عدد كلمات الآية الذي هو(45) كلمة ، وفي رقم عدد حروفها الذي هو (194) حرفاً. ولكن يظهر مرة في خانة العشرات والأخرى في خانة المئات. وإن حاصل مجموع أعداد الرقم (194) الذي يمثل مجموع حروف الآية هو (14) حيث أن (4+9+1 =14) وهنا يظهر الرقم (4) أيضا. كما ان مجموع اعداد الرقم (45) الذي يمثل عدد كلمات الآية موضوعة البحث هو (9) حيث أن (5+4=9) وهذا العدد يمثل وسط (مركز) رقم حروف الآية الذي هو (194) حرفا.

4)    ان الكلمة الوسطية (المركزية) في هذه الآية الكريمة هي الكلمة رقم (23) وهي كلمة (الرَّسُولَ) حيث أن هناك (22)كلمة قبلها و(22) كلمة بعدها. وهذا من الإحكام التشريعي والعددي والتطابق بينهما حيث أن (الرَّسُولَ) صلى الله عليه وسلم هو المثال الاعلى والقدوه الصالحة في الوسطية والمتمثلة في سيرته الشريفة وفي جميع اموره وأحواله ، وكما وصفته أم المؤمنين السيده عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام في قولها: “كان خلقه القرآن” رواه أحمد ومسلم وأبو داود، وزاد مسلم ) يغضب لغضبه ويرضى لرضاه(.أي مطبقاً لأحكام القرآن الكريم التي تدعو الى منهج الوسطيه. ونستشهد بالحادثة الآتية على وسطيته من سيرته النبوية العطرة : فعن أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا من أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النبي صلى الله عليه وسلم عن عَمَلِهِ في السِّرِّ؟! فقال بَعْضُهُمْ: لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وقال بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ. وقال بَعْضُهُمْ: لا أَنَامُ على فِرَاشٍ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه فقال: «ما بَالُ أَقْوَامٍ قالوا كَذَا وَكَذَا؛ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».متفق عليه. وهذا يتطابق مع سياق قوله عز وجل في هذه الآية (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) فالإقتداء به يكون قد وافق الوسطية في حياته واتبع سنته.

5)    وفي الدراسة العددية من (ناحية عدد الكلمات والحروف) للعبارة المكتملة المعنى في قوله تعالى{ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}والتي تقع في وسطها من ناحية عدد كلمات الآية موضوعة حيث أن هناك 18 كلمة قبلها و18 كلمة اخرى بعدها , تظهر لنا الحقائق الآتيه:

‌أ)        أنها تتألف من(9) كلمات ووسطها كلمة (الرَّسُولَ) وقبلها (4) كلمات قوله تعالى (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ) وبعدها (4) كلمات أيضاً قوله تعالى (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) وذلك على مستوى هذه العبارة . ويلاحظ فيهما التقابل المعنوي كما يقول البلاغيون فضلا عن التقابل العددي وهذا تناسق رائع بينهما.

‌ب)     إن عدد حروفها (36) حرفاً . حيث أن: (4×9=36) وفي ذلك فيه إشارة الى عدد كلمات العبارة الأربع التي جاءت قبل وبعد الكلمة الوسط (الرَّسُولَ) . فضلا على أن كلمة (وَسَطاً) جاءت الرابعة ترتيبا في مطلع الآية كما ذكرنا اعلاه.

‌ج)      إن عدد الحروف قبل وبعد كلمة (رسول) هو (16) حرفاً حيث ان قبلها العبارة (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ ال) وبعدها العبارة (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) وهذا الرقم هو (4×4) . كما أن كلمة (رسول) تتألف من أربعة حروف أيضا! وفي ذلك تأكيد آخر على الترتيب الرابع الذي في ورود كلمة (وَسَطاً) في الآية موضوعه البحث وحصول الترابط العددي المحكم بينها من جهة وبين كلمة (الرسول) الوسطية من جهة آخرى كما ذكرنا اعلاه.

علماً أن اسم المصطفى صلى الله عليه وسلم (محمد) يتألف من أربعة احرف . وقد ورد ذكر اسمه الشريف (محمد) في القرآن الكريم في أربع آيات أيضاً وهي :

1.الآية رقم 144 من سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}.      

2. الآية رقم 40 من سورة الآحزاب: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.

3. الآية رقم 2 من سورة محمد: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}.              

4. الآية رقم 29 من سورة الفتح: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.

