التكنولوجيا هي رحمة من الله للإنسان

هارون يحيى*

التكنولوجيا هي رحمة الله للإنسان. كل الجزئيات التي تظهر أمامنا كل يوم هي أدلة على خلق الله. أي عين مدققة تراقب هذه الجزئيات عن قرب ستكتشف أن لها خصائص عجيبة للغاية. إخفاق بعض الناس عن رؤية هذا الخلق العظيم الذي يتعرضون إليه كل يوم، هو ناتج عمومًا عن إخفاق في النظر بدقة.

التكنولوجيا هي تصرف الإنسان في بعض المواد في هذا العالم طبقًا لغرض محدد. إذا نظرنا إلى المنتجات التقنية حولنا، سنرى أنها تعتمد كلها على المعادن، مثل الحديد، الرصاص، الزنك والألمنيوم أو أنها تعتمد على البلاستيك المنتج الثانوي من النفط. وما لم توجد هذه المواد وبالخصوص المعادن على الأرض وحيثما افتقد الإنسان الوسائل لاستغلالها لكان الحديث عن التكنولوجيا أمرًا مستحيلاً.

تدقيق المعاينة لبعض هذه المكونات يبين التركيبة العجيبة لهذه المواد التي تعودنا وجودها في حياتنا. في كتاب “قدر الطبيعة” الذي يصف كيف أن قوانين الطبيعة والمكونات في هذا الكون كلها مصممة خصيصاً للحياة البشرية يقول الاسترالي المشهور مايكل دنتن عالم الأحياء الجزئية بخصوص الحديد ما يلي:

“من بين جميع المعادن لا يوجد أكثر ضرورة في الحياة من الحديد…كان انجذاب ذرات الحديد إلى مركز الأرض البدائي، بفعل الجاذبية، هو ما أحدث الحرارة التي أدت بدورها إلى المفاضلة الكيميائية الأولية للأرض وإطلاق الغازات في الغلاف الجوي ومن ثم تشكيل الغلاف المائي…

ويواصل مايكل دانتن التأكيد على الأهمية البالغة للحديد الذي يعتبر ضروريًا لتنفس سليم وإلى عملية التمثيل الغذائي للإنسان.

“الحديد هو القادر بفضل ارتباطه الدقيق مع الأكسجين في الهيموغلوبين في الدم البشري على نقل الذرات، الأكثر شراسة عند تفاعلها، ضمن شكل متناغم وهو المزود الثمين للطاقة إلى الآلية التنفسية للخلية. حيث تستعمل طاقات الأكسجين لتغذية أنشطة الحياة.”

هذا يبين أن الحديد هو معدن ذو أهمية بالغة في كل مرحلة من مراحل الحياة انطلاقًا من التوازنات البدنية الأساسية لقدرتنا على استعمال الهواء الذي نتنفسه. ويقول دنتن:

“من دون ذرة الحديد لما كان هناك حياة ترتكز على الكربون في الكون، لا سوبرنوفا، لا تدفئة للأرض البدائية، لا غلاف جوي ولا مائي. لما كان هناك مجال مغناطيسي واق، لا أحزمة “فان ألن” الإشعاعية، لا طبقة الأوزون، لا معدن لصنع الهيموغلوبين في الدم البشري، لا معدن لترويض تفاعل الأكسجين ولا الايض المؤكسدة.”

منذ قديم الزمان، كان الحديد أهم عنصر في ممتلكات الحضارات. جاءت الظاهرة المعروفة بالصناعة بفضل الفولاذ الذي هو بدوره مزيج من الحديد والكربون. التكنولوجيا هي نتاج الصناعة. على سبيل المثال لولا الحديد لما زاد مستوى التكنولوجيا العالمية عن بعض الأدوات الخشبية. باختصار يُعد تواجد العنصر المعروف بالحديد، بكميات هائلة على الأرض، رحمة من الله إلى الكائن البشري والله تعالى لفت انتباهنا إلى هذا في القرآن، في السورة المعروفة بسورة “الحديد”: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} [الحديد25].

