محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي

رضي الله عنه

فَارِسُ نَبِيِّ اللَّهِ.

مقدمة: هو فارس همام لم ينصفه المؤرخون ولم يفردوا له بحثاً خاصاً به، هو سيف مطواع بيد رسول الله لا يتردد ولا يكل ولا يمل. أخلص الحب وأخلص الخدمة ولم يطلب لنفسه مالا ولا منصباً، وبقي كذلك مع الخلفاء الراشدين إلى أن وقعت الفتنة فاعتزل كل شيء.

شجاع مقدام لا يخاف في الله لومة لائم. عمله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعادل في أيامنا هذه وظيفتي الشرطة العسكرية والاستطلاع، يحرس الجيش في الميدان ليلا ويكشف الطريق ويفتحها امام الجيش أثناء انتقاله، يلقي القبض على المجرمين، ويعاقب القتلة. كما كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم رسائله إلى القبائل.

كنيته أبو عبد الرحمن، وقيل أبو عبد الله، مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَدِيِّ بن مجدعة بن حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرٍو. وهو النبيت. ابن مالك، من الأوس وأمه أم سهم واسمها خليدة بنت أبي عبيدة من الخزرج.

مِنْ بَنِي حَارِثَةَ وحَلِيفٌ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ. كان مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رَجُلا شديد السمرة اصلع طَوِيلا، عَظِيم الجسم.

ولد قبل البعثة بحوالي 17 سنة وهو ممن سمي في الجاهلية محمدا. شهد بدرا وصحب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم هو وأولاده: جعفر، وعبد اللَّه، وسعد، وعبد الرحمن، وعمر. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أحاديث.

إسلامه:

أسلم مُحَمَّد بن مسلمة بالمدينة على يد مصعب بن عمير وذلك قبل إسلام أسيد بْن الحضير وسعد بْن معاذ. وكان عمره حوالي ثلاثين سنة. وآخى رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَيْنَ محمد بن مسلمة وأبي عبيدة بْن الجراح. (وفي ذلك دلالة على التماثل في مرتبتهما ومهامهما)، وشهد مُحَمَّد بدْرًا وأحدًا. وكان فيمن ثبت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يوم أحد حين ولّى الناس.

وشهد الخندق والمشاهد كلها مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ما خلا تبوك حيث استخلفه رسول الله على المدينة. وكان محمد فيمن قتل كعب بن الأشرف.

وبعثه رسول الله إلى القرطاء. وهم من بني أبي بَكْر بْن كلاب. سرية فِي ثلاثين راكبًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم – وبعثه أيضًا إِلَى ذي القصة سرية فِي عشرة نفر.

وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم كتبا إلى القبائل ويكتب في آخرها: كتب محمد بن مسلمة الأنصاري.

كان لمحمد بن مسلمة من الولد عشرة نفر وست نسوة (متتابعات). وقاتل معه بعض أولاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق وما بعدها.

كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ سَلُونِي عَنْ مَشَاهِدِ النبي. ع. وَمَوَاطِنِهِ فَإِنِّي لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْهُ فِي غَزْوَةٍ قَطُّ إِلا وَاحِدَةً فِي تَبُوكَ خَلَّفَنِي عَلَى الْمَدِينَةِ. وَسَلُونِي عَنْ سَرَايَاهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا سَرِيَّةٌ تَخْفَى عَلَيَّ إِمَّا أَنْ أَكُونَ فِيهَا أَوْ أَنْ أَعْلَمَهَا حِينَ خَرَجَتْ.

دوره في إجلاء بني قينقاع من المدينة: شوال س2ه

حين قتل بعض اليهود من بني قينقاع رجلاً مسلماً دافع عن امرأة مسلمة تحرش بها صائغ يهودي، طالب النبي بتسليم القتلة فرفضت بنو قينقاع الصاغة فحاصرهم واجلاهم من المدينة فتولى إخراجهم حليفهم في الجاهلية عبادة بن الصامت واما املاكهم واموالهم فكان الَّذِي ولي قبض أموالهم مُحَمَّد بْن مسلمة. وكان هذا أول خُمْسٍ خُمِّسَ بعد بدر.

محمد بن مسلمة قائداً لعملية خاصة: ربيع الأول س3ه

بعد غزوة بدر قام كعب بن الأشرف وهو عربي لأم يهودية بتأليب المشركين واليهود على النبي صلى الله عليه وسلم ونظم أشعارا ترثي قتلى المشركين في بدر وأشعارا تهتك في أعراض نساء المسلمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لكعب بن الأشرف فإنّه قد آذى الله ورسوله؟» فقام محمد بن مَسْلَمة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله قال: «نعم» . قال: فأذنْ لي أن أقول شيئاً. (أي أن يذكر النبي بسوء امام كعب حتى يطمئن عدو الله)، قال: «قل» . فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلا ما يُعْلِق به نفسَه. فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: «لم تركتَ الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول الله، قلت لك قولاً لا أدري هل أفي لك به أم لا. قال: «إنما عليك الجُهد» . ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع فريق العملية إلى بقيع الغرقد، ثم وجَّههم وقال: «إنطلقوا على إسم الله، اللَّهمَّ أعنهم» .

