عبد الله ابن رواحة

رضي الله عنه

عبد الله بن رواحة: بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج. وأمه كبشة بِنْت واقد بْن عَمْرو بْن الإطنابة بْن عامر بْن زَيْد مناة بْن مالك الأغر.

كَانَ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ وكَانَ يُكْنَى أَبَا رَوَاحَةَ. وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ. وَهُوَ خَالُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَكْتُبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتِ الْكِتَابَةُ فِي الْعَرَبِ قَلِيلَةٌ. وكان ممن يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.

وَشَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ الْعَقَبَةَ مع السبعين من الأنصار وهو أحد النقباء الاثني عشر من الأنصار وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ. وَقَدَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ بَدْرٍ يُبَشِّرُ أَهْلَ الْعَالِيَةِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَالْعَالِيَةُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَخَطْمَةَ وَوَائِلٍ. وَاسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى الْمَدِينَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ الْمَوْعِدِ. وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَرِيَّةً فِي ثَلاثِينَ راكبا إلى أسير بن رازم الْيَهُودِيِّ بِخَيْبَرَ فَقَتَلَهُ. وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِلَى خَيْبَرَ خَارِصًا فَلَمْ يَزَلْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ استشهد بِمُؤْتَةَ.

ودَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْمَسْجِدَ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنٍ. مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخذ بزمام ناقته وهو يقول:

خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهْ … نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهْ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهْ

وطاف النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ وَمَعَهُ مِحْجَنٌ يَسْتَلِمُ بِهِ الرُّكْنَ إِذْ مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَرْتَجِزُ وَهُوَ يَقُولُ:

خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَن سَبِيلِهْ … خَلُّوا فَإِنَّ الْخَيْرَ مَعْ رَسُولِهْ

قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهْ … ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَن مَقِيلِهْ

وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهْ

وطَافَ معه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بِالْبَيْتِ وذلك فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ شَاعِرًا.

[قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: انْزِلْ فَحَرِّكْ بِنَا الرِّكَابَ.] قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ قُولِي ذَلِكَ. قَالَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اسْمَعْ وَأَطِعْ. وَقَالَ فَنَزَلَ وَهُوَ يَقُولُ:

يَا رَبِّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا … وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا … وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا

إِنَّ الْكُفَّارَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

[قَالَ: فقال النبي. ص: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ] . فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: مَرَرْتُ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ وَرَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جَالِسٌ وَعِنْدَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ. فَلَمَّا رَأَوْنِي نادوني: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ. فَعَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَعَانِي فَانْطَلَقْتُ نَحْوَهُ فَقَالَ: اجْلِسْ هَاهُنَا. فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُ الشِّعْرَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقُولَ! كَأَنَّهُ يتعجب لِذَاكَ. قَالَ: أَنْظُرُ فِي ذَاكَ ثُمَّ أَقُولُ. قَالَ: فَعَلَيْكَ بِالْمُشْرِكِينَ. وَلَمْ أَكُنْ هَيَّأْتُ شَيْئًا.

قَالَ فَنَظَرْتُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ فِيمَا أَنْشَدْتُهُ:

…يَا هَاشِمَ الْخَيْرِ إِنَّ اللَّهُ فَضَّلَكُمْ … عَلَى الْبَرِيَّةِ فَضْلا مَا لَهُ غِيَرُ

إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَعْرِفُهُ … فِرَاسَةً خَالَفَتْهُمْ فِي الَّذِي نَظَرُوا

وَلَوْ سَأَلْتَ أَوِ اسْتَنْصَرْتَ بَعْضَهُمُ … فِي جُلِّ أَمْرِكَ مَا آوَوْا وَلا نَصَرُوا

فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ … تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا

[قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ متبسما وقال: وَإِيَّاكَ فَثَبَّتَ اللَّهُ] .

و أُغْمِيَ عَلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ: وَا جَبَلاهُ وَا عِزَّاهُ. فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ جَبَلُهَا أَنْتَ عِزُّهَا؟ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: مَا شَيْءٌ قُلْتُمُوهُ إِلا وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْهُ.

وعاده رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ قَدْ حَضَرَ أَجَلُهُ فَيَسِّرْ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَضَرَ أَجَلُهُ فَاشْفِهِ. فَوَجَدَ خِفَّةً فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُمِّي تَقُولُ وَا جَبَلاهُ وَا ظَهْرَاهُ وَمَلَكٌ قَدْ رَفَعَ مِرْزَبَّةً مِنْ حَدِيدٍ يَقُولُ: أَنْتَ كَذَا؟ فَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَقَمَعَنِي بِهَا] .

