أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام

رضي الله عنه

عبد الله بن عمرو من بني سلمة من الخزرج وهو من كبار الخزرج كان يعدل في قومه مرتبة عبد الله بن أبي أُبَيْ بن سلول المنافق.

بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بْن كعب بْن سَلَمَة. ويكنى أَبَا جَابِر وأمه الرباب بِنْت قَيْس وكان لعبد الله بْن عَمْرو من الولد جَابِر شهِدَ العقبة وأمه أنيسة بِنْت عنمة. وشهد عَبْد الله بْن عَمْرو العقبة مع السبعين من الأَنْصَار وهو أحد النقباء الاثني عشر. وشهد بدْرًا وأحدًا وقتل يومئذٍ شهيدًا عَلَى رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة.

إسلامه الفوري:

قال كعب بن مالك الأنصاري: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة: أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم، أي الذي يقال له مسجد البيعة كما تقدم، وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا، وذلك في ليلة اليوم الذي هو يوم النفر الأول، قال: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، وكان من جملة المشركين أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام بفتح الحاء والراء المهملتين، سيد من ساداتنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة، فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بعد هدأة، يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا مستخفين، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بالتصغير، وهي أم عمارة من بني النجار، فلا زلنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا.(إذ كان قد سبقهم وانتظرهم، فلما لم يجيؤوا ذهب، ثم جاءهم بعد مجيئهم، والله أعلم). ومعه عمه العباس بن عبد المطلب: أي ليس معه غيره، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق به. (وكان معه أيضا أبو بكر وعليّ لأن العباس أوقف عليا على فم الشعب عينا له، وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا، فلم يكن معه عندهم إلا العباس).

بعد ليلة العقبة، قال كعب بن مالك: فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، أَقْبَلَتْ جِلَّةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَتًى شَابٌّ وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ جَدِيدَتَانِ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا لِتَسْتَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنَ الْعَرَبِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ، فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَحْلِفُونَ لَهُمْ باللَّه، مَا كَانَ مِنْ هَذَا مِنْ شَيْءٍ، وَمَا فَعَلْنَا، فَلَمَّا تَثَوَّرَ الْقَوْمُ لِيَنْطَلِقُوا قُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُشْرِكُهُمْ فِي الْكَلَامِ: يَا أَبَا جَابِرٍ- يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ ابن عَمْرٍو- أَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وَكَهْلٌ مِنْ كُهُولِنَا، لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمِعَهُ الْحَارِثُ، فَرَمَى بِهِمَا إِلَيَّ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَلْبَسَنَّهُمَا، فَقَالَ أَبُو جَابِرٍ: مَهْلًا أَحْفَظْتَ لَعَمْرِ اللَّهِ الرَّجُلَ- يَقُولُ: أَخْجَلْتَهُ- ارْدُدْ عَلَيْهِ نَعْلَيْهِ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَرَدُّهُمَا، فَأْلٌ صَالِحٌ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أسلبه(يقصد سلب قريش عزها بنصرة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم).

أبو جابر سيد القوم وقائد الحرب:

عند بيعة العقبة مما سأله العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: صِفُوا لِيَ الْحَرْبَ كَيْفَ تُقَاتِلُونَ عَدُوَّكُمْ؟ قَالَ فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ وَتَكَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ فَقَالَ: نَحْنُ وَاللَّهِ أَهْلُ الْحَرْبِ غُذِّينَا بِهَا وَمُرِّنَّا عَلَيْهَا وَوَرِثْنَاهَا عَنْ آبَائِنَا كَابِرًا فَكَابِرًا. نَرْمِي بِالنَّبْلِ حَتَّى تَفْنَى. ثم نطاعن بالرماح حتى تكسر بالرماح. ثُمَّ نَمْشِي بِالسُّيُوفِ فُنَضَارِبُ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا أَوْ مِنْ عَدُوِّنَا. فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنْتُمْ أَصْحَابُ حَرْبٍ فَهَلْ فِيكُمْ دُرُوعٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ شَامِلَةٌ.

قربه من النبي صلى الله عليه وسلم:

قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «جزى اللَّه عنّا الأنصار خيرا لا سيّما عبد اللَّه بن عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة»

عن إِبْرَاهِيم بْن أَبِي عبلة، قال: رأيت عَلَى رأس عَبْد اللَّهِ بْن حرام كساء، وقال: صليت مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلتين، صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، هَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ.