فأتى محمد بن مَسْلَمة كعب بن الأشرف فقال: إنّ هذا الرجل(يقصد النبي) قد سألَنا صدقة، وإنّه قد عنَّانا (أرهقنا)، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال كعب: وأيضاً – والله – لتَمَلُّنَّه، قال محمد: إنَّا قد اتّبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه. وقد أردنا أن تُسلِفَنا وسقاً أو وَسْقين، فقال: نعم، إرهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال: إرهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا؟ فيُسَبّ أحدهم فيقال رُهِنَ بوسق أو وسْقين، هذا عار علينا ولكن نرهنك اللأَمة – يعني السلاح – فواعده أن يأتيه ليلاً.

فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم. فقالت له إمرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. فقال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دُعي إلى طعنة بليل لأجاب – فدخل محمد بن مسلمة ومعه رجلين، فقال: إذا ما جاء فإنِّي قائل بشعره فأشَمُّهُ، فإذا رأيتموني إستمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه.

فنزل إليهم توشحاً (متبختراً)، وهو ينفخ منه ريح الطِّيب. فقال محمد: ما رأيت كاليوم ريحاً – أي أطيب – قال كعب: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب فقال: أتأذن لي أن أشمَّ رأسك؟ قال: نعم. فشمّه ثم أشَمَّ أصحابه. ثم قال: أتأذن لي قال: نعم. فلمّا استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغوا بَقيع الغَرْقد كبّروا، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلِّي. فلما سمع تكبيرهم كبَّر، وعرف أن قد قتلوه، ثم انتَهوا إِليه. فقال: «أفلحت الوجوه» فقالوا: ووجهك يا رسول الله. ورمَوا رأسه بين يديه، فحمد الله على قتله. فأصبحت يهودُ مذعورين، فأتَوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قُتل سيدنا غِيلَة. فذكَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه وما كان يحرِّض عليه ويؤذي المسلمين. فخافوا فلم ينطقوا.

دوره في غزوة أحد: شوال س3ه

في الليلة التي سبقت الغزوة، استعمل النبي صلى الله عليه وسلم على الحرس تلك الليلة مُحَمَّد بْن مسلمة فِي خمسين رجلا يطيفون بالعسكر. وفي صباح اليوم التالي شارك في المعركة ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينهزم.

دوره في غزوة بني النضير:س3ه

خَرَجَ رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يوم السبت فصلى فِي مسجد قباء ومعه نفر مِن أصحابه مِن المهاجرين والأنصار ثُمَّ أتى بني النضير فكلمهم أن يعينوه فِي دية الكلابيين اللذين قتلهما عَمْرو بْن أُميّة الضمري خطأً، فقالوا: نفعل يا أَبَا القاسم ما أحببت.

وخلا بعضهم ببعض وهموا بالغدر بِهِ. وَقَالَ عَمْرو بْن جحاش بْن كعب بْن بسيل النضري: أَنَا أظهر عَلَى البيت فأطرح عَلَيْهِ صخرة. فَقَالَ سلام بْن مشكم: لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم بِهِ وإنه لنقض العهد الَّذِي بيننا وبينه. وَجَاءَ رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الخبر بما همّوا فنهض سريعا كأنه يريد حاجة. فتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه فقالوا: أقمت ولم نشعر؟ قَالَ: [همت يهود بالغدر فأخبرني اللَّه بذلك فقمت] . وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – محمد بْن مسلمة أن اخرجوا مِن بلدي فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم بِهِ مِن الغدر وقد أجلتكم عشرا. فمن رئي بعد ذَلِكَ ضربت عنقه. فَجَاءَهُمْ مُحَمَّد بن مسلمة فَقَالَ لَهُم إِن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُركُمْ أَن تظعنوا من بِلَاده فَقَالُوا يَا مُحَمَّد مَا كُنَّا نظن أَن يجيئنا بِهَذَا رجل من الْأَوْس فَقَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: تَغَيَّرت القلوب ومحا الْإِسْلَام العهود فَقَالُوا نتحمل، فمكثوا عَلَى ذَلِكَ أياما يتجهزون وأرسلوا إلى ظهر لهم بذي الجدر واستأجروا مِن قبيلة أشجع إبلاً، فأرسل إليهم ابن أَبِي المنافق: (لا تخرجوا مِن دياركم وأقيموا فِي حصنكم فإن معي ألفين مِن قومي وغيرهم مِن العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون عَن آخرهم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم مِن غطفان). فطمع حيي بن أخطب فيما قَالَ ابن أبي فأرسل إلى رسول الله. صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نخرج مِن ديارنا فاصنع ما بدا لك). فأظهر رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – التكبير وكبر المسلمون لتكبيره وَقَالَ: حاربَت يهود. فصار إليهم النَّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير وعلي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يحمل رايته. واستخلف عَلَى المدينة ابن أم مكتوم. فلما رأوا رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قاموا عَلَى حصونهم معهم النبل والحجارة واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم. وخذلهم ابن أَبِي وحلفاؤهم مِن غطفان فأيسوا مِن نصرهم. فحاصرهم رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقطع نخلهم فقالوا: (نَحْنُ نخرج عَن بلادك). [فَقَالَ: لا أقبله اليوم ولكن اخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة]، (أي السلاح) . فنزلت يهود عَلَى ذَلِكَ. وكان حاصرهم خمسة عشر يوما. فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم. ويحملون خشب أبوابهم على بعيرهم. ثُمَّ أجلاهم عَن المدينة وولى إخراجهم مُحَمَّد بْن مسلمة.