فَلَمَّا استشهد لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ (اكتفت بالبكاء ولم تعدد مآثره).

بناء المسجد النبوي:

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وأبي الدرداء رضي الله عنهما ومعهما قصبة يذرعان بها المسجد، فقال: «ما تصنعان» ؟ فقالا: أآدنا أن نبني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنيان الشام، فيقسّم ذلك على الأنصار، فقال: «هاتياها» فأخذ القصبة منهما ثم مشى بها حتى أتى الباب فدحا بها، وقال: «كلا، ثُمام وخشيبات وظُلَّة كظلَّة موسى، والأمر أقرب من ذلك» قيل: وما ظلُّة موسى قال: «إذا قام أصاب رأسُه السقفَ»

محبته وغيرته على رسول الله:

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَذَاكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَالْيَهُودِ، فِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَقَفَ، فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمِ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ،…

سرعة امتثاله أمر نبيه:

أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: «اجلسوا» فجلس مكانه خارجاً عن المسجد حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله» .

جرأته وإيمانه :

كان أبو الدرداء رضي الله عنه فيما ذُكر – آخر داره سلاماً، لم يزل متعلَّقاً بصنم له وقد وضع عليه منديلاً، وكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يدعوه إلى الإِسلام فيأبى؛ فيجيئه عبد الله بن رواحة وكان له أخاً في الجاهلية قبل الإِسلام. فلما رآه قد خرج من بيته خالفه فدخل بيته، وأعجل إمرأته وإِنها لتمشط رأسها. فقال: أين أبو الدرداء؟ فقالت: خرج أخوك آنفاً. فدخل بيته الذي كان فيه الصنم ومعه القَدُوم فأنزله وجعل يقدده فِلْذاً فِلْذاً وهو يترجز سرّاً من أسماء الشياطين كلها، ألا كل ما يُدعى مع الله باطل. ثم خرج وسمعت المرأة صوت القَدُوم وهو يضرب ذلك الصنم، فقالت: أهلكتني يا ابن رواحة فخرج على ذلك فلم يكن شيء حتى أقبل أبو الدرداء إلى منزله، فدخل فوجد المرأة قاعدة تبكي شفقاً منه. فقال: ما شأنك؟ قلت: أخوك عبد الله بن رواحة دخل عليّ فصنع ما ترى. فغضب غضباً شديداً، ثم فكَّر في نفسه فقال: لو كان عند هذا خير لدفع عن نفسه. فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ابن رواحة فأسلم.

شغفه بذكر الله:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعالَ نؤمن بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجلغ فغضب الرجل فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يرحم الله ابن رواحة إنَّه يحب المجالس التي تتباهَى بها الملائكة» .

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيدي فيقول: تعالَ نؤمن ساعة، إن القلب أسرع تقلُّباً من القِدْر إذا استجمعت غليانها. وعند ابن عساكر عنه قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال لي: يا عُميرم اجلس نتذاكر ساعة، فنجلس فنتذارك، ثم يقول: هذا مجلس الإيمان، مَثَلُ الإِيمان مَثُلُ قميصك، بينا أنك قد نزعته إذا لبسته، وبينا أنك قد لبسته إذ نزعته، القلب أسرع تقلُّباً من القدر إذا استجمعت غليانها.

بكاء عبد الله بن رواحة لتذكُّره آيةً في شأن جهنم

كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه واضعاً رأسه في حجر امرأته، فبكى فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله عز وجل {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} (سورة مريم، الآية: 71) فلا أدري أنجو منها أملا؟ وفي رواية: وكان مريضاً.

تقواه وتعبده رضي الله عنه:

سئلت امرأة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، عن صنيعه فقالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلَّى ركعتين، وإذا دخل بيته صلَّى ركعتين لا يدع ذلك.

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ، إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ»

بعيد غزوة بدر:

بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل العالية (من نواحي المدينة) بشيرا بالنصر بعد المعركة.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟» قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قومك وأهلك إستبقهم واستأنِ بهم لعل الله أن يتوب عليهم. قال: وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذّبوك قرّبهم فاضربْ أعناقهم. قال: وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: يا رسول الله، أنظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم ناراً. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئاً.

علاقاته بيهود المدينة ويهود خيبر:

كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأتيهم كل عام، فيَخْرِصُها عليهم ثم يُضَمِّنهم الشطر. فشكَوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدَّة خَرْصه وأرادوا أن يرشوه. فقال: يا أعداء الله، تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من عِدَّتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم، وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.

