صلة الأرحام تطيل الأعمار

إعجاز نبوي

الشيخ الدكتور حمزة عيتاني*

47- العدد السابع والأربعون خريف 2018

الصحة وطول العمر، أمرٌ لطالما كان المحرك الاول عند بني آدم للسعي والتحقيق، وهو ما يسمى عند قدامى الفلاسفة بغريزة البقاء. ومنذ فجر التاريخ تنازع الخلق من البشر وغير البشر لأجل الصمود والبقاء، وحتى في عصرنا الحالي وبعد التقدم التقني والتكنولوجي في كافة ميادين الحياة، يتواصل البحث عن (إكسير الحياة) وإيجاد طريقة لإطالة العمر والفرار من الموت المحتم. ولم يتوانَ البعض عن استخدام الحلول السريعة العاجزة، كعمليات التجميل والشد التي لم تزد اصحابها إلا هرماً وكهولة.
ونطرح السؤال الاول، هل يحق للانسان أن يبحث عن طرق لإطالة العمر؟ وهل يتنافى هذا السعي مع أصالة القيم الاسلامية ؟ وهل من وصفات شرعية تعين على هذا الامر؟
وكي لا تعتري القارئ شبهة حول تعارض موضوع البحث عن سبل اطالة العمر مع القضاء والقدر، نوجز إجماع رأي أهل العلم بأن حتمية القضاء والقدر لا تتنافى مع وجوب السعي والأخذ بالاسباب لتحقيق مقاصد الشريعة وقد ذم الشرع الحنيف التواكل وعدم الأخذ بالاسباب.
ونطرح السؤال التالي، هل من أفعال وأعمال لها حيثية علمية مثبتة توافقت مع شرعنا الحنيف؟
فكما أن حنان الأم في الصغر يولد للطفل حياةً مستقرّة في الكبر، جاءت دراسات حديثة لتثبت أخطر من ذلك، أن العلاقات الاجتماعية والأسرية الجدية تطيل في العمر وأن الوحدة قاتلة وأن الانعزال هو أعلى سبب للوفاة المبكرة.
من أحدث الأبحاث حول الصحة الذهنية والنفسية دراستان:
أ‌- دراسة نشرت بتاريخ 27 تموز 2010، من اقتباس للدكتورة Holt lunsted smith TB، عن الصلة بين العلاقات الاجتماعية وبين معدل الوفيات، والتي أشرفت عليها المحررة الاكاديمية Carol Brayne من جامعة Cambridge في المملكة المتحدة. من خلال 148دراسة تشمل 308 849,مشتركا. (1)
ب‌- دراسة نشرت عام 2015 ، أطلقتها جامعة هارفارد الأميركية، قبل أكثر من 70 عاماً، ولا تزال الدراسة مستمرة ويجري تحديثها كل سنتين. يشرف عليها حالياً الدكتور روبرت والدنجر، Robert Waldinger, ، شملت 724 رجلاً قسموا إلى فئتين واحدة مرموقة اجتماعياً والأخرى من الطبقات الاجتماعية الفقيرة. (2)
أثبتت الدراسة الأولى أن الأضرار الناجمة عن تدني العلاقات الاجتماعية الجدية تعادل: تدخين 15 سيجارة في اليوم، او الإدمان على الكحول، وأكثرضررًامن عدم ممارسة الرياضة، وتؤدي إلى أضعاف أضرار السمنة.

وقال د هولت لونستاد: عندما يتصل شخص ما بمجموعة ويشعر بالمسؤولية تجاه أشخاص آخرين، فإن هذا الإحساس يدفعه إلى الاعتناء بنفسه وإلى عدم المخاطرة. وأن هناك العديد من المسارات التي يؤثر فيها الأصدقاء والعائلة على الصحة إلى الأفضل، بدءًا من اللمسة المهدئة إلى إيجاد معنى لوجوده في الحي الذي يقطن فيه.
وقال أيضاً: “نأخذ العلاقات كإنسان مسلّم به، نحن مثل الأسماك التي لا تلاحظ الماء”. “هذا التفاعل المستمر ليس مفيدًا نفسيًا فحسب بل أيضًا بشكل مباشر على صحتنا الجسدية”.
كما أثبتت الدراسة الثانية وبما لا يقبل الشك، بأن الحياة الصحية والسعيدة والمديدة لا علاقة لها بالثراء ولا بالشهرة ولا بالمكانة الاجتماعية ولا بالعمل الشاق المثمر، بل بالعلاقات الجيدة والمتينة بمن حول الانسان من والدين وأبناء وأرحام وأصدقاء، وأن عدد الأصدقاء لا يهم بقدر ما يهم صدق العلاقة ومتانتها وخاصة مع الشريك (الزوج او الزوجة). كما تبين أن العيش في جو من الخلافات وعدم الانسجام يضر بالصحة وينقص من العمر بحسب الاحصاءات. وأن العلاقات الطيبة تساعد المريض على تحمل الآلام وتخطي الأزمات.
كما تبين لفريق الباحثين، يقول د. والدينجر، أن العلاقات الجيدة لا تحمي أجسادنا فقط بل أدمغتنا أيضاً، فالسعداء يحتفظون بذاكرة جيدة، أما الذين ليس لديهم من يهتم بهم فإن ذاكرتهم تضعف بشكل متسارع (3). ويقول الدكتور والدينجر، أن الوحدة قاتلة وأكثر خطراً من التدخين والإفراط في شرب الكحول.

