جعفر بن أبي طالب

جعفر الطيار رضي الله عنه

مقدمة: هو جعفر بن أبي طالب، واسم أبي طالب: عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بْن قصي. وأم جعفر هي فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف بن قصي. وزوجته أسماء بنت عميس الخثعمية وكان لجعفر من الولد عبد الله وبه كان يكنى وله العقب من وُلِدَ جَعْفَر. ومحمد وعون لا عقب لهما. ولهم أخوة لأمهم أسماء هم محمد بن أبي بكر ومحمد بن علي بن أبي طالب.

وقال النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَشْبَهَ خَلْقُكَ خَلْقِي وَأَشْبَهَ خُلُقُكَ خُلُقِي فَأَنْتَ مِنِّي وَمَنْ شجرتي] .وعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي حَدِيثِ بِنْتِ حَمْزَةَ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي] .

إسلام جعفر:

روي أن أبا طالب رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليًا رضي اللَّه عنه يصليان، وعلي عن يمينه، فقال لجعفر رضي اللَّه عنه: صل جناح ابن عمك، وصل عن يساره، قيل: أسلم بعد بضعة وعشرين رجلاً والأرجح بعد واحد وثلاثين ، وكان هو الثاني والثلاثين، وأسلم جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلْ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دَارَ الأَرْقَمِ وَيَدْعُوَ فِيهَا.

هجرة جعفر وإخوانه إلى الحبشة:

لما اشتد أذى المشركين على من أسلم، قال جعفر رضي الله عنه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إئذن لي أن آتي أرضاً أعبد الله فيها لا أخاف أحداً، قال: قال فأذن له فيه، فقصد الحبشة وعبر البحر في سفينة ومعه حاطب بن أبي بلتعة. وولد محمد بن حاطب في السفينة يومذاك.

وعن أُم سَلَمة رضي الله عنها أنها قالت: لما ضاقت مكة، وأُوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفُتنوا، ورأَوا ما يُصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعَةٍ من قومه ومن عمِّه لا يصل إليه شيء ممّا يكره ومّا ينال أصحابَه – فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً ممَّا أنتم فيه» فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلماً.

هَاجَرَ جَعْفَرٌ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ. وَوَلَدَتْ لَهُ هُنَاكَ عَبْدَ اللَّهِ وَعَوْنًا وَمُحَمَّدًا. وكان جعفر أَمِيرَ المسلمين فِي الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ. وهاجر معه ثمانون رجلاً من الصحابة الكرام فيهم: عبد الله ابن مسعود وعبد الله بن عُرْفُطَة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى، وغيرهم.

مكر عمرو بن العاص بالمهاجرين في الحبشة وجواب جعفر:

قالت أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها: فلمّا رأت قريش أنّا قد أصبنا داراً وأمناً، غارُوا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجونا من بلاده وليردّنا عليهم. فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدَعُوا منهم رجلاً إلا هيؤوا له هدية على حدة، وقالوا لهما: إدفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلّموا فيهم، ثم إدفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردّهم عليكم قبل أن تتكلّموا فافعلوا. فقدما إِليه فلم يبقَ بِطْريق من بطارقته إلا قدَّموا إِليه هديته، فكلَّموه فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدلوا في دينكم. فبعثَنا قومُهم ليردّهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل. ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحبِّ ما يُهدون إليه من مكة الأدَم. فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك، إنَّ فتيةً منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجؤوا إلى بلادك، وقد بعثَنا إليك فيهم عشائرهُم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردّهم عليهم، فإنهم أعلى بهم عيناً، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك. فغضب ثم قال: لا، لعمر الله، لا أردّهم عليهم حتى أدعوهم، فأكلمهم وأنظُرَ ما أمرُهم؛ قوم لجؤوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليه، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعم عيناً.

ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم. فلما جاءهم رسوله إجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في الرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول – والله – ما علمنا ما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن.