وقد ذكر الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير لقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) مانصه : (فأمره الله حين كانوا في مكة أن يتوجهوا الى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين، وامتحانا للناس وابتلاء….وينظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه وينفر عنه) المجلد الثالث-ص106. وفي ذلك إشارة الى أن إتجاه القبلة للصلاة في الفترة المكية كان الى بيت المقدس وكان امتحانا لإيمان المسلمين وطاعتهم قبل أن يأت الأمر بتحويلها الى المسجد الحرام في مكة المكرمة (أم القرى) بعد الهجرة بنحو عامين كما سيأتي لاحقا.

6)    إن ترتيب سورة البقرة في المصحف الشريف هو الثاني (2) حيث أن سورة الفاتحة هي الأولى (أم القرآن) وكذلك فإن الآية موضوعة البحث هي الثانية من الجزء الثاني من سورة البقرة في القرآن الكريم الذي يبدأ بالآية رقم( 142) .

ورقم الآية التي تليها (موضوعة البحث) هو( 143) وحاصل ضرب هذين العددين (2×143) هو (286) وهذا الرقم يمثل مجموع عدد آيات سورة البقرة البالغ 286 آية . وهذا يظهر لنا أن ترتيب سور القرآن الكريم هو توقيفي(وحي) كما هو ترتيب آياته وعددها ورسم كلماته وحروفه. وإن موقع سورة البقرة في الترتيب الثاني فيه له علاقة بهذه المنظومة الوسطية الرائعة حسابيا وبلاغيا وتشريعيا.

ثانياً : السيرة النبوية

إذا أمعنا النظر في تكرار كلمة (الرَّسُولَ) في هذه الآية المباركة نجد أنها قد ذكرت مرتين. الاولى: في الترتيب (10) والثانية: في الترتيب (23 ) وكذلك ان عدد الحروف بينهما هو (62) حرفاً . وكذلك فإن موقع كلمة (الْقِبْلَةَ) ترتيباً هو (15) في الآية موضوعة البحث . ونستنبط من هذه الأرقام الأشارات الآتية وذلك بما له علاقة بالسيرة النبوية المطهرة وكما يأتي:

1)    كما ذكرنا أن ترتيب كلمة (الرَّسُولَ) الثانية تقع في وسط (مركز ) الآية التي تتألف من( 45 )كلمة وذلك في الكلمة رقم (23) ترتيباً . فإذا اعتبرنا أن الكلمة الواحدة في هذه الآية تعادل عاما واحدا فإن هذا الرقم (23) يمثل عمر الدعوه النبوية كاملة من بعثته الى وفاته صلى الله عليه وسلم ، حيث كانت دعوته (13) عاماً في مكة المكرمة (الفترة المكية) و(10) اعوام في المدينة المنورة (الفترة المدنية) كما هو معلوم في السيرة النبوية .

2)    أن ترتيب كلمة (الرَّسُولَ) الاولى في الآية الكريمة هو العاشر ويمثل ذلك عمرالدعوة في المدنية المنورة حيث انتصرالاسلام وقامت دولته وكملت رسالته واصبح المسلمون ( أمة وسطا ) اي امة الخيار والعدل والإجتباء في جميع الامور وشهداء على الناس في الدنيا والاخرة . كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78)إن ترتيب كلمة (الرَّسُولَ) الثانية تأتي بعد (13) كلمة من الأولى والفرق بينهما (13) كلمة. حيث أن:

(23-10=13) ويمثل ذلك الفترة المكية في الدعوة التي استمرت ( 13) عاما من بعثته صلى الله عليه وسلم الى هجرته من مكة المكرمة الى المدنية المنورة . وسياق الآية يدل على هذا المعنى أيضا (الفترة المكية ) حيث ان أتجاه القبله للصلاة وكما جاء في بعض الروايات كان الى بيت المقدس عندما كان المسلمون في مكة المكرمة .

3)    إن عدد الحروف بين كلمة (الرَّسُولَ) الاولى والثانية (وبضمنها كلمة الرَّسُولَ في الحالتين) هو (62) حرفاً. فإذا اعتبرنا ان كل حرف في هذا المقطع من الآية يعادل عاما واحدا فإن ذلك يمثل معدل عمره صلى الله عليه وسلم بالتقويمين الشمسي(الميلادي) والقمري (الهجري) حيث تمثل الاولى عام ولادته والثانية عام وفاته عليه أفضل الصلاة والسلام . حيث أن عمره عليه الصلاة والسلام (63) عاما بالتقويم القمري (الهجري) والذي يقابل(61) عاما لعمره صلى الله عليه وسلم بالتقويم الشمسي(الميلادي) , حيث بالإمكان الحساب والأخذ بهما لقوله تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) (الرحمن:5) وقوله تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً) (الأنعام:96)وكما موضح بالجدول ادناه :