وحملوا النساء والصبيان وتحملوا عَلَى ستمائة بعير. واستقبلهم يهود خيبر بالدفوف والمزامير والاهازيج ثم رحبوا بأغنيائهم وأهملوا فقراءهم فنزح هؤلاء إلى الشام.

كذلك بعد أن استسلم بنو قريظة: شوال س5ه

خان بنو قريظة العهد مع المسلمين خلال غزوة الأحزاب (الخندق)، فلما انهزم المشركون حاصر المسلمون بني قريظة إلى أن استسلموا. فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُحَمَّد بْن مسلمة فكتِّفوا ونُحُّوا ناحية وأخرِج النساء والذرية فكانوا ناحية.

سرية مُحَمَّد بْن مسلمة إلى القرطاء محرم س6 ه

ثُمَّ سرية مُحَمَّد بن مسلمة إلى القرطاء. خرج لعشر ليال خلون مِن المحرَّم سنة ست هجرية عَلَى رأس تسعة وخمسين شهرًا مِن مهاجر رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعَثَهُ فِي ثلاثين راكبا إلى القرطاء. وهم بطن مِن بني بَكْر مِن كلاب وكانوا ينزلون البكرات بناحية ضرية. وبين ضرية والمدينة سبع ليال. وأمره أن يشن عليهم الغارة. فسار الليل وكمن النهار وأغار عليهم فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم واستاق نعماً وشاء ولم يعرض للطعن. وانحدر إلى المدينة. فخمس رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ما جاء بِهِ وفض عَلَى أصحابه ما بقي فعدلوا الجزور بعشر مِن الغنم. وكانت النعم مائة وخمسين بعيرا والغنم ثلاثة آلاف شاة. وغاب تسع عشرة ليلة وقدم لليلة بقيت مِن المحرَّم.

إلقاؤه القبض على ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ الْحَنَفِيِّ وسوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:

جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، بثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ الْحَنَفِيِّ أَصَابَهُ بِنَخْلَةٍ فَأَسَرَهُ وَجَاءَ بِهِ، فَربطَه إِلَى سَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ فَقَالَ: «يَا ثُمَامُ، مَا تَظُنُّ أَنِّي فَاعِلٌ بِكَ؟» قَالَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تَسَلْ مَالًا تُعْطَهْ، ثُمَّ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَائِحًا فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ فَرَدَّ عَلَيْهِ جَوَابَهُ الْأَوَّلَ، كل ذلك والرجل يسمع مواعظ النبي في المسجد رغم أنفه وهو مربوط إلى السارية، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْلَقَهُ، فَخَرَجَ ثُمَامَةُ إِلَى الْمَنَاصِعِ فَاغْتَسَلَ وَرَحَضَ ثَوْبَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ كَتَبَ أَبُو ثُمَامَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَرْبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَادَّةُ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قِبَلِ الْيَمَامَةِ: أَمَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا يَأْتِيَنَّكُمْ طَعَامٌ وَلَا حَبَّةٌ مِنْ قِبَلِ الْيَمَامَةِ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى كَتَبُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ حَرْبٌ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي ثُمَامَةَ، أَنْ لَا تَقْطَعْ عَنْهُمْ مَوَادَّهُمُ الَّتِي كَانَتْ تَأْتِيهِمْ. فَفَعَلَ “.