في غزوة الخندق: خرج حيي بن أَخطب حَتَّى أَتَى كَعْب بن أَسد صَاحب بني قُرَيْظَة فَلم يزل يفتله حَتَّى بَايعه على ذَلِك ثمَّ بعث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة وَعبد الله بن رَوَاحَة وخوات بن جُبَير يستخبرون خبر كَعْب بن أَسد أهم على وَفَاء أم لَا فَمَضَوْا إِلَيْهِ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لَا عهد بَيْننَا وَبَين مُحَمَّد ثمَّ رجعُوا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه فَأَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بحذاء المشركين بضعا وَعشْرين ليلة. إلى أن فتح الله على المسلمين ورد الأحزاب وانصرف المسلمون للاقتصاص من بني قريظة.

سرية عَبْد اللَّه بْن رواحة إلى أسير بْن زارم :

ثُمَّ سرية عَبْد اللَّه بْن رواحة إلى أسير بْن زارم اليهودي بخيبر فِي شوال سنة ست من مهاجر رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالُوا: لما قتل أَبُو رافع سلام بْن أبي الحقيق أمرت يهود عليهم أسير بْن زارم فسار فِي غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وبلغ ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فوجه عَبْد اللَّه بْن رواحة فِي ثلاثة نفر فِي شهر رمضان سرا فسأل عَن خبره وغرته فأخبر بذلك. فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فأخبره فندب رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – النَّاسَ فانتدب لَهُ ثلاثون رجلا. فبعث عليهم عَبْد اللَّه بْن رواحة فقدموا عَلَى أسير فقالوا: نَحْنُ آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا لَهُ؟ قَالَ: نعم. ولي منكم مثل ذَلِكَ؟ وقالوا: نعم. فقلنا: أن رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بعثنا إليك لتخرج إِلَيْهِ فيستعملك عَلَى خيبر ويحسن إليك. فطمع فِي ذَلِكَ فخرج وخرج معه ثلاثون رجلا مِن اليهود مَعَ كل رَجُل رديف مِن المسلمين. حتى إذا كُنَّا بقرقرة ثبار ندم أسير فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن أنيس. وكان فِي السرية: وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت لَهُ ودفعت بعيري وقلت: غدرا أي عدو اللَّه! فعل ذَلِكَ مرتين. فنزلت فسقت بالقوم حتى انفرد لي أسير فضربته بالسيف فأندرت عامة فخذه وساقه وسقط عَن بعيره وبيده مخرش مِن شوحط فضربني فشجني مأمومة. وملنا عَلَى أصحابه فقتلناهم كلهم غير رَجُل واحد أعجزنا شدا. ولم يصب مِن المسلمين أحد. ثُمَّ أقبلنا إلى رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فحدثناه الحديث فَقَالَ: قد نجاكم اللَّه مِن القوم الظالمين!

في عمرة القضاء:

وصل النبي إلى مشارف مكة، عَلَى راحلته القصواء والمسلمون متوشحون السيوف محدقون برسول اللَّه – صَلَّى الله عليه وسلم – يلبون فدخل من الثنية التي تطلعه على الحجون وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام راحلته. فلم يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يلبي حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه. وطاف عَلَى راحلته والمسلمون يطوفون معه قد اضطبعوا بثيابهم. وَعَبْد اللَّه بْن رواحة يَقُولُ:

خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَن سَبِيلِهْ! … خَلُّوا فكل الخير مَعَ رسوله!

نَحْنُ ضربناكم عَلَى تأويله. … كما ضربناكم عَلَى تَنْزِيلِهْ.

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَن مَقِيلِهْ. … وَيُذْهِلُ الخليل عَن خليله!

يا رب إني مؤمن بقيله!

[فَقَالَ عُمَر: يا ابن رواحة إيها! فَقَالَ رَسُول الله. ص: يا عُمَر إني أسمع! فأسكت عُمَر وَقَالَ رسول الله. ص: إيهًا يا ابن رواحة! قَالَ: قل لا إله إلا اللَّه وحده نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده] . قَالَ فقالها ابن رواحة فقالها النّاس كما قَالَ.

محبة الصحابة له:

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هَلْ تَدْرِي لِمَ سَمَّيْتُ ابْنِي عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ قُلْتُ: لا. قَالَ: بِاسْمِ عبد الله بن رواحة.