جدول يبين تاريخ ولادة ووفاة (عمر) الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالتقويمين القمري (الهجري) والشمسي (الميلادي)

clip_image650

المصادر:

  • الرحيق المختوم- صفي الرحمن المباركفوري: ص 62 – ص 528
  • العالم المصري محمود باشا الفلكي (من الشبكة العنكبوتية)

4)     ومن الأحداث المهمة في السيرة النبوية المباركة هو تغير القبلة في الصلاة من المسجد الأقصى في بيت المقدس الى المسجد الحرام في مكة المكرمة, حيث كان المسلمون وبأمر من الله تعالى وكما ورد في بعض الروايات يتوجهون في صلاتهم خلالها وعلى مدى (13) عاما ( في الفترة المكية) باتجاه بيت المقدس وحتى بعد الهجرة الى المدينة المنورة بعامين تقريبا أي ما مجموعه (15)عاما وقد نزل بعد ذلك الوحي بتغييرها الى المسجد الحرام بقوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة:144) إذا أمعنا النظر في الآية الكريمة رقم (143) موضوعة البحث بالنسبة لهذا الحدث (تغير القبلة) لوجدنا أن موقع كلمة (الْقِبْلَةَ) في هذه الاية هو (15) ايضا! . وفي ذلك إشارة تطابقية شرعية وعددية للمدة التي قضاها المسلمون (15 عاما تقريبا) وهم يصلون باتجاه بيت المقدس كما جاء في التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي قوله: (واختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام متى حول القبلة بعد ذهابه الى المدينة.. فعن ابن عباس والبراء بن عازب في يوم الإثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشرة شهرا ، وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال وقال آخرون بل سنتان). المجلد الثالث-ص103

ثالثا: الصلوات الخمس

في قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنَكُمْ) وإيمانكم هنا بمعنى صلاتكم.( أي ان الله تعالى لن يضيع ثواب صلواتكم عندما كنتم تؤدونها باتجاه بيت المقدس أو الذين ماتوا وهم يصلون باتجاهه) كما جاء في تفسير مختصر ابن كثير المجلد الأول-ص137. وتتألف هذه العبارة من خمس كلمات وفي ذلك إشارة الى الصلوات الخمس. فضلا أن العبارة الأخيرة التي جاءت بعدها واختمت بها هذه الآية المباركة بالعبارة التالية في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ   ) تتكون من خمس كلمات أيضا!. علما ان كلا منهما تتألف من (21) حرفا بالضبط حسب الرسم القرآني. وفي ذلك يحصل بينهما التطابق المعنوي البلاغي والعددي فضلا عن الإشاري في ان عدد الصلوات المفروضة في اليوم والليلة هي خمس صلوات!

رابعاً: (أمة الوسط) تتجه في صلاتها (القبلة) الى الوسط (أم القرى)!

إن الامة الاسلامية أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (أمة الوسط) تتجه في صلاتها وقبلتها الى الوسط – مكة المكرمة (ام القرى) التي اثبتت أحدث الدراسات العلمية أنها تقع في وسط (مركز) اليابسة من الكرة الارضية (القارات السبع) ! حيث أنها (سرة الارض ومنها دحيت) كما وصفها بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم .فإنها تقع في مركز العالم وبمنزلة العاصمة للكرة الارضية ولاشك إن أحسن العواصم وأقواها ما كان في وسط الدولة ومركزها! إن هذه الحقيقة قد أشار اليها القرآن الكريم في الآية موضوعة البحث قوله تعالى: (كَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) . فالمسلمون فضلاً عن كونهم وسطاً في منهجهم ومنزلتهم فهم أيضاً وسطاً في عاصمتهم (مكة المكرمة) التي وصفها الله تعالى في كتابه العزيز بأنها (أم القرى) . وقد جاء ذكرها بصيغة (أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا) مرتين في القرآن الكريم في قوله تعالى:

  1. (وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [ الأنعام 6: 92] .
  2. (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى 42: 7] .