الذي {فيه بأس شديد ومنافع للناس}، هو الرحمة التي مكنت الكائن البشري من تطوير التكنولوجيا. ولهذا كل شيء مصنوع من الحديد والفولاذ، وهو عبارة عن حديد معزز بالكربون، إنه وسيلة نرى من خلالها الرحمة الإلهية من المباني ومختلف صناعات السيارات، الطائرات، الجسور، السكك الحديدية، ناطحات السماء والعديد من الأشياء الأخرى، وُجدت بفضل خلق الله للحديد الذي {فيه بأس شديد ومنافع للناس} وجعله على الأرض. وهنا، لا يجب أن ننسى أن الله قد منح الكائن البشري الأجسام، والعقول والإدراك الذي بواسطته يستخدم هذه الأدوات.

من الحديد المنصهر إلى أجهزة الكمبيوتر

عندما ندقق النظر في العناصر التي جعلت من استخدام التكنولوجيا المتطورة أمرًا ممكنًا على الأرض، يمكن للمرء أن يرى علامات فن الله الإبداعي في كل شيء.

يُعد التعدين نقطة البداية للتكنولوجيا وهو عملية صهر واشتعال المعادن ولكي يتم تنفيذ هذه العملية يستوجب وجود كل من المعادن المناسبة والوسائل التي بواسطتها نستطيع تذويب وتشكيل هذه المعادن.

تُعد النار من بين الوسائل اللازمة وفي هذا الخصوص يدلي دنتن التفسير التالي:

“إن قدرتنا على التعامل مع النار ليست بالقدرة الهينة لأنه لولا استعمال النار لما كان التقدم التكنولوجي أمرًا ممكنًا فمن خلال النار يأتي التعدين والأدوات المعدنية وأخيرًا المعرفة الكيميائية لأن المعادن هي الموصلات الطبيعية الوحيدة للكهرباء واكتشاف الكهرومغناطيسية والكهرباء وحتى تطور أجهزة الكمبيوتر كلها ناتجة في الأخير عن اكتسابنا القديم للنار”.

الظاهرة التي يشير إليها دنتن بالقدرة على التعامل مع النار هي في الواقع جعل النار تحت تصرف البشر من قبل الله. عندما نتناولها بطريقة علمية، فإننا نرى بأن النار لها التركيبة المناسبة تمامًا للحياة البشرية على الأرض تبدأ النار مع اشتعال الأجسام القابلة للاشتعال الأمر الذي يجعل الشيء قابلاً للاشتعال هو تواجد الكربون فيه عندما يتفاعل الكربون مع الأكسجين يطرحان كمية كبيرة من الحرارة التي نعرفها بالنار.

الأرض قد تتحول إلى كرة من اللهب في أي لحظة

غير أنه هنالك نقطة مهمة جدًا لا يجب أن تُنسى: يضم الأكسجين نحو 21% من الغلاف الجوي للأرض ويوجد الكربون داخل كل المخلوقات الحية، بما في ذلك أجسامنا بعبارة أخرى، توجد كل المواد التي تساعد على ظهور النار جنبًا إلى جنب في كل أنحاء العالم. فلماذا لا تتفاعل هذه الجزئيات مباشرة مع بعضها البعض؟ لماذا لا ينفجر كل شيء مباشرة إلى نيران؟

نظرة متعمقة في هذا السؤال ستدل على أنه هناك خلق مذهل تمامًا في النار نظرًا لميزاتها الكيميائية، فإن الأكسجين والكربون لا يتفاعلان ولا ينتجان النار إلا في درجات حرارة مرتفعة جدًا. لهذا فإنه يجب وجود درجة حرارة عالية لإشعال النار في مكان ما. عندما يقوم شخص ما بحك اثنين من العصي مع بعضهما البعض لإضرام النار، فإن ما يقوم به في الواقع، هو زيادة درجة الحرارة عن طريق الاحتكاك. فعند إشعال الكبريت، يجب حماية عود الثقاب بسرعة، بحكه على سطح خشن.