نعاهم رسول الله قبل أن يجيء خبرهم:

فنعى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاس جَعْفَر بْن أبي طَالب وَزيد بْن حَارِثَة وَعبد اللَّه بْن رَوَاحَة قبل أَن يَجِيء خبرهم.

شوقه إلى الشهادة

وأخرج ابن إسحاق عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه في حِجْره، فخرج بي في سفره ذلك مُرْدِفي على حقيبة رَحْله، فوالله إنه ليسير ليلتئذٍ وهو يُنْشِد أبياته:

إذا أدنيتِني وحملت رَحْلي

مسيرة أربع بعد الحِساء

فشأنك أنعمٌ وخلاك ذمٌ

ولا أرجعْ إِلى أهلي ورائي

وجاء المسلمون وغادروني

بأرض الشام مستنهى الثواء

وردَّك كل ذي نَسَب قريب

إلى الرحمن منقطعَ الإِخاء

هنالك لا أُبالي طلع بَعْل

ولا نخل أسافلها رِواء

قال: فلما سمعتُهن منه بكيت، فخفقني بالدِّرة وقال: ما عليك يا لُكع أن يرزقني الله الشهادة؟ وترجع بين شعبتي الرَّحْل.

توقع الناس استشهاده:

دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عبد الله بن رواحة يوماً يعوده، فقال القوم: يا رسول الله، ما ظنناه يموت حَتَّى يقتل فِي سبيل الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” هَلْ تدرون من شهداء أمتي؟ ” فسكت القوم، فقالوا: من عقر جواده وأهريق دمه، فقال: ” إن شهداء أمتي إذا لقليل: المقتول شهيد، والغريق شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد، والنفساء شهيدة “.

استشهاده:

كَانَتْ مُؤْتَةُ فِي جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وفيها أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن قتل زيد فجعفر؛ وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» .

فتجهَّز الناس ثم تهيأوا للخروج؛ وهم ثلاثة آلاف. فلمّا حضر خروجهم ودَّع الناسُ أمراءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّموا عليهم، فلمّا وُدِّع عبد الله بن رواحة مع من وُدِّع بكى، فقالوا: ما يُبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: – والله – ما بي حبُّ الدنيا ولا صَبَابة بكم، ولكنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} فلست أدري كيف لي بالصَّدَر بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله، ودفع عنكم وردَّكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:

لكنني أَسأل الرحمن مغفرة

وضَرْبةً ذات فَرْغٍ تقذف الزَّبدا

أو طعنةً بيدَيْ حرّان مُجْهِزة

بحربة تُنْفِذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مرُّوا على جَدَثي

أرشَدَه الله من غازٍ وقد رَشَدا

ثم إنَّ القوم تهيأوا للخروج، فأتى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فودّعه، ثم قال:

فثبّت الله ما أتاك حَسَن

تَثْبيتَ موسى ونصراً كالذي نُصرا

إنّي تفرستُ فيك الخير نافلةً

الله يعلم أني ثابت البصر

أنت الرسول فمن يُحرم نوافلَه

والوجهَ منه فقد أزرى به القدر

ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيّعهم حتى إذا ودَّعهم وانصرف. قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:

خَلَف السَّلامُ على امرىء ودْعتُهُ

في النَّخل خيرَ مُشَيِّع وخليل

تشجيع ابن رواحة الناس على الشهادة

ثم مضَوا حتى نزلوا «معاناً» من أرض الشام، فبلغ الناس أن هِرَقْل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لَخْم وجُذام والقَيْن وبَهْراء وَبَليّ مائة ألف منهم، عليهم رجل من بَليّ، ثم أحد إراشة يقال له مالك بن زافلة. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على «مَعان» ليلتين ينظرون في أمرهم؛ وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمُدَّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فشجع الناسَ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وقال: يا قوم، – والله – إنَّ التي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون: الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلِقوا فإنَّما هي إِحدى الحُسْنَيَين: إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد – والله – صدق ابن رواحة.

فمضى الناس حتى إِذا كانوا بتُخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها «مَشارف» ، ثم دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: «مُؤتةَ» ، فالتقى الناس عندها. فتعبَّى لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عُذْرة يقال له قُطْبَة بن قَتادة رضي الله عنه، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عَباية بن مالك رضي الله عنه، ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة رضي الله عنه براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر رضي الله عنه فقاتل بها حتى إِذا ألحَمه القتال إقتحم عن فرس له «شقراء» فعقرها، فقاتل القوم حتى قتل، وكان جعفر أول رجل من المسلمين عَقَر في الإِسلام.