وروى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ” أكرموا الخبز، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سخر له بركات السماء والأرض “.

قال جابر: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةٍ، قَالَ جَابِرٌ: لَمْ أَشْهَدْ بَدْرًا، وَلا أُحُدًا، مَنَعَنِي أَبِي، فَلَمَّا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، لَمْ أَتَخَلَّفْ عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ قَطُّ.

لأنه كان لا يؤثر احداً من أهله على نفسه في الجهاد في سبيل الله ويوصي ابنه جابر بأخواته التسع إذا هو استشهد.

وقفته الشريفة في المسير إلى أحد:

أدلج رسول الله في السحر فحانت صلاة الصبح بالشوط» حائط بين المدينة وأحد، ومن ذلك المكان رجع عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثمائة رجل، وهو يقول: عصاني وأطاع الولدان ومن لا أرى له علما ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس فرجعوا، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر رضي الله عنهما، وكان في الخزرج كعبد الله بن أبي يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا بضم الذال المعجمة: قومكم ونبيكم: أي تتركوا نصرتهم وإعانتهم عندما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتالا وأبوا إلا الانصراف، فقال لهم: أبعدكم الله أي أهلككم الله أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه.

أول من أصيب:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ فِي أَوَّلِ مَنْ يُصَابُ غَدًا فَأَوْصِيكَ بِبَنَاتِ عَبْدِ اللَّهِ خَيْرًا.

كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو أَبِي الأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ. فكان أول قتيل جدعوا أنفه وأذنيه، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قبل الهزيمة. قتل مُحْتَسِبًا عَنْ تِسْعٍ مِنَ الْبَنَاتِ.

إستشهاده ودفنه:

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أُصِيبَ أَبِي وَخَالِي يَوْمَ أُحُدٍ فَجَاءَتْ بِهِمَا أُمِّي قَدْ عَرَضَتْهُمَا عَلَى نَاقَةٍ. أَوْ قَالَ عَلَى جَمَلٍ. فَأَقْبَلَتْ بِهِمَا إِلَى المدينة:

قالت عائشة خرجنا من السحر مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد نستطلع الخبر ..ثم مكثنا بعد ذلك فإذا بعير قد أقبل عليه امرأة بين وسقين قالت فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو بن الجموح(هند بِنْت عَمْرو بْن حرام)، فقلنا لها ما الخبر قالت دفع الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذ من المؤمنين شهداء ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ثم قالت لبعيرها حِلّ، ثم نزلت فقلنا لها ما هذا قالت أخي (عبد الله والد جابر) وزوجي.

فنادى منادي رسول الله. ص: ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ. قَالَ فَرُدَّا حَتَّى دُفِنَا فِي مَصَارِعِهِمَا.

وكان صلى الله عليه وسلم قال لها:”يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن”.

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَأَبْكِي وَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَنْهَوْنَنِي وَالنَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لا يَنْهَانِي.

[قَالَ وَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ بنت عمرو تبكي عليه فقال النبي. ص: تبكيه أَوْ لا تُبَكِّيهِ. مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ] .

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمَّا خَرَجَ لِدَفْنِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ قَالَ: زَمِّلُوهُمْ بِجِرَاحِهِمْ فَإِنِّي أَنَا الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ. مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسِيلُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ] . قَالَ جَابِرٌ: وَكُفِّنَ أَبِي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ وكان يقول. ص: أَيُّ هَؤُلاءِ كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى الرَّجُلِ قَالَ: قَدِّمُوهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ.

قبر الْأَخَوَيْنِ :

وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَجُلا أَحْمَرَ أَصْلَعَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَجُلا طَوِيلا فَعُرِفَا فَدُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. [وقال رسول الله. ص: ادْفِنُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو وَعَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الصَّفَاءِ. وَقَالَ: ادْفِنُوا هَذَيْنِ الْمُتَحَابَّيْنِ فِي الدُّنْيَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ] . وَكَانَ يُسمى قبرهما قبر الْأَخَوَيْنِ.

أَخْبَرَ مَالِكُ بْنُ أنس أن عبد الله بن عَمْرٍو وَعَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ كفنا في كفن واحد وقبر واحد.

حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء والشهداء:

قال جابر: فَجَعَلْنَا الاثْنَيْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَدَفَنْتُهُ مَعَ آخَرَ فِي قَبْرٍ فَلَبِثْنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ إِنَّ نَفْسِي لَمْ تَدَعْنِي حَتَّى أَدْفِنَهُ وَحْدَهُ فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنَ الْقَبْرِ فَإِذَا الأَرْضُ لَمْ تَأْكُلْ شَيْئًا مِنْهُ إِلا قَلِيلًا مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ. ومَا أَنْكَرْتُ مِنْهُ شَيْئًا (ما تغير عليّ) إِلا شَعَرَاتٍ كُنَّ فِي لِحْيَتِهِ مِمَّا يَلِي الأَرْضَ.

عَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَرَخَ بِنَا إِلَى قَتْلانَا يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ أَجْرَى مُعَاوِيَةُ الْعَيْنَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سنة لينة أجسادهم تتثنى أَطْرَافُهُمْ.

وَكَانَ قَبْرُهُمَا مِمَّا يَلِي الْمَسِيلَ فَدَخَلَهُ السَّيْلُ فَحُفِرَ عَنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا نَمِرَتَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ قَدْ أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي وَجْهِهِ فَيَدُهُ عَلَى جُرْحِهِ فَأُمِيطَتْ يَدَهُ عَنْ جُرْحِهِ فَانْبَعَثَ الدَّمُ فَرُدَّتْ يَدُهُ إِلَى مَكَانِهَا فَسَكَنَ الدَّمُ. قَالَ جَابِرٌ: فَرَأَيْتُ أَبِي فِي حُفْرَتِهِ كَأَنَّهُ نَائِمٌ وَمَا تَغَيَّرَ مِنْ حَالِهِ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ. فَقِيلَ لَهُ: فَرَأَيْتَ أَكْفَانَهُ؟ قَالَ: إِنَّمَا كُفِّنَ فِي نَمِرَةٍ خُمِرَ بِهَا وَجْهُهُ وَجُعِلَ عَلَى رِجْلَيْهِ الْحَرْمَلُ فَوَجَدْنَا النَّمِرَةَ كَمَا هِيَ وَالْحَرْمَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى هَيْئَتِهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. فَشَاوَرَهُمْ جَابِرٌ فِي أَنْ يُطَيَّبَ بِمِسْكٍ فَأَبَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَقَالُوا: لا تُحْدِثُوا شَيْئًا. وَحُوِّلا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَنَاةَ كَانَتْ تَمُرُّ عَلَيْهِمَا. وَأُخْرِجُوا رِطَابًا يَتَثَنَّوْنَ.

منزلته بين يدي الله عزّ وجلّ:

قَالَ جابر: نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ” مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا مُهْتَمًّا؟ “، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُتِلَ أَبِي وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالا، فَقَالَ: ” أَلا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، سَلْنِي أُعْطِكَ “، قَالَ: ” أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً! قَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ لا يَرِدُونَ إِلَيْهَا وَلا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، أَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ}

إهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعوائل الشهداء:

لما أراد رضي الله عنه أن يخرج إِلَى أُحد دعا ابنه جابرًا، فَقَالَ: يا بني، إني لا أراني إلا مقتولًا فِي أول من يقتل، وَإِني والله لا أدع بعدي أحدًا أعز عليّ منك، غير نفس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِن عليّ دينًا فاقض عني ديني، واستوص بأخواتك خيرًا،

وبعد استشهاده قَالَ جابر: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقُلْتُ: إِنَّ أَبِي تَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا وَلَيْسَ عِنْدَنَا إِلا مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ فَلا يَبْلُغُ مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ سَنَتَيْنِ مَا عَلَيْهِ فَانْطَلِقْ مَعِي لِكَيْلا يُفْحِشْ عَلَيَّ الْغُرَمَاءُ. قَالَ فَمَشَى حَوْلَ بَيْدَرٍ مِنْ بَيَادِرِ التَّمْرِ وَدَعَا ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَيْنَ غُرَمَاؤُهُ؟ فَأَوْفَاهُمُ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ مِثْلُ الَّذِي أَعْطَاهُمْ.

خاتمة:

من كبراء الأنصار توفي وعليه دين من كثرة ما آثر المهاجرين على نفسه وأنفق لدين الله، ولم يجد أثمن من نفسه يجود بها دفاعاً عن دين الله وحباً برسول الله. رضي الله عنه وأرضاه واكرم مثواه وفي الجنة نلقاه إن شاء الله.