سرية مُحَمَّد بْن مسلمة إلى ذي القصة ربيع الآخر س6ه

ثُمَّ سرية مُحَمَّد بْن مسلمة إلى ذي القصة فِي شهر ربيع الآخر سنة ست من مهاجر رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُحَمَّد بْن مسلمة إلى بني ثعلبة وبني عوال مِن ثعلبة وهم بذي القصة. وبينها وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا على طريق الربذة فِي عشرة نفر. فوردوا عليهم ليلا فأحدق بِهِ القوم. وهم مائة رَجُل.

فتراموا ساعة مِن الليل ثُمَّ حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم. ووقع مُحَمَّد بْن مسلمة جريحا فضرب كعبه فلا يتحرك. وجردوهم مِن الثياب. ومر بمحمد بْن مسلمة رَجُل مِن المسلمين فحمله حتى ورد بِهِ المدينة. فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَبَا عُبَيدة بْن الجراح فِي أربعين رجلا إلى مصارع القوم فلم يجدوا أحدا ووجدوا نعما وشاء فساقه ورجع.

قتاله في خيبر واستشهاد أخيه محمود: محرم س7ه

استشهد محمود بن مسلمة الأنصاريّ. أخو محمد يوم خيبر شهيدا حين دلى عليه مرحب رحى فأصابت رأسه فهشمت البيضة رأسه وسقطت جلدة جبينه على وجهه فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد الجلدة فرجعت كما كانت وعصبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب فمكث ثلاثة أيام ثم مات.

فجاء محمد بن مسلمة فقال يا رسول الله لم أر كاليوم، قُتِل محمود.

وكان لعلي بن أبي طالب ولمحمد بن مسلمة يوم خيبر مواقف بطولية بارزا فيها كبار فرسان اليهود فقتلوهم.

مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم:

كان محمد بن مسلمة في الأنصار كالزبير بن العوام في المهاجرين، يستعملهما في الشدائد وفي فرض هيبة الدين: كان لليهودي أبي الحقيق زعيم بني النضير كنز يخفيه، وكان ذَلِكَ الْمَالُ يسمى مَسْكَ الْجَمَلِ، ففي غزوة خيبر سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم كِنَانَةَ وحُيَيَّ من أحفاد أَبِي الْحُقَيْقِ عن الكنز فَقَالَا: أَنْفَقْنَاهُ فِي الْحَرْبِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَلَفَا لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: «بَرِئَتْ مِنْكُمَا ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إِنْ كَانَ عِنْدَكُمَا».

فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَهُمَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَالْآخَرَ إِلَى الزُّبَيْرِ، يُعَذَّبَانِ فَلَمْ يَعْتَرِفا بِشَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْكَنْزِ غُلَامًا مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: ثَعْلَبَةُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ كَالضَّعِيفِ فَقَالَ: لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أَرَى كِنَانَةَ يَطُوفُ كُلَّ غَدَاةٍ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ فَهُوَ فِيهَا. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تِلْكَ الْخَرِبَةِ فَوَجَدُوا فِيهَا ذَلِكَ الْكَنْزَ فَأَتَى بِهِ. فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا.

في عمرة القضاء:س7ه

لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه عليها مُحَمَّد بْن مسلمة. وقدم السلاح واستعمل عَلَيْهِ بشير بْن سعد. وأحرم رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِن باب المسجد ولبى والمسلمون معه يلبون. ومضى مُحَمَّد بْن مسلمة فِي الخيل إلى مر الظهران فوجد بها نفرا مِن قريش فسألوه فَقَالَ: هَذَا رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يصبِّح هذا المنزل غدا إن شاء اللَّه. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم. وخلف عَلَيْهِ أوس بْن خولي الْأَنْصَارِيّ فِي مائة رَجُل. وخرجت قريش مِن مكّة إلى رؤوس الجبال وخلوا مكّة.

في غزوة تبوك رجب س9ه

في غزوة تبوك جاء أبو بكر بماله كله 4000 درهم وجاء عمر بنصف ماله، وحمل العباس بن عبد المطلب، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالاً، وحمل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إليه مائتي أوقية، وحمل سعد بن عُبادة رضي الله عنه إِليه مالاً، وكذلك محمد بن مَسْلمة رضي الله عنه، وتصدَّق عاصم بن عدي رضي الله عنه بتسعين وَسْقاً تمراً، وجهّز عثمان بن عفّان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش،…

واستخلف رَسُول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى المدينة مُحَمَّد بْن مسلمة.

من علامات إيمانه وفضائله:

-عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأبو ذر وعبادة بن الصامت وأبو سعيد الخدري ومحمد بن مسلمة وسادس، على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم: وأما السادس فاستقاله فأقاله.

-عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِبَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَاسْتَمَعُ قِرَاءَتَيْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ سَلامَةَ بْنِ وَقْشٍ فَوَقَفَا يَسْتَمِعَانِ. قَالَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ. فَقَالا: مَا بِهَذَا مِنْ إِمَامٍ بَأْسٍ. فكَانَ يَؤُمُّهُمْ وَيُصَلِّي بِهِمْ وَهُوَ مُكَاتَبٌ.

-أخذ ابْنَ يامِينَ الْيَهُودِيَّ، يُعَذِّرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يعنف ويقبح بالكلام)، فِي قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فغضب محمد بن مسلمة وقال طالبا ممن حضر من المسلمين أن يناولوه سيفا: أَلَا سَيْفٌ، أَلَا سَيْفٌ؟ فَأَخَذَ السَّيْفَ، فغَيَّبُوا الْيَهُودِيَّ من وجهه.

-ورأى محمد بن مسلمة رضي الله عنه أضيافاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال: ألا تفرق هذه الأضياف في دور الأنصار، ونجعل لك من كل حائط قنواً (عنقود التمر يقال له قنو)، ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، فلما جد ماله جاء بقنوٍ فجعله في المسجد بين ساريتين، فجعل الناس يفعلون ذلك، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقوم عليه، وكان يجعل عليه حبلاً بين الساريتين، ثم يعلق الأقناء على الحبل، ويجمع العشرين أو أكثر، فيهش عليهم بعصاه من الأقناء فيأكلون حتى يشبعوا، ثم ينصرفون ويأتي غيرهم، فيفعل لهم مثل ذلك، فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك.

-وخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ: «مَنْ لِي مِمَّنْ يُؤْذِينِي وَيَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي؟» فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَتَلْتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَأَطَعْنَاكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: فَمَا بِكَ طَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا ابْنَ مُعَاذٍ، وَلَقَدْ عَرَفْتُ مَا هُوَ مِنْكَ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: إِنَّكَ يَا ابْنَ عُبَادَةَ مُنَافِقٌ تُحِبُّ الْمُنَافِقِينَ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: اسْكُتُوا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ فِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَأْمُرُنَا فَيَعْقِدُ أَمْرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 88]”.

-وعن سهل بن أبي حثمة، قال: رأيت محمد بن مسلمة يطارد امرأة ببصره على إجار، يقال لها: ثبيتة بنت الضحاك، أخت أبي جبيرة، فقلت: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فقال: نعم. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إذا ألقي الله عَزَّ وَجَلَّ في قلب رجل خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها “.

بعيد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق:

أن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن محمد بن مسلمة كسَرَ سيف الزبير رضي الله عنه، ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس واعتذر إليهم وقال: والله ما كنت حريصاً على الإِمارة يوماً ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغباً ولا سألتها الله في سرّ ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإِمارة من راحة؛ ولكني قلِّدتُ أمراً عظيماً ما لي به طاقة ولا يدٌ إلا بتقوية الله عزّ وجلّ، ولوددتُ أنَّ أقوى الناس عليها مكاني اليوم. فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به. وقال علي، والزبير – رضي الله عنهما -: وما غضبنا إلا لأنَّا أُخِّرنا عن المشاورة، وإنَّا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّه لصاحب الغار، وثاني إثنين، وإنا لنعرف شرفه وكِبَره، ولقد أمرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حيّ.

محمد بن مسلمة مع عمر رضي الله عنهما: علاقة نظيفة لا محاباة فيها ولا عداوة

استعمله عمر بْن الخطاب عَلَى صدقات جهينة، وهو كَانَ صاحب العمال أيام عمر، كَانَ عمر إذا شكي إليه عامل، أرسل مُحَمَّدا يكشف الحال، وهو الَّذِي أرسله عمر إِلَى عماله ليأخذ شطر أموالهم، لثقته بِهِ. بعثه عمر إلى عمرو بمصر، فقاسمه ماله.

-عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: توجَّهت إلى المسجد فرأيت رجلاً من قريش عليه حُلّة، فقلت: من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين. قال: فجاوزت فرأيت رجلاً من قريش عليه حُلَّة، فقلت: من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين. قال: فدخل المسجد فرفع صوته بالتكبير، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله الله أكبر، صدق الله ورسوله قال: فسمع عمر رضي الله عنه صوته، فبعث إليه أن إئتني. فقال: حتى أصلِّي ركعتين، فردَّ عليه الرسول يعزم عليه لمَّا جاء. فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: وأنا أعزم على نفسي أن لا آتيه حتى أصلِّي ركعتين، فدل في الصلاة. وجاء عمر رضي الله عنه فقعد إلى جنبه. فلما قضى صلاته قال: أخبرني عن رفعك صوتَك في مصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير، وقولك: صدق الله ورسوله ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، أقبلتُ أريد المسجد فاستقبلني فلان بن فلان القرشي عليه حُلّة؛ قلت: من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين. فجاوزت فاستقبلني فلان بن فلان القرشي عليه حُلّة قلت: من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين، فجاوزت فاستقبلني فلان بن فلان الأنصاري عليه حُلَّة دون الحلتين فقلت من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما إنكم سترون بعدي أثرة» ، وإني لم أحَبَّ أن تكون على يديك يا أمير المؤمنين: قال: فبكى عمر رضي الله عنه ثم قال أستغفر الله ولا أعود. قال: فما رُؤي بعد ذلك اليوم فَضَّلَ رجلاً من قريش على رجل من الأنصار.

-أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مَشْرَبة بني حارثة فوجد محمد بن مسلمة، فقال عمر: كيف تراني يا محمد؟ قال: أراك – والله – كما أحب وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قوياً على جمع المال، عفيفاً عنه، عَدْلاً في قَسْمه، ولو مِلْتَ عدَّلْناك كما يعدل السهم في الثِّقاب. فقال عمر رضي الله عنه: هاه وقال: لو ملت عدَّلناك كما يعدل السهم في الثقاب. فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا مِلْت عدَّلوني.

كان محمد بن مسلمة عند عمر مكلفاً بكشف الأمور المعضلة في البلاد، وهو كان رسوله في الكشف عن سعد بن أبي وقاص حين بنى القصر بالكوفة وغير ذلك.

فقد بلغ عمر بن الخطاب أنَّ سعداً – رضي الله عنه – إتخذ قصراً وجعل عليه باباً، وقال: إنقطع الصوت. فأرسل عمر محمد بن مسلمة رضي الله عن – وكان عمر إذا أحب أن يُؤتى بالأمر كما يريد بعثه – فقال: إئتِ سَعْداً وأحرق عليه بابه. فقدِم الكوفة، فلما أتى الباب أخرج زَنْده فاستورَى ناراً ثم أحرق الباب، فأُتي سعدٌ فأُخبر، ثم وُصِف له صفته، فعرفه. فخرج إليه سعد، فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: إنقطع الصوت. فحلف سعد بالله ما قال ذلك، فقال محمد: نفعل الذي أمرنا ونؤدِّي عنك ما تقول. وأقبل يعرض عليه أن يزوّده فأبى، ثم ركب راحلته حتى قدم المدينة. فلما أبصره عمر رضي الله عنه قال: لولا حسن الظن بك ما رأينا أنك أدَّيت، وذكر أنه أسرع السير، وقال: قد فعلتُ، وهو يعتذر ويحلف بالله ما قال فقال عمر: هل أمر لك بشيء؟ قال: (ما كرهت من ذلك إنَّ أرض العراق أرض رقيقة، وإنَّ أهل المدينة يموتون حولي من الجوع، فخشيت أن آمر لك فيكون لك البارد ولي الحار) أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يشبع المؤمن دون جاره» .

-بينا عمر رضي الله عنه نصف النهار قائلٌ في ظل شجرة وإذ أعرابية، فتوسمت الناس فجاءته، فقالت: إني مرأة مسكينة ولي بنون، وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان بعث محمد بن مسلمة ساعياً فلم يعطنا، فلعلك – يرحمك الله – أن تشفع لنا إليه، (قال) فصاح بِيَرْفَأ أن أدعُ محمد بن مسلمة. فقالت: إنه أنجح لحاجتي أن تقوم معي إِليه، فقال: إنه سيفعل إن شاء الله (فجاءه يرفأ) ، فقال: أجب، فجاء فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فاستحيت المرأة منه، فقال عمر: (والله) ما آلو أن أختار خياركم، كيف أنت قائل إذا سألك الله تعالى عن هذه؟ فدمعت عينا محمد (ثمَّ) ، فقال عمر: إنَّ الله بعث (إلينا) نبيه صلى الله عليه وسلم فصدَّقناه، واتبعناه، فعمل بما أمره الله (به) ، فجعل الصدقة لأهلها من المساكين حتى قبضه الله على ذلك؛ ثم استخلف الله أبا بكر فعمل بسنّته حتى قبضه الله، ثم استخلفني فلم آلُ أن أختار خياركم، إنْ بعثتك فأدِّ إليها صدقة العام وعامِ أوَّل وما أدري لعلي (لا) أبعثك، ثم دعا لها بجمل، فأعطاها دقيقاً وزيتاً وقال: خذي هذا حتى تلحقينا بخيبر، فإنا نريدها، فأتته بخيبر فدعا لها بجملين آخرين. فقال: خذي هذا فإن فيه بَلاغاً حتى يأتيكم محمد، فقد أمرته أن يعطيك حقَّك للعام وعام أول.