فلما دخلوا عليه- وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله – سلّموا ولم يسجدوا له. فقال: أيها الرهْطُ، ألا تُحدُثُوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم؟ فأخبروني ماذا تقولون في عيسى؟ وما دينكم؟ أنَصارى أنتم؟ قالوا؛ لا. قال: أفيهود أنتم؟ قالوا: لا. قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا. قال: فما دينكم؟ قالوا: الإِسلام. قال: ما الإِسلام؟

قالت أم سلمة: وكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب قال: أيها الملك، كنّا قوماً أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنَّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه. فدعانا إلى الله – عزّ وجلّ – لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلَة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وشهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة. وأمرنا أن نعبد الله، لا نشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. – قالت: فعدّد عليه أُمور الإِسلام – فصدّقناه، وآمنا به واتّبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرم الله علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عزّ وجلّ، وأن نستحلّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث. فلمَّا قهرونا وظلمونا وشقُّوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إِلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قال جعفر رضي الله عنه: وأما التحية، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة: السلام، وأمرَنا بذلك، فحيّيناك بالذي يحيّي بعضنا بعضاً.

قالت ام سلمة: فقال النجاشي: هل معك ما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر رضي الله عنه: نعم. قالت: فقال له النجاشي: فاقرأه. فقرأ عليه صدراً من «كَهاياعص» . قالت: فبكى النجاشي حتى أَخْضَلَ لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تُلي عليهم. ثم قال النجاشي: إنَّ هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، إنطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد.

قالت أم سلمة: فلمَّا خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينّهم غداً أُعيِّبهم عنده بما استأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة – وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل، فإن لهم أرحاماً وإِن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عَبْدٌ. قالت: ثم غدا عليه، فقال: يا أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلُها؛ واجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: (والله) ما عَدَا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقة حوله حين قال ما قال، (فقال) : وإن نخرتم والله إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي – والسيوم الآمنون -؛ من سبَّكم غرم، ثم (قال) : من سبَّكم غَرِم، ثم (قال) من سبَّكم غَرِم، ما أحبُّ أن لي دَبْراً ذهباً وأني آذيت رجلاً منكم – والدَّبْر بلسان الحبشة: الجبل – رُدّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فآخذ فيه الرشوة، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه. فخرجا من عنده مقبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءا به.

وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار، فوالله إنه لَعَلى ذلك إذ نزل به مَنْ ينازعه في ملكه. قالت: والله ما علمتنا حَزِنَّا (حزناً) قط كان أشد من حزن حزّناه عند ذلك؛ تخوفاً أن يظهر ذلك (الرجل) على النجاشي؛ فيأتي رجل لا يعرف من حقِّنا ما كان النجاشي يعرف. قالت: وسار النجاشي وبينهما عرضُ النِّيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ رجلٌ خرج حتى يحضر وقيعة القوم، ثم يأتينا (بالخبر) ؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. (قالوا: فأنت) قالت: وكان من أحدث القوم سنّاً. قالت: فنفخوا له قِربة فجعلها في صدره، فَسَبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله عزّ وجلّ للنجاشي بالظهور على عدوّه والتمكين له في بلاده (قالت: فوالله إن لَعَلَى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير وهو يسعى فلمع بثوبه، وهو يقول: ألا أبشروا فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه، ومكّن له في بلاده، قالت: فوالله ما علمتنا فرحنا فرحة قطّ مثلها. قالت ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده: واستوسق عليه أمر الحبشة فكنّا عنده، في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.وقيل أنه ولد للنجاشي ولد فسماه عبد اللَّه، فأرضعته أسماء حتى فطمته.

إسلام النجاشي:

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمْري رضي الله عنه إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم، وكتب معه كتاباً، جاء فيه:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إِلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدّوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيِّبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه، وإِني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والوالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإنِّي رسول الله. وقد بعثت إِليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرَّهم ودَعِ التجبُّر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ؛ وقد بلَّغتُ ونَصحتُ فاقبلوا نصيحتي. والسلام على من اتبع الهدى» .

فَأَخَذَ كِتَابَ رَسُولِ الله. ص. فَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ. وَنَزَلَ مِنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ تَوَاضُعًا. ثُمَّ أَسْلَمَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ وَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ آتِيَهُ لأتيته. وكتب إلى رسول الله. ص. بِإِجَابَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَإِسْلامِهِ. عَلَى يَدَيْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وجاء في كتاب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«بسم الله الرحمن الرحيم، إِلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحَم بن أبجر: سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إِله إِلا هو الذي هداني إِلى الإِسلام. فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فوربِّ السماء والأرض إِنَّ عيسى ما يزيد على ما ذكرت. وقد عرفنا ما بَعثت به إِلينا؛ وقَرَبنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صدقاً ومصدِّقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت إِليك – يا نبي الله – بأريحاً بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إِلا نفسي، وإِن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق» .

