الإسلام بين الجمال والجمالية – جمالية الدين عقيدة وعبادة وسلوكًا

الشيخ الدكتور وفيق حجازي[1]

 

إن الإسلام جمال كله ، وجمالية الإسلام لا تنفصم عراها عن أخلاقياته؛ لأنها تنبثق من تطبيق تلك القيم التي تبعث في النفس الطمأنينة والسعادة والهناءة والأمان ، والتي تتمثل في كل مفرق من مفارق الحياة ، بل وكل عمل وحركة وسكنة في حياة الأمة جماعات وأفرادًا.

وجمالية الإسلام هي ينبوع السعادة الحقة “خيرًا وفضيلة ، عدلاً ورحمة ، حبًا وصدقًا، طهرًا وعفافا”،بل هي ذروة سنام الدين من خلال تطبيق أحكامه في حياة الشعوب،لأنها هي الذوق الحضاري والرقي السني في تطبيق الإسلام من خلال أنموذجها الأول والأمثل لسان الوحي ورسول الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الإمام لكل خير، والمقدام في كل عمل بر،والموجه للهناءة والسعادة والأمان،وهذا ما يفترق به الإسلام عن غيره من التشريعات والقيم،فليس الإسلام شركة ربحية تجارية دعائية همها أن تكسب زبائنها وتربح منهم،وإنما هو رسالة عالمية يهدف لسعادة العالمين في حياتهم وبعد مماتهم؛ لأنه بآدابه وأخلاقه وقيمه وتعاليمه وأحكامه كشجرة باسقة الأغصان ثمرها طيب متنوع جماله ومتعدد مذاقه، ولكن أصله ثابت وفرعه في السماء، إذ إن المَصدر والمُصدِر واحد وهو الله تعالى من خلال الوحي بصنويه متلوه وغير متلوه، ولذلك كان الفارق كبيرًا والبون شاسعًا بين جمالية الإسلام وغيره كما هو الفارق بين الحقيقة والمجاز والطبيعة والصورة والواقع والخيال، ولأجل ذلك كانت هذه الجمالية مطلوبة في أداء المسلم شكلاً ومضمونًا ووجدانًا ومعنى ومبنى. وتأتي تلك الجمالية في الإسلام من خلال تطبيق أحكامه وآدابه وأسراره وآثاره لتطرق حياة الناس في سرهم وسيرهم وعلانيتهم وسكناتهم بل وسرائهم وضرائهم،وعليه نقول إن جمالية الإسلام لا تخرج عن جماله،لأن الله تعالى هو الجمال المطلق والكمال المحقق تعالى في عليائه وتنزه في كبريائه،وجمالية الدين هي بجعل الله له ذلك في علاقة المسلم بالله ثم بنفسه ثم بغيره من بني جنسه حتى الجمادات بل والخيال…

جمالية الدين عقيدة

إن الإيمان حينما يسكن القلب ويخالط كل مفصل من مفاصل الجسد ويأخذ بلبه ومجامعه، وينبغي أن يفرق بينجمالية الإسلام وبين النفاق فجمالية الإسلام متأصلة فيه ومتطبعة بذرات أحكامه لأنها نور يسكن القلب ويجمل الفعل ويترقى به ويزينه ، بينما النفاق دخيل ومتلون ومخادع وعقيم.

إن جمالية العقيدة في لمساتها الحانية التي تترك ذلك الأثر الروحي العميق على الوجدان والسلوك ،فتقف عند حدود أنها لا تبحث عن ذات الله لأنها لا تُدرَك وإنما عن آثار ذاته في خلقه وجماله وجلاله في مخلوقاته .

كلمة التوحيد : لا إله إلا الله محمد رسول الله

ولذلك كانت كلمة التوحيد في سرها العميق لا تدرك إلا من خلال استشعار وتخلل ومخالطة ذلك القلب الخاضع وجدانه لذات الله تعالى خضوعًا تامًا ، وعليه فبمجرد نطقها يتغير حال الشخص وذرات جسده ونفسه وروحه، والسبب أن اللفظ الدال على اسم الله العلم ذاتًا وصفات وأفعالاً شوق القلب وأخذ بمجامع الوجدان للانقياد والمراقبة التامة، وبنطق تلك الكلمة التي بها يخرج المرء من نار الغفلة والشرك إلى نور اليقظة والإيمان، يكون قد عبر إلى مرحلة عالية من اليقين العامر حبًا وشوقًا رغبة ورهبة خضوعًا وانقيادًا ، وبهذه الحقيقة العقدية لا يمكن للمسلم أن ينحرف أو ينجرف بعد أن عقد بيعة ورابطة وميثاقًا عظيمًا، ينتظر من خلاله بالحب والرغبة والرجاء والرهبة الأمر والنهي.