وشكا الصحابي الضحاك بن خليفة الأنصاري الأشهلي، وكان قد شهد أحدًا، شكا إلى عمر بعد أن نازع مُحَمَّد بْن مسلمة في الساقية، وارتفع إِلَى عمر، فقال عمر لمحمد بْن مسلمة: والله ليمرن بها ولو عَلَى بطنك.

رسول عثمان للتحقق من واليه في الكوفة:

وأجتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عُثْمَان رضي الله عنه، فَقَالُوا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أيأتيك عَن النَّاس الَّذِي اتانا قَالَ لَا وَالله مَا جَاءَنِي إِلَّا السَّلامَة قَالُوا فَإنَّا قد أَتَانَا وَأَخْبرُوهُ بِالَّذِي أسقطوا إِلَيْهِم قَالَ فَأنْتم شركائي وشهود الْمُؤمنِينَ فأشيروا عَليّ قَالُوا نشِير عَلَيْك أَن تبْعَث رجَالًا مِمَّن تثق بهم من النَّاس إِلَى الْأَمْصَار حَتَّى يرجِعوا إِلَيْك بأخبارهم فَدَعَا مُحَمَّد بن مسلمة فَأرْسلهُ إِلَى الْكُوفَة ليتحقق من حسن أداء واليها أبي موسى الأشعري. وَأرْسل أُسَامَة بن زيد غلى الْبَصْرَة وَأرْسل عمار بن يَاسر إِلَى مصر وَأرْسل عبد الله بن عمر إِلَى الشَّام وَفرق رجَالًا سواهُم فَرَجَعُوا جَمِيعًا قبل عمار فَقَالُوا أَيهَا النَّاس وَالله مَا أَنْكَرْنَا شَيْئا وَلَا أنكرهُ أَعْلَام الْمُسلمين وَلَا عوامهم وَقَالُوا جَمِيعًا الْأَمر أَمر الْمُسلمين أَلا أَن أمراءهم يقسطون بَينهم ويقومون عَلَيْهِم واستبطأ النَّاس عمارا حَتَّى ظنُّوا أَنه قد أغتيل فَلم يفجأهم إِلَّا كتاب من عبد الله بن سعد إِبْنِ أبي سرح يُخْبِرهُمْ أَن عمارا قد استماله قوم بِمصْر.

فتنة عثمان:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ لَمَّا أَقْبَلُوا مِنْ مِصْرَ يُرِيدُونَ عُثْمَانَ وَنَزَلُوا بِذِي خَشَبٍ دَعَا عُثْمَانُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَارْدُدْهُمْ عَنِّي وَأَعْطِهِمُ الرِّضَى وَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي فَاعِلٌ بِالأُمُورِ الَّتِي طَلَبُوا وَنَازِعٌ عَنْ كَذَا بِالأُمُورِ الَّتِي تَكَلَّمُوا فِيهَا. فَرَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ إِلَيْهِمْ إِلَى ذِي خَشَبٍ. قَالَ جَابِرٌ وَأَرْسَلَ مَعَهُ عُثْمَانُ خَمْسِينَ رَاكِبًا مِنَ الأَنْصَارِ أَنَا فِيهِمْ. وَكَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ أَرْبَعَةً: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُدَيْسٍ الْبَلَوِيَّ. وَسَوْدَانَ بْنَ حمران الْمُرَادِيَّ. وَابْنَ الْبَيَّاعِ. وَعَمْرَو بْنَ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيَّ. لَقَدْ كَانَ الاسْمُ غَلَبَ حَتَّى يُقَالَ جَيْشُ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ. فَأَتَاهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ كَذَا وَيَقُولُ كَذَا. وَأَخْبَرَهُمْ بِقَوْلِهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى رَجَعُوا. فَلَمَّا كَانُوا بِالْبُوَيْبِ رَأَوْا جَمَلا عَلَيْهِ مِيسَمُ الصَّدَقَةِ فَأَخَذُوهُ فَإِذَا غُلامٌ لِعُثْمَانَ فَأَخَذُوا متاعه ففتشوه فوجدوا في قَصَبَةً مِنْ رَصَاصٍ فِيهَا كِتَابٌ فِي جَوْفِ الإدارة فِي الْمَاءِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ أَنِ افْعَلْ بِفُلانٍ كَذَا وَبِفُلانٍ كَذَا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ شَرَعُوا فِي عُثْمَانَ. فَرَجَعَ الْقَوْمُ ثَانِيَةً حَتَّى نَزَلُوا بِذِي خُشُبٍ فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: اخْرُجْ فَارْدُدْهُمْ عَنِّي. فَقَالَ: لا أَفْعَلُ. قَالَ فَقَدِمُوا فَحَصَرُوا عُثْمَانَ.