عودة جعفر والصحابة من الحبشة:

تعجل بعض الصحابة في العودة إلى المدينة بعيد الهجرة، ومنهم عبد الله ابن مسعود فشهد بدراً. وقدم جَعْفَر بْن أَبِي طالب وأهل السفينتين في اثنين وثلاثين رجلاً، مِن عند النجاشي وَالنبي صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ. وكانت خيبر قد فتحت، فالتزمه رسول الله (ضمه واعتنقه) وقبّل ما بين عينيه وقال: [ما أدري بأيهما أَنَا أسر بقدوم جَعْفَر أو بفتح خيبر؟]. وقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي خَيْبَرَ للقادمين من الحبشة. وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَيْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.

ولما رأى عمر بن الخطاب أسماء بنت عميس العائدة من الحبشة قال لها: (سبقناكم بالهجرة)، فشكت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

-ح:«ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان»، فكانت أسماء تقول: (ما من شيء من الدنيا أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم)، تقصد المهاجرين إلى الحبشة.

بقي جعفر صلة الوصل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين النجاشي إلى أن توفي، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَهْدَى مَلِكُ الرُّومِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُسْتَقَةً مِنْ سُنْدُسٍ فَلَبِسَهَا. فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يَدَيْهَا تَذَبْذَبَانِ مِنْ طُولِهِمَا. فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ مِنَ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: وما تعجبون منها؟ فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مِنْدِيلا مِنْ مَنَادِيلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا! ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فلبسها. فقال النبي. ص: إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا. قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: ابْعَثْ بِهَا إِلَى أَخِيكَ النَّجَاشِيِّ] .

استشهاد جعفر:

حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش لملاقاة الروم، أمّر عليه زيد بن حارثة وقال: إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ.

وبعد أن استشهد زيد بن حارثة طعنا بالرماح رحمه الله. أخذ اللواء جَعْفَر بْن أَبِي طالب فنزل عَن فرس لَهُ شقراء فعرقبها فكانت أول فرس عرقبت فِي الْإِسْلَام وقاتل حتى قتل. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وفي روايات الصحابة: لَمَّا أَخَذَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الرَّايَةَ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَمَنَّاهُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَكَرَّهَ لَهُ الْمَوْتَ فَقَالَ: الآنَ حِينَ اسْتَحْكَمَ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُمَنِّينِي الدُّنْيَا؟ ثُمَّ مَضَى قُدُمًا حَتَّى اسْتُشْهِدَ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نَعَى جَعْفَرًا وَزَيْدًا. نَعَاهُمَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجِيءَ خَبَرُهُمَا. نَعَاهُمَا وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.

فصلى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَعَا لَهُ ثُمَّ [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ. ص: اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ جَعْفَرٍ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ وَقَدْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَطِيرُ فِيهَا بِجَنَاحَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ حيث شاء من الْجَنَّةِ].

ضربه رَجُل مِن الروم فقطعه بنصفين. فوجد فِي أحد نصفيه بضعة وثلاثون جرحا ووجد فيما قِيلَ مِن بدن جَعْفَر اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح. ولم يجدوا طعنة واحدة من خلفه. ثُمَّ أخذ اللواء عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رحمه اللَّه. فاصطلح النّاس عَلَى خالد بْن الوليد فأخذ اللواء وانكشف النّاس فكانت الهزيمة. فتبعهم المشركون فقتل مِن قتل مِن المسلمين ورفعت الأرض لرسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَتَّى نظر إلى معترك القوم. فلما أخذ خالد بن الوليد اللواء [قال رسول الله. ص: الآن حمي الوطيس!] فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقوهم بالجرف. فجعل النّاس يحثون فِي وجوههم التراب ويقولون: يا فرار! أفررتم فِي سبيل اللَّه؟ [فيقول رسول الله. ص: ليسوا بفرار ولكنهم كرار إن شاء اللَّه!] .

وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله. ص: رَأَيْتُ جَعْفَرًا مَلَكًا يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ تَدْمَى قَادِمَتَاهُ. عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبي طالب. ع. أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: إِنَّ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلائِكَةِ] .

صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولاد جعفر:

-ح: إصنعوا لآل جعفر طعاماً فإن لهم ما يشغلهم. فصارت سنة.

قال عبد الله بن جعفر: أَمْهَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم آلَ جَعْفَرٍ ثَلاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ. ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ: لا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ. ثُمَّ قَالَ: ائْتُونِي بِبُنَيِّ أَخِي. فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرَاخٌ فَقَالَ: ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلاقَ. فَدُعِيَ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا فَقَالَ: أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ. وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ. فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي. قَالَ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَشَالَهَا وَقَالَ:«اللَّهمّ أخلف جعفرا في ولده». وقال عبد الله ابن جعفر: وكنا نلعب فمر بنا على دابة فقال: «ارفعوا هذا إليّ» » فحملني أمامه.

لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ عُرِفَ في وجه رسول الله الحزن، وأَرْسَلَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِلَى امْرَأَتِهِ أَنِ ابْعَثِي إِلَيَّ بُنَيَّ جعفر. فأتي بهم [فقال النبي. ص: اللَّهُمَّ إِنَّ جَعْفَرًا قَدْ قَدِمَ إِلَيْكَ إِلَى أَحْسَنِ الثَّوَابِ فَاخْلُفْهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ بِخَيْرِ مَا خَلَّفْتَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ] .

وعن ابن عمر، قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء فقال: «وعليكم السّلام ورحمة اللَّه وبركاته» . فقال الناس: يا رسول اللَّه، ما كنت تصنع هذا، قال: «مرّ بي جعفر بن أبي طالب في ملإ من الملائكة فسلّم عليّ» .

وعن ابن عباس: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ قال: «يا أسماء، هذا جعفر بن أبي طالب قد مرّ مع جبرائيل وميكائيل فردّي عليه السّلام» الحديث. وفيه «فعوّضه اللَّه من يديه جناحين يطير بهما حيث شاء» .

من فضائل جعفر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليُخرج إلينا العكَّة ليس فيها شيء فيشقها، فنلعق ما فيها.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا احتذى وَلا انْتَعَلَ وَلا رَكِبَ الْمَطَايَا وَلا لَبِسَ الْكَوْرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أفضل من جعفر. وعن أبي هريرة، قال: كان جعفر يحبّ المساكين، ويجلس إليهم، ويخدمهم ويخدمونه. فكان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وسلم- يكنيه أبا المساكين.

وبعد أن أحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء أرسل جعفراً إلى ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها يخطبها بعد أن توفي عنها زوجها أبو رهم وبعد أن وصفها له العباس عمه رضي الله عنه. فوكلت العباس بتزويجها وهو زوج أختها أم الفضل.

وكانت الطفلة أمامة بنت حَمْزَةَ رضي الله عنه (امها سَلْمَى بنت عميس أخت أسماء زوجة جعفر)، تطُوفُ بَيْنَ الرِّجَالِ إِذْ أَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِهَا فَأَلْقَاهَا إِلَى فَاطِمَةَ فِي هَوْدَجِهَا. قَالَ فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدُ بْن حَارِثَةَ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَأَيْقَظُوا النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ نَوْمِهِ. قَالَ: هَلُمُّوا أَقْضِ بَيْنَكُمْ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: ابْنَةُ عَمِّي وَأَنَا أَخْرَجْتُهَا وَأَنَا أَحَقُّ بِهَا. وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا (أسماء) عِنْدِي. وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي. فَقَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ قَوْلا رَضِيَهُ. فَقَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ وَقَالَ: الْخَالَةُ وَالِدَةٌ: فَقَامَ جَعْفَرٌ فَحَجَلَ حَوْلَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دار عليه. فقال النبي. ع: مَا هَذَا؟ قَالَ: شَيْءٌ رَأَيْتُ الْحَبَشَةَ يَصْنَعُونَهُ بِمُلُوكِهِمْ .

رحم الله جعفر بن أبي طالب ورضي عنه وأرضاه.