وبناء عليه فإن كلمة التوحيد ميثاق محبة وتفريد بين الخالق والمخلوق عنوانها المحبة لما رآه من صفات الجمال والجلال، فلزم أن يكون ذلك المؤمن الذي ألبس حلة التوحيد أول العابدين لله والعارفين به جل في علاه، فلغة التوحيد لغة المحبة لله ولعبادته، ولا يمكن لمحب أن يكتم حبه لأنه ستظهر آثاره انقيادًا وامتثالاً.

جمالية الدين عبادة

ولأنه لما كان حب العبد لله خالصًا كانت علامته وعنوانه العبادة التي لا يمكن للمسلم أن يؤديها إلا راغبًا بها لأنه يحمل صفة الانتساب للإيمان وبتطبيقها يترقى الى مقامات الحب والإنعام والامتنان لذلك كانت نسبة العبد الى الله سترًا وقربًا وأمنًا وأمانًا وسلامة . فكانت العبادات مواقيت لتحولات الزمن لأن الدنيا أوساخ، والوضوء نظافة لها، والحياة اتجاهات والقبلة وجهتها، وأنه أينما تولوا فثم وجه اللهفكانت القبلة مجمعًا لشتات ذلك القلب وكانت النية ثباتًا وقصدًا لله تعالى والوقوف في محراب الصلاة حج ومعراج لله تعالى في مناجاة لا تحدث بهذه الجمالية إلا من المخلوق لخالقه سبحانه وتعالى ، ويأتي رفع اليدين في تكبيرة الإحرام في خضوع وإيقان وأنه لا أبر من الله ولا أكبر وبوضع الأيدي بعضها على بعض تأكيد للبيعة مع الله وربط للقلوب إليه جل في علاه وتفريغ القلوب من الأحوال إلا لمحولها الغني الحميد وإشراقة للتجليات في الصلاة . فصلاة الفجر إعلام ببدء الحياة وإشراقها وبهاءها ونضارتها .

وإذا ما انتصف النهار وحان وقت الظهر فإيذان بانتصاف العمر وأنه وإن تساوى الزمن لكن الغلبة بطاعة الله ، وحينما تبدأ الشمس بالعصر والأفول تنبيه على أن الوداع والفراق قارب والإصلاح لزم؛ولأن المغرب إشعار بغروب الحياة وأنه لا عودة إلى ذلك الزمن المشرق فلا يعودزمن مضى ولا لحظة فاتت، وأن ما فات مات،ثم تأتي صلاة العشاء لتبدأ مرحلة الولوج على الله تعالى والحساب، وهكذا يدور فلك الصلاة العمر كله كي تتناثر مهجك إلى الله كل وقت وأنه إن فاتك وقت لم تقم بحقه فلن يعود ولا يقضى حقه، ومضى فراغًا وقت غال من عمرك ستندم عليه.

ومن هنا كانت تلك الجمالية في الإسلام لتقولب القلب المشوق إلى الله تعالى ولتروحن الروح في جمال ذلك الوجود وصفاء من الخالق الودود .

ويأتي الصوم ليعلمنا أن التعامل الحق هو مع الله الحق دون حيلة وتحايل،ففيه تجدد للحياة وارتقاء بالمشاعر ومحافظة على النفس وتقوية من العزيمة وتحصين من الملهيات المهلكة،وتطهير للنفس من شوائب ذلك العام الكامل والسنة المتخمة وتعتيق للروح من الخطايا ونزع عن كل خلق لا يمت للإسلام بصلة .

جمالية الدين سلوكًا

إن التخلق بخلق العبادات يظهر أثره واضحًا في حياة الناس وتعاملاته مع النفس وأهله،والناس من حوله إن كان في طريقه لا يتكبر على الناس، ويتخلق بخلق عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، ولا يصعر خده للناس ولا يمشي في الأرض مرحًا ويسعى في قضاء حوائج الناس يتواضع لهم ويشفق عليهم، يألم لآلامهم ولا يأنف عن مساعداتهم لأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن يأنف من أن يمشي في قضاء حاجة الطفل والأمَة بل والأرملة والمسكين وكان يأتي ضعفاء المسلمين، يزورهم يعود مرضاهم ويشيع جنائزهم ويسلم على صبيانهم ويدعو لهم ، لكنه لم يكن ليحابي أحدًا أو يداهنه أو يجامله أو يمالئه على حساب الدين، فلا يظلم ولا يحب الظلم من أحد، بل إنه إن كان في بيته كانت الرأفة والبشاشة واللطف والتلطف لا ينتقص من أحد ولا يسخر منه ويلتمس العذر للمخطئ.

إن من جمالية الدين التعامل بين المسلمين بعضهم مع بعض بلين الجانب وصدق الحديث وكرم الضيافة ولطافة الحديث وطلاقة المحيا وصفاء الضمير وبذل المعروف ونجدة الملهوف وتنفيس كربة المكروب فرحم الله امرءًا سمحًا إذا باع سمحًا إذا اشترى سمحًا إذا اقتضى والإسلام هو دين الجمالية ودين الحنيفية السمحة .

__________________________________________________

[1] استاذ مادة أصول الفقه في عدد من الكليات الشرعية، وخطيب ومفكر إسلامي.