وفي هاتين الآيتين الكريمتين مؤشرات اعجازية عددية مذهلة مترابطة مع الوسطية ومركز اليابسة في الكرة الارضية وقاراتها السبع وذلك في قوله تعالى (أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا) يمكن تلخيصها بما يأتي:

  1. عبارة (أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) في سورة الأنعام تقع في وسط الآية بالضبط حيث تسبقها تسع كلمات وتليها تسع كلمات أيضاً وكما يلي:

( وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِر

أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ). [ الأنعام 6: 92] .

        وفي ذلك إشارة الى توسط مكة المكرمة جغرافيا (مركز اليابسة والقارات السبع) وعدديا كما في الآية الكريمة! وبذلك يتطبق الدليل العلمي – الجغرافي – مع الدليل القرآني –العددي- وهذا من معجزات وخصائص كتاب الله تعالى المحكم والمتناسق في كل شئ !

  1. عبارة ( أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) في الآية من سورة الشورى تقع في الترتيب السابع منها وكما يلي:

(وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى 42: 7] .

وفي ذلك اشارة والله أعلم الى القارات السبع في الكرة الأرضية! حيث أن رقم هذه الآية هو سبعة وترتيب السورة في المصحف هو (42) الذي هو من مضاعفات العدد سبعة أيضا حيث أن :

   (42=7X6)!

  1. إن عدد كلمات هاتين الآيتين الكريمتين متساوٍ فهو (22 كلمة) لكل منهما! وهذا دليل على التناسق العددي و الموضوعي في القرآن الكريم. وإن عبارة (أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) تتألف من أربع كلمات وهذا ما يقابل الترتيب الرابع لكلمة (وسطا) في الآية موضوعة البحث قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). والله أعلم بمراده

 

الخاتمة

وفي الختام: تُظِهر لنا هذه المعجزة العددية القرآنية في هذه الآية المباركة رقم (143) من سورة البقرة عظمة هذا الكتاب المبين وأنه وحي نزل به الروح الأمين على قلب سيدنا محمد سيد الأنبياء والمرسلين وهو الكتاب الذي. (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).وأنه وصلنا كاملا محفوظا من دون تبديلٍ في ترتيب سوره وآياته ورسم كلماته (ما عدا تنفيطها تشكيلها) . وذلك كان بأمر من الله مصداقا لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).

ففي آية واحدة فقط في وسط سورة البقرة وبلغة الأرقام والحساب والإحصاء على مستوى رقم الآية وعدد كلماتها وحروفها وكذلك رقم السورة التي وردت فيها وعدد آياتها ، توصلنا وبتوفيق من الله وفضله الى كثير من المعلومات والإشارات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية كالوسطية في ديننا (َوكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، وكذلك إلى أهم احداث السيرة النبوية كعمر الدعوة النبوية والفترة المكية والمدنية منها وعمر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكذلك في مدة صلاة المسلمين في قبلتهم الأولى بأتجاه بيت المقدس قبل الأمر بتغير القبلة الى المسجد الحرام في مكة المكرمة (أم القرى) التي هي وسط (مركز) اليابسة في الكرة الارضية (القارات السبع) وان عدد الصلوات المفروضة في اليوم والليلة هي خمس صلوات ، وذلك من خلال المعجزة العددية القرآنية والتي بالإمكان إن أحسن دراستها وتدبرها الإستئناس والإستدال بها في تفسير القرآن الكريم . وكذلك فإنها تظهر احد جوانب الإعجاز العلمي القرآني في مجال الإعجاز العددي في عصر العلم والتقدم المعرفي والتقني والإحصائي، قال تعالى:(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً) (النبأ:29)وقال تعالى: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (الجـن:28) والله أعلم بمراده . والحمد لله رب العالمين

 

__________________

* استشاري في الطب الباطني في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام-المملكة العربية السعودية، وباحث في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. و للراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.alhabbal.info/dr.mjamil

أهم المصادر

  1. الفخر الرازي- التفسير الكبير- مؤسسة المطبوعات الإسلامية- ط1- بدون سنة (القاهرة).
  2. محمد علي الصابوني- مختصر تفسير ابن كثير-دار القرآن الكريم – ط5 -1400هـ (بيروت).
  3. صفي الرحمن المباركفوري – الرحيق المختوم – دار مكتبة وليد الكعبة – ط1 – 1400 هجرية

ملحوظة:

تم المشاركة في هذا البحث وإلقاءه في المؤتمر الدولي الثالث للأعجاز العددي في القرآن الكريم الذي

عقد في كوالالمبور- ماليزيا في 22-23 أيلول-سبتمبر 2012م الموافق 6-7 ذوالقعدة       1433هجرية .