الإعجاز التشريعي في الإسلام 2

الجزء الثاني: أمثلة تطبيقية من القرآن الكريم

د. محمد عبد الرحمن المرعشلي(1)

 

إن كل آيات الأحكام التي نزل بها القرآن تصلح لأن تكون مِثالاً دالاًّ على الإعجاز التشريعيّ، نظراً لعجز البشر عن الإتيان بمثلها، ولما تتضمنته هذه الأحكام من مصالح تتلاءم وفِطرة البشر وسعادتهم، وسنكتفي بأربعٍ منها لتبيان المقصود وكلها مرتبطة بالفقه الاقتصادي وفلسفة المال، وذلك أولاً بتشريع فريضة الزكاة ونوافل الصدقات، وثانياً بتحريم الرّبا، وثالثاً بجواز عقود المبايعات والأمر بالكسب والعمل الحلال (البيوع) عن طريق التجارة والشراء والبيع، ورابعاً بآية الدّيْن.

المثال الأول: فريضة الزكاة ونوافل الصدقات

إذا كان النظام الرأسمالي يُعَظم “الملكية الفردية” وتضخيم الثروات وكنز الأموال في المصارف، ويُلغي ذلك كله النظام الشيوعي على أساس أن الدولة هي التي تملك المال العام وتديره، فإن التشريع الإسلامي يُقِرّ الملكية الفردية لكنه يُطالب بأداء فريضة الزكاة وذلك لتحقيق التكافل الاجتماعي كما في قوله تعالى )وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة((2)، والإيتاء: الإعطاء، والزكاة: المراد بها الصدقة المفروضة، وأصل الزكاة في اللغة النماء والزِّيادة والطهارة(3) “وسُمِّيَ إخراج المال للفقراء زكاة من حيث إنه يُنمِّي مال المُزكي فتكثر بركته ويرفع اللهُ البلاء عنه، كما أن الزكاة تطهِّر المُزَكي مِنَ الذنـُوب”(4).

ويُؤدّي المسلم فريضة الزكاة طاعة لله وعبادة له إذا استوفت الشروط مثل النِّصاب والحَوْل ونسبتها 2.5% كل سنة، يَرْتجي مُقابلها رضوان الله ويشعر بسعادة أثناء تسليمها للفقير، ويطمع بمضاعفة ما أدّاه لأن الحسنة بعشرة أمثالها في الدنيا سِوى ثواب الله الذي يرتجيه في الآخرة، يقول أبو الأعلى المودودي: “الزكاة تنشئ في قلوب المسلمين عواطِف الإخاء والمُواساة، وتروّضهم على بَذل المال والتعاون فيما بينهم“(5)، بل وتخلصهم من شرور تعلق قلوبهم به وذلك بالتصدّق على الفقراء والإحسان إليهم وتفريج كروبهم.

ويُقابِل فريضة الزكاة التي شَرعها الإسلام ما يُسَمَّى النظام الضَّريبي في النظام الرأسمالي “Taxe” كما هو موجود في بلاد الغرب وأميركا وذلك عند بلوغ سقف محدّد من المال يصل إليه الأغنياء تلاحقه الدولة بصرامة عن طريق السلطة التنفيذية والشرطة بالتفتيش والملاحقة؛ لكن المواطنين هناك يستطيعون اختراقه وهو ما يفعله الأذكياء منهم الذين لا يرضون أن يدفعوا للدولة “ما يتعبون في تحصيله” من مال ولا يوافقون على مشاركة الدولة لأرباحهم، فهم يعتبرون هذا ظلماً لهم، وهذا ما يدعوهم إلى اللجوء إلى طرق غير مشروعة لتهريب المال إما عن طريق تبييض الأموال، أو بتجديد المستلزمات الحياتية عندما تصبح “قديمة” في كل مرة حتى ولو لم تكن هناك أي ضرورة لذلك، أو بإنشاء حفلات ومؤتمرات وندوات ومهرجانات وهمية أو تقديم مساعدات اجتماعية لذويهم خارج أوطانهم، وذلك كله حتى يظلوا تحت سقف الضريبة Taxe كما شاهدناه، فأين سعادة المسلم الذي يُؤدّي زكاة ماله عبادة وفريضة يرجو بها الأَجْر والثواب من أعمال هؤلاء في القوانين المالية الوضعية؟!