يبقى السؤال الأخير هل ذكر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم شيئاً في هذاالخصوص، فالكثير منا يأخذ كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم ويصدّقه عن محبة ودونما حاجة لأدلة علمية حديثة، وذلك من لب الايمان، ومع ذلك تأتي الابحاث من أصقاع الارض لتثبت لنا أنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو الا وحي يوحى. فقد ارشدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وحثنا على ضرورة صلة الارحام وبر الوالدين وحسن التعامل مع الناس، ولم يكتفِ بذلك فقط بل أطلعنا على الثمار الدنيوية التى نحصدها من تلكم الاوامر، والتي لا يمكن للعقل البشري في ذلك العصرحتى التكهن بمثل ما جاء به، ففي البيئة الصحراوية القاسية التى كان كبار قومها يتباهون بوحشيتهم ووأد بناتهم الصغار، وكان الظلم هو الاساس في العلاقات الاجتماعية حيث أنشد الشاعر (ومن لا يظلِم الناسَ يُظلَمِ)، أتى الصادق المصدوق ليعلّم الناس ويحثهم على البر وصلة الارحام كما ورد في جملة من الاحاديث ومنها عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- ” أنّ رجلًا قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرْني بعملٍ يُدْخِلُني الجنةَ، … قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: …، تَعْبُدُ اللهَ ولا تُشْرِكْ به شيئًا، وتُقِيمُ الصلاةَ، وتُؤْتِي الزكاةَ، وتَصِلُ الرَّحَمَ”(4)، فقرن صلة الرحم الاجتماعية بعبادة الله العقائديّة. ولم يكتفِ بذلك بل أخبر بأن قاطع الرحم مقطوع عن الرحمة، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرحمُ معلَّقةٌ بالعرشِ تقولُ: من وصلني وصله اللهُ، ومن قطعني قطعه اللهُ (5).

كما حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلة البر مع الناس، قال عليه الصلاة والسلام: “حق المؤمن على المؤمن ست خصال أن يسلّم عليه إذا لقيَه، ويشمّته إذا عطس، وإن دعاه أن يجيبه، وإذا مرض أن يعوده، وإذا مات أن يشهده، وإذا غاب أن ينصح له”(6) . وللجار كذلك حقوق.
لم يقف الأمر عند البر وأعمال الود والخير التي يمكن أن ينفذ إليها أي متبصر حكيم، ولكنه توصّل إلى أن يعين الآثار البعيدة المدى للبر بطول العمر (تماماً كما خلصت إليه الدراستان المذكورتان)، فعن أنس بن مالك ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سرَّه أن يُبسَطَ له رزقُه، وأن يُنسَأَ له في أثرِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه” (7) . قال شراح الحديث: (النسأ في الأثر هو التأخير في الأجل) (8) . وكما قال عليه الصلاة والسلام: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر (9).

فهذا أمر لابد أن يضع كل عاقل أمام مسؤليته ليتفكر ويعيد النظر كيف لبشر أن يدرك كل تلك الحقائق منذ ألف واربعمئة سنة. فمن أراد أن يطيل عمره ويبارك له في رزقه فليطع سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم.


*عضو منتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

(1): http://journals.plos.org/plosmedicine/article?id=10.1371/journal.pmed.1000316

(2): Over nearly 80 years, Harvard study has been showing how to live a … The Harvard Gazette, Dr. Robert Waldinger.

(3): What makes a good life. Try the following youtube: https://www.youtube.com/watch?v=8KkKuTCFvzI.

(4): رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي أيوب الأنصاري، حديث رقم: 1396.

(5): رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حديث رقم: 2555

(6): (م) 2162 , (خد) 991 , (خ) 1183 , (ت) 2737 , (س) 1938 , (د) 5030 , (حم) 8832، عن أبي هريرة.

(7): رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، حديث رقم: 2067. ومسلم حديث رقم 2557.

(8): الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/ 157).

(9): أخرجه الترمذي (2 / 20) والطحاوي في ” المشكل ” (4 / 169) وابن حيويه في” حديثه ” (3 / 4 / 2.