شهادة حق لمحمد بن مسلمة رغم الظروف الصعبة:

وَلما جَاءَت الْجُمُعَة الَّتِي على أثر نزُول المصريين مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج عُثْمَان رضي الله عنه، فصلى بِالنَّاسِ ثمَّ قَامَ إِلَى الْمِنْبَر فَقَالَ يَا هَؤُلَاءِ الْغُزَاة الله الله الله فوَاللَّه أَن أهل الْمَدِينَة ليعلمون أَنكُمْ لملعونون على لِسَان مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فامحوا الْخَطَأ بِالصَّوَابِ فَإِن الله لَا يمحوا السيء إِلَّا بالْحسنِ فَقَامَ مُحَمَّد بن مسلمة فَقَالَ أَنا أشهد بذلك فَأَخذه حَكِيم بن جبلة (وهو من الغوغائيين)، فأقعده فَقَامَ زيد بن ثَابت أبغني الْكتاب فثار إِلَيْهِ من ناحيه أُخْرَى مُحَمَّد بن أبي متيرة فأقعده وَقَالَ فأقطع وثار الْقَوْم بأجمعهم فحصبوا النَّاس حَتَّى أخرجوهم من الْمَسْجِد وحصبوا عُثْمَان رضي الله عنه حَتَّى صرع عَن الْمِنْبَر مغشيا عَلَيْهِ فَاحْتمل وَأدْخل دَاره، وأنكر عثمان كونه كتب ذَلِك الْكتاب أرسل ذَلِك الرَّسُول وَقَالَ فعل ذَلِك دوني. ثم اعتزل محمد الناس بعد ذلك.

وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة:

عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً فقال: «يا محمد بن مسلمة جاهد بهذا السيف في سبيل الله، حتى إذا رأيت من المسلمين فئتين تقتتلان فاضرب به الحجر حتى تكسره، ثم كف لسانك ويدك ثُمَّ كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلاسِ بَيْتِكَ حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة» . فلما قتل عثمان رضي الله عنه وكان من أمر الناس ما كان؛ خرج إلى صخرة في فنائه فضرب الصخرة بسيفه حتى كسره.

عَنْ ضُبَيْعَةَ بْنِ حُصَيْنٍ الثَّعْلَبِيِّ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ رَجُلا لا تَنْقُصُهُ الْفِتْنَةُ شَيْئًا. فَقُلْنَا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيُّ. فَلَمَّا مَاتَ حُذَيْفَةُ وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ خَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ فَأَتَيْتُ أَهْلَ مَاءٍ فَإِذَا أَنَا بِفُسْطَاطٍ مَضْرُوبٍ مُتَنَحًّى تَضْرِبُهُ الرِّيَاحُ فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْفُسْطَاطُ؟ قَالُوا: لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. فَأَتَيْتُهُ فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكُ اللَّهُ أَرَاكَ رَجُلا مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ تَرَكْتَ بَلَدَكَ وَدَارَكَ وَأَهْلَكَ وَجِيرَتَكَ. قَالَ: تَرَكْتُهُ كَرَاهِيَةَ الشَّرِّ. مَا فِي نَفْسِي أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى مِصْرَ مِنْ أَمْصَارِهِمْ حَتَّى تَنْجَلِيَ عَمَّا انْجَلَتْ. فَاتَّخَذَ سَيْفًا مِنْ عُودٍ قَدْ نَحَتَهُ وَصَيَّرَهُ فِي الْجَفْنِ مُعَلَّقًا فِي الْبَيْتِ. وَقَالَ: إِنَّمَا عَلَّقْتُهُ أُهَيِّبُ بِهِ ذَاعِرًا.

بين معاوية وعلي:

كان من فضلاء الصحابة، وكان ممن اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفّين. وقال حذيفة في حقه: إني لأعرف رجلا لا تضره الفتنة، فذكره وصرّح بسماع ذلك من النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم.

وأرسل معاوية يطلب من كبار الصحابة في المدينة ممن سبق واعتزلوا الفتنة أن ينضموا إليه ويبابعوه، وممن قعد فِي الفتنة: سعد بْن أَبِي وقاص، وأسامة بْن زيد، وعبد اللَّه بْن عمر بْن الخطاب، ومحمد بن مسلمة. فكان جواب محمد بن مسلمة لمعاوية: (فإن تنصر عثمان ميتا فلقد خذلته حيا ولئن كنتُ أبصرتُ في الأمر خلاف ما تريد، فما خرجت بذلك من نعمة ولا صرت إلى شك، وإني لأدرى بالصواب منك).

وفاته: مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِالْمَدِينَةِ ولم يستوطن غيرها. وذلك فِي صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ(أمير المدينة في العهد الأموي).