المثال الثاني: تحريم الرِّبا

قال تعالى )الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسِّ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الرِّبا وأحلَّ اللهُ البيعَ وحرَّم الرِّبا، فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فانتهى فله ما سَلَف وأمره إلى الله ومَنْ عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون((6).

اعتبرت الشريعة الإسلامية الرِّبا من الكبائر، ومن أكبر الجرائم الاجتماعية، وشنَّت عليه حَرْباً لا هَوادة فيها، وأوعد القرآن المُتعاملين به عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، فالصدقة عطاءٌ وسماحة وطهارة وزكاة وتعاون وتكافل… والرِّبا شُحٌّ وجَشَعٌ وأثرة وأنانية ولا عَجبَ أن يُعْلِنَ اللهُ الحرب على المُرابين بقوله تعالى )فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله((7) نظراً للأضرار الفادحة التي يترتب عليها التعامل بالرِّبا وهي أكل أموال الفقراء والمعوزين.

ويكمن ضرر الرِّبا في ثلاثة أمور: فمن الناحية النفسية يُوَلِد الرِّبا عند المُرابي حُبّ الأَثرة والأنانية فلا يهمّه إلاّ مصلحته ونفعه، فيغدو وحْشاً مفترساً لا يهتمّ في الحياة إلا بجمع المال وامتصاص دماء الناس، وهكذا تنعدم معاني الخير، ويحلّ محلها الجَشَع والطمَع، ومن الناحية الاجتماعية يُولد الرّبا العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان والتعاون والإحسان في نفوس البشر، أما من الناحية الاقتصادية فيقسّم الرِّبا الناس إلى طبقتين: طبقة مُترفة تعيش على النعيم والرّفاهية، والتمتع بعَرَق جبين الآخرين، وطبقة مُعدمة تعيش على الفاقة والحاجة والبؤس والحِرْمان، وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين بالثورات الداخلية.

فمن أخبر النبي محمّداً r بذلك؟ إذ لم يدخل لا “كلية تَربية” ولا “جامعة اقتصادية” ولا “معهد علم نفس” وهو النبي الأميّ، r! ألا يدلّ هذا التشريع على جلب المصالح والمنافع، وإبعاد الشرور والمفاسد، وتحقيق السعادة للبشرية! وأين حِكمة تحريم الربا التي نزل بها القرآن من نصوص القوانين الوضعيّة الربويَّة التي تحَوِّل البشر إلى مَصاصي دماء!

وثمَّة إشارة إلى سِرّ التشريع الإسلامي في معالجته للأمراض الاجتماعية الضارَّة مثل آفة الرِّبا وشُرب الخمر والتدخين وغيرها، وفي هذا آية الإعجاز إذ سار التشريع بِسُنَّة التدرّج في تقرير الأحكام، فمَرَّ تحريم الرِّبا كما حدث في تحريم الخمر بأربعة أدوار، بدأ بالدّور الأول بموعظة سلبيّة بقوله تعالى )وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله، وما آتيتم من زكاة تُريدون وجه الله فأولئك هم المُضْعِفُون((8)؛ وفي الدور الثاني: تحريم بالتلويح لا بالتصريح، وهو دَرْسٌ من سيرة  اليهود الذين حُرِّم عليهم الرِّبا فأكلوه فاستحقُّوا اللعنة والغضب، قال تعالى: )فَبِظُلمٍ من الذين هادوا حرَّمنا عليهم طيبات أُحِلَّت لهم وبِصدّهم عن سبيل الله كثيراً وأخذهم الرِّبا وقد نُهوا عنه((9). وفي الدور الثالث: تحريم جزئي لأفحش أنواع الرِّبا وليس تحريمه كله حيث نزل قوله تعالى )يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الرِّبا أضعافاً مضاعفة((10)؛ وأما في الدور الرابع فنزل التحريم الكلِي القاطع للرّبا ويمثّل المرحلة النهائية بقوله تعالى )يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الرَّبا إن كنتم مؤمنين ، فإ، لم تفعلوا فأْذَنوا بحربٍ من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظْلَمون((11).