لولا وجود النار والعناصر المؤدية لها، لكانت الحياة على الأرض مستحيلة.

ينتج عن اتحاد الأكسجين والكربون مع ارتفاع طفيف في درجة حرارة الهواء لهب النار ويمكن لهذا اللهب أن يؤذي البشر والحيوانات والنباتات وعلى سبيل المثال، إي شخص يمشي وسط الصحراء، قد تشتعل فيه النيران، تمامًا مثل عود الثقاب، خصوصًا عندما يكون خارجًا في أشد أوقات اليوم حرًا. كما ستواجه النباتات والحيوانات نفس الخطر. وبالطبع سيكون من المستحيل الحديث عن حياة طبيعية في مثل هذا العالم.

ومن ناحية أخرى، إذا تطلب الأكسجين والكربون مستوى طفيف من الحرارة لكي يتفاعلا مع بعضهما، مما عليه في الواقع، فلن يستطيع البشر أبدًا إشعال النار. هكذا، ستكون النار بمثابة شكل أسطوري للطاقة، تحصل فقط كنتيجة صعق الغابات بالبرق.

تعطي كلاً من تركيبة الأكسجين والكربون الشكل المناسب للنار لكي يتم استعمالها من طرف الإنسان ويشير دنتن إلى أن هيكلة الإنسان البدنية (الأيدي، الأذرع، قدرة الحركة، حاسة البصر…الخ ) كلها مثالية لاستخدام النار. كما يؤكد كذلك على أن الأرض هي المحيط المثالي لإشعال النار:

“يعتمد استعمال النار على عوامل بيئة أخرى، كتواجد الخشب مثلاً، وكذلك الظروف المناخية الجافة نسبيًا.” خُلقت كل العوامل التي تُمكن من تطوير التكنولوجيا، بهياكل وقيم مثالية.

يشير الله إلى ذلك في القرآن، قائلاً لنا بأن مادة النار قد خُلقت خصيصًا: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون} [يس80]

الله هو خالق كل النعم

بالإضافة إلى قابلية النار للسيطرة عليها، فإن هنالك تصميم آخر مهم يجعل من عملية التعدين ممكنة تنصهر معادن الأرض وتأخذ شكلاً سائلاً في درجة حرارة تقدر النار على بلوغها. على سبيل المثال يتطلب الحديد درجة حرارة تبلغ 1535 درجة مئوية ليذوب. وهذا لا يكون ممكنًا إلا بنار قوية. فمستوى الحر المطلوب لتذويب الحديد مرتفع جدًا مقارنة مع الوقود الموجود على الأرض، وهذا ما أتاح لعلم كعلم التعدين أن يظهر. وبمشيئة الله سبحانه وتعالى منح الإنسان كل أنواع الوسائل ليخترع أعمالاً مذهلة.

وتتبعا لملخص مختصر للتطور العلمي للإنسان، يواصل دنتن التعليق قائلاً:

“لكن بالرغم من أن الرحلة كانت طويلة فان الأدلة توحي على نحو متزايد بأن النهاية لا شك فيها، اننا نتبع طريقًا رُسمت إلى نهاية متوقعة وأن نجاحنا لم يكن على الأقل مسألة احتمال لقد وُضعنا على طريق محددة سلفًا، انطلاقًا من اكتشاف النار إلى ولادة العلم، إلى إظهار مركزيتنا في نظام الطبيعة”.

تكشف كل هذه المعلومات المقدمة من مايكل دنتن، أستاذ الكيمياء الحيوية، مستعملاً مصطلحات علمية، أن المؤمن يتعلم من القرآن الكريم: أن الله خلق الأرض من أجل الحياة البشرية، وقد وضع الكيانات في الأرض تحت تصرف الإنسان ولقد أثراه بكل أشكال النعم.

كما يقول لنا ربنا في آيات من القرآن الكريم:

{الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار(32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار(33) وآتاكم من كلّ ما سألتموه وإن تعدوا نعمتَ الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار(34)} [سورة إبراهيم].

____________________________

* للراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع  www.harunyahya.com