أبيات ابن رواحة عند القتال

فلما قتل جعفر رضي الله عنه أخذ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الراية، ثم تقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه يستحثها على الإقدام ويتردد بعض التردّد. [فَقَالَ رسول الله. ص: لَمَّا أَصَابَتْهُ الْجِرَّاحُ نَكَلَ فَعَاتَبَ نَفْسَهُ فَشَجُعَ فَاسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ.

أقسمت يا نفسُ لتنزِ لنَّهْ

لتنزِلِنَّ أو لتُكْرِهِنَّهْ

إن أجلبَ الناس وشدُّوا الرَّنَّة

ما لي أراك تكرهين الجنَّة؟

قد طال ما قد كنتِ مطمئنة

هل أنت إلا نُطفة في شَنَّة

وقال أيضاً:

يا نفسُ إن لا تُقتلي تموتي

هذا حِمامُ الموت قد صُلِيتِ

وما تمنيتِ فقد أعطيتِ

إن تفعلي فعلهما هُدِيتِ

يريد صاحبيه زيداً وجعفراً رضي الله عنهما، ثم نزل. فلما نزل أتاه ابن عمّ له بعَرْق من لحم، فقال: شُدّ بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسة، ثم سمع الحَطْمة في ناحية الناس. فقال: وأنت في الدنيا؟ ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ – وَإِنَّ عَيْنَىْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – لَتَذْرِفَانِ – ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ».

تردد ابن رواحة في القتال:

فلما أصيب القوم قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بلغني: أخذ الراية زيد بْن حارثة، فقاتل بها حتى قتل شهيدًا، ثم أخذها جَعْفَر، فقاتل بها حتى قتل شهيدًا، ثم صمت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أَنَّهُ قد كان في عَبْد اللَّهِ بْن رواحة ما يكرهون، ثم قال: أخذها عَبْد اللَّهِ بْن رواحة، فقاتل بها حتى قتل شهيدًا، ثم قال: لقد رفعوا في الجنة عَلَى سرر من ذهب، فرأيت في سرير عَبْد اللَّهِ ازورارًا عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عَبْد اللَّهِ بعض التردد، ثم مضى.

حاذق نبيه:

كان ابن رواحة رضي الله عنه مضطجعاً إلى جنب إمرأته، فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها، وفزت امرأته فلم تجده في مضجعه، فقامت وخرجت فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة، فقال: مَهْيَم؟ فقالت: مَهْيَم؟ لو أدركتك حيث رأيتك لَوَجَأْتُ بين كتفيك بهذه الشفرة قال: وأين رأيتني؟ قالت: رأيتك على الجارية، فقال: ما رأيتني، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب: قالت: فإقرأ، فقال:

أتانا رسولُ الله يتلو كتابَه

كام لاحَ مشهورٌ من الفجر ساطعُ

أتى بالهدى بعدَ العمى فقلوبُنا

به موقناتٌ أنَّ ما قال واقعُ

يبيتُ يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ

فقالت: آمنت بالله وكذَّبت البصر، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم.

الشعر في الإسلام مباح ومطلوب:

لمَّا نزلت {وَالشُّعَرَآء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (سورة الشعراء، الآية: 224) جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، قالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنَّاشعراء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم {إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قال: «أنتم» {وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} قال: «أنتم» {وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} (سورة الشعراء، الآية: 227) قال: «أنتم» .

في قيمة شعره:

قال ابن سيرين: انتدب لهجو رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المشركين من ذكرنا وغيرهم، فانتدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار: حسان، وكعب بْن مالك، وعبد اللَّه بْن رواحة، فكان حسان، وكعب يعارضانهم، مثل قولهم في الوقائع، والأيام، والمآثر، ويذكرون مثالبهم، وكان عَبْد اللَّهِ بْن رواحة يعيرهم بالكفر، وبعبادة ما لا يسمع، ولا ينفع، فكان قوله أهون القول عليهم، وكان قول حسان، وكعب أشد القول عليهم، فلما أسلموا وفقهوا كان قول عَبْد اللَّهِ أشد القول عليهم.

شعره:

عَنِ الْبَرَاءِ – رضى الله عنه – قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ – صلى الله عليه وسلم – يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشَّعَرِ وَهْوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ بن رَوَاحَةَ:

* «اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ ما اهْتَدَينَا … وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّينَا

* فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَينَا … وَثَبِّتِ الأَقَدَامَ إِن لاقَينَا

* إِنَّ الاعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَينَا … إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَينَا»         يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.