وبهذا البيان يتضح لنا سِرّ التشريع الإسلامي المُعْجِز في معالجة الأمراض الاجتماعيّة التي كان عليها العرب في الجاهلية، وذلك بالسير بهم في طريق التدرّج: وذلك من الخُطة الحكيمة التي انتهجها الشارع، فلله ما أدق هذا التشريع وما أحكمه؟(12). إن الإعجاز التشريعي هنا يكمن في معالجة النفس البشرية من العادات السيئة الضارّة التي كانت منتشرة في كيان المجتمع الجاهلي عن طريق التدرّج رويداً رويداً، ولو نزل القرآن جملة واحدة ما احتمله العَرَب، ولما استطاع النبي محمد أن يُخْرِجَ أمَّة من غياهب الجاهلية إلى نور الحضارة التي أشرقت بنور الإسلام في أقل من عشرين سَنَة حيث خضع لها الشرق والغرب ودان لها العرب والعجم وذلك باعتراف المستشرقين أنفسهم، وهو ما يُفسِّر نزول القرآن مُنَجَّماً (أي منثوراً كالنجوم على دُفعات).

المثال الثالث: جواز عقود المُبايِعات (البيوع)

يدلُّ عليه قوله تعالى: )وأحلَّ اللهُ البيعَ وحرَّم الرِّبا((13) وهذا من عُموم القرآن، والعُموم يدلّ على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يُخَصُّ بدليل(14)، ورُبَّما دلّ على التحريم بيانٌ من سُنَّة رسول الله r(15)، فالمال الطيب الحلال في الإسلام ما كان عن طريق البيوع والشراء وبِعَرَق الجبين والكَسْب والعَمَل الحلال لا عن طريق الرِّبا، والبيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا، أي دفع عِوَضاً وأخذ مُعَوَّضاً، وعلى هذا فأركان البيع أربعة: البائع والمُبتاع والثمن والمُثمَن، وهو قبولٌ وإيجاب. وفي الحديث: “إن الله طيِّبٌ(16) لا يقبل إلا طيّباً، وإن الله أمَر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: )يا أيها الرسل كُلوا من الطيِّبات واعملوا صالحاً إني بـما تعملون عليم((17)…” الحديث(18).

وقد أمَرنا الله بالسَّعْي والعمل في أطراف الأرض كما قال تعالى )هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور((19).

المثال الرابع: آية الدَّيْن

قال تعالى: )يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجلٍ مسمى فاكتبوه وليكْتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يُملّ هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أ، تضل إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقومُ للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناحٌ ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضارّ كاتب ولا شهيدٌ وإن تفعلوا فإنه فسوقٌ بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيءٍ عليم((20).

“آية واحدة تشهدُ بعظمة القرآن وأنه وَحْيٌ إلهيٌ هو ما دعا إليه من كتابة الدَّيْن والإشهاد عليه، وفائدة ذلك لِيَعْلمَ الدائن والمدين أو وَرَثَتهم حقوقَهم وواجباتهم نحو بعضهم البعض، لأن مرور السنين مدعاة للنسيان، كما يُؤدّي عدم كتابة الدَّيْن إلى التنازُع، وإنكار المَدين الحقّ المتوجّب عليه نحو الدائن كما هو مُشاَهدٌ عند بعض الناس.

والدَّعوة إلى كتابة الدَّيْن جاءت في آية هي أكبر آيات القرآن لشمولها كثيراً من التوجيهات التي تحفظ حقوق الدائن والمدين وهي:

1- كتابة هذا الدَّيْنُ بأمر من الله لئلا يقع فيه نِسْيان أو جحود، وكتابة الدَّيْن المؤجل سداده أخذ بها القانون الفرنسي في أواخر القرن الثامن عشر حين اشترط أن يكون الدَّيْن مكتوباً إذا زاد على قدْر معين، وعن القوانين الفرنسية أخذت القوانين الأوروبية.

2- على أن يكتب وثيقة هذا الدَّيْن كاتِبٌ عالِمٌ بشروط العقود وتوثيقها، عالِمٌ بأحكام الشريعة، وخبيرٌ بمعاملات الناس، وأن يتحرَّى العَدْل بين الطرفيْن بأن لا يَزيد ولا يُنقص في الدَّيْن الذي يكتبه، وفي هذا دعوة إلى أنه ينبغي أن يكون في الأمَّة كتـََّابٌ مُتَخصِّصون للقيام بهذه المهمة، وهذا ما يُعرف الآن (بكـتـََّاب العَدْل) وهذه التسمية مقتبسة من النصّ القرآني.

3- ولا يمتنع الكاتب من أن يكتب للمتداينين ديونهم بالطريقة التي علمه الله إياها بأن يتحرّى العَدْل في كتابته، وأن يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإسلامية، فلا تكون فيها شروط ليست في كتابِ الله أو لا يسوّغها الشرع أو لا يمكن تنفيذها.

4- إنَّ الذي يُلَقن الكاتِب مقدار الدَّيْن وموعد سداده بوجود الدائن هو المَدِين، ليكون إملاؤه إقراراً بالدَّيْن وبالحقوق التي يجب عليه الوفاء بها، وليكون ما في الوثيقة حُجَّة يُبرزُها الدائن عند استحقاق سِداد الدَّيْن أو عند بروز الخِلاف بينهما )ولْيُملِلِ الذي عليه الحقُّ(  الإملالُ والإملاءُ بمعنى واحد وهو التلقين. )وليتَّـقِ الله ربَّه ولا يَبْخَس منه شيئا( والخطاب هنا يصلح أن يكون للمَدِيِن أو أن يكون للكاتِب، فإن كان للمَدِين، فليتـق ِِ الله هذا المدين الذي عليه حقّ أداء دَيْنِهِ، ولا يُنقِص مِنَ الدَّين حين الإملاء شيئاً ولو كان زهيداً، بل يعترف به كما اتفق عليه مع الدائِن. وإن كان الخطاب للكاتِب، فليتق ِ الله هذا الكاتب ولا يُنقِص من حق كل من الدائن والمدين شيئاً.

5- )فإن كان الذي عليه الحقُّ سفيهاً أو ضعيفاً( وهو المَدِين إذا كان سفيهاً وهو الجاهل بالعقود والتصرّفات أو المبذر المتلاف الذي لا يُحْسِن تدبير أموره وإدارة أمواله، أو كان ضعيفاً وهو الصبيّ والشيخ الهرم الذي أصابه الخَرَف أو العجز )أو لا يستطيع أن يُمِلَّ هو( أي لا يقدر على التلقين بأن كان أخرس أو غير ذلك )فليملل وليه بالعَدْل( أي فعلى وليّ أمره أو وكيله أو من يهمّه شأنه أن يتولى تلقين الكاتِب منه متحريّاً الحقّ والعَدْل فيما كـلف به، وذلك حِرْصاً على حق هذا الضعيف أو السفيه من أن توقعه حاله في الإساءة إلى نفسه.

6- الإشهاد على الدّيْن ولا يكتفي القرآن بالدَّعْوة إلى كتابة الدين بل يدعو أيضاً إلى الإشهاد عليه زيادةً في توثيق عقد الدين وحِرْصاً على حِفْظ الحقوق من النُّكران وذلك بطلب رَجُليْن شاهِدَيْن عَدليـْْن، فإذا تعذر وجودهما فليقم مقامهما رَجُلٌ وامرأتان من الذين يُرتضى وضعهم الاجتماعي وسيرتهم الحَسَنة ويقولون الحق. والحكمة في أن المرأتيْن تقومان مقام رجل واحد في الشهادة هي خشية أن تخطئ أو تنسى إحداهما، فتذكرها الأخرى، والسبب في خطئها أو نِسيانها هو قِلة مزاولتها للشؤون المالية، لأن أكثر وقتها يكون في تدبير منزلها، أما اشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية فلا يُغـيِّـِر الحكم، لأنَّ الأحكام إنما هي للأغلب، كما أن بعض النساء تغلب عليهنّ العاطفة مما يبعدهُنَّ عن جادة الحقّ فتذكرها الأخرى، )ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعوا( أي ولا يمتنع الشهود عن الشهادة أمام القاضي إذا ما طلبوا لأداء الشهادة، لأن ترك الشهادة أو كِتمانها يُفضي إلى تضييع الحقوق.

7- ولا تملوا من كتابة الديْن سواء أكان الديْن كبيراً أم كان صغيراً إلى وقت حلوله الذي أقرّ به المدينُ، ولأن إهمال كتابة الديْن الصغير يُؤدي إلى جحوده وعندئذٍ تذهب الثقة، وإذا ذهبت الثقة ساد التنازع، وتلك الوصايا التي أمرنا الله بها هي الأعدل عنده، وأقرب طريق للإثبات وأقرب إلى انتفاء الريب والشكوك في جنس الديْن وقدْره وأجل استحقاقه.

8- واستثنى القرآن التجارة الحاضرة بقوله )إلا أن تكون تجارةً حاضِرة تديرونها بينكم فليس عليكم جُناح ألا تكتبوها( فالتجارة يجري فيها التقابض في المجالس أو يتأخر فيها الأداء زمناً  يسيراً، وسميت حاضِرة لأن المبيع والثمن، كلاهما حاضِرٌ، ووُصِفت بأنها تدور لأن هذا يُعطي وذاك يأخذ، وأمثال هذه التجارة لا يُتوقع فيها التنازع أو النسيان )وأشهدوا إذا تبايعتم( أمر الله بالإشهاد على البيع.

9- )ولا يُضارّ كاتبٌ ولا شهيد( أي لا يصح أن ينزل الضّرر بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق لأن ذلك معصية وخروج عن طاعة الله )واتقوا الله( أي خافوه وراقبوه في فِعْل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه )ويُعلِّمكم الله( أحكام دينكم وما تحتاجون إليه لمصالحكم )والله بكل شيء عليم( يعلم أعمالكم ويُحصيها عليكم ليجازيكم عليها(21).

فأي نص هذا الذي يجمع كل هذه التفاصيل الصغيرة والكبيرة لحفظ حقوق المتعاملين المالية: دائن أم مدين على أساس من المنطق السليم وإثبات العدل مع البعد عن الريب والشكوك في جنس الدين وقدره وأجل استحقاقه وتبيان نوع التعامل إن كان تجارة أم لم يكن أعظم من هذه الآية؟ وهل يستطيع هذا النبي  rالذي لم يدخل “كليات الحقوق” أن يُقدم مثل هذه النصوص بمثل هذه البلاغة وهذا الإيجاز مع الروعة في الأسلوب وتأمين المصالح بالعدل أم أنه الإعجاز التشريعي من لدن حكيم خبير!!

____________________________________________

(1)   بقلم الدكتور محمد عبد الرحمن المرعشلي، أستاذ التفسير في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية- بيروت.

(2)   البقرة/ 43.

(3)   ابن منظور “لسان العرب” مادة (ز ك و) وانظر “معجم لغة الفقهاء” لقلعه جي الصفحة (208).

(4)   عفيف طبارة “تفسير سورة البقرة” الصفحة (58).

(5)   أبو الأعلى المودودي “نظام الحياة في الإسلام” الصفحة (71).

(6)   البقرة/ 275.

(7)   البقرة/ 279.

(8)   الروم/ 39.

(9)   النساء/ 160-161.

(10)      آل عمران/ 130.

(11)      البقرة/ 278-279.

(12)      راجع الصابوني “تفسير آيات الأحكام” (1/276).

(13)      البقرة/ 275.

(14)      القرطبي “الجامع لأحكام القرآن” (3/375).

(15)      وستأتي بعض أنواع البيوع المحرَّمة في أمثلة الإعجاز التشريعي في السُّنَّة.

(16)      طيّب: في صفة الله تعالى بمعنى المنزّه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب: الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث.

(17)      المؤمنون/ 51.

(18)      أخرجه مسلم.

(19)      الملك/ 15.

(20)      البقرة/ 282.

(21)      انظر كتاب “تفسير سورة البقرة” لعفيف طبارة الصفحة (384-385).