الزواج المدني الاختياري

هل هو حلّ أم مشكلة؟

د. فتنت مسيكة برّ

خير ما استهل به كلامي هو قول الله عز وجل:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (سورة يس: 36).

    إن هذه الآية الكريمة تؤكد على ان الله سبحانه وتعالى قد خلق الكائنات جميعاً من إنسان وحيوان ونبات ومما لا نعلم على قاعدة الزوجية. ولمّا كان الزواج سنة من سنن الحياة التي أودعها الله في الإنسان منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم وحواء لتستمر بهما عمارة الكون عبر الأولاد والأحفاد، فقد كان للزواج في تاريخ البشرية نظريات وأعراف وتقاليد تختلف باختلاف الشعوب البدائية، والحضارات القديمة واقرّته الشرائع السماوية. وبذلك، فقد تعددت أنوع الزيجات من غير قيد يربطها، أو شرط ينظمها.

   غير أن الشريعة الإسلامية، قد أعارت مسألة الزواج عناية خاصة لأنها لا تقتصر على حياة الإنسان المسلم كفرد، بل تتصل بمستقبل المسلمين بعامة، اتصالها بحاضرهم ومستقبلهم من خلال هذا الفرد الذي تتم تنشأته وتربيته في إطار الأسرة المسلمة. لذلك تناولت الشريعة الإسلامية جزئيات الزواج في جميع مراحله بكل دقة وتفصيل: منذ ابان الخطبة وأثناء مرحلة الزواج، إلى انتهاء الحياة الزوجية إما بالطلاق أو بموت أحدهما. فوضعت له الأطر الصحيحة. وجعلت من مقوماته أن يتمّ برضى الطرفين بايجاب وقبول، وبحضور شهود من الأهل، ثم بالإشهار به أمام الناس حتى تستقيم هذه الحياة بالسعادة والأمن والإطمئنان.

   وظلّ الناس يتزوجون على  هذه الطريقة في البلاد العربية والإسلامية قروناً طويلة ولا أحد يوثق عقد الزواج بالكتابة أمام شيخ أو رجل دين.

  ألاّ أنه مع تطور الحياة الاجتماعية، وما رافقها من تغييرات مدنية وما شاع فيها من آراء فلسفية غربية، وتيارات فطرية إلحادية، وتغيير في العادات والتقاليد والأخلاق والقيم، اقتضت الضرورة بسبب هذه التطورات إلى أن يوثق عقد الزواج الشرعي على يد موظف منوط بهذه المهمة في المحاكم الشرعية حفاظاً على الحقوق والواجبات المنوطة بالزوجين، وما ينتج عنهما من مفاعيل أسرية تتعلق بالأولاد والطلاق والارث والبنوة والحضانة وغيرها من الأمور الناتجة عن هذه الزوجية.

الزواج المدني الاختياري ومراحله:

   وكذلك ومع تطور الحياة الاجتماعية شاع في لبنان طرح مشروع الزواج المدني بطرق عديدة من قبل أحزاب إلحادية وجمعيات مدنية وسياسية معنية بالشأن العام، وفي فترات زمنية متباينة. وهو قديم وحديث. أمّا قدمه، فإنه يعود إلى العام 1951، إذ طرح هذا المشروع ونوقش في البرلمان ثم رفض وسحب.

وفي عام 1960 بدأت جمعيات علمانية تطالب به من جديد. ولكنه قوبل بالرفض عبر التظاهرات التي جرت ضده.

   ثم عاد ليطرح من جديد عام 1975 يوم طرحه رجال قانون وقوبل بالرفض أيضاً، وفي عام 1998 وزّع رئيس الجمهورية الأسبق “الياس الهراوي” كتيباً تضمن مشروع قانون الأحوال الشخصية الاختياري.

   وقد نوقش هذا المشروع في مجلس الوزراء برئاسة الرئيس “رفيق الحريري” الذي رفض أن يقدمه إلى البرلمان للتصديق عليه أمام الرفض الشاجب من العلماء، وأمام المسيرات الشعبية المتعددة الرافضة له من كل أنحاء الوطن. لأن هذا المشروع يمس في جوهره أحكام الشرع الإسلامي، وفي أقدس مقدساته.

  وفي العام 2002 أعدت حركة حقوق الإنسان صيغة قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية. ولكن هذا القانون سحب ولم يناقش.

  وهكذا نرى أن هذا المشروع وإن سحب في كل مرة أمام الرفض العاصف الذي يهب في وجهه في كل مرة، إلاّ أنّ جذوته لم تنطفئ تماماً، وهي لا تزال مشتعلة تحت الرماد. لأنه “لم ولن يُطْوَ” على حد قول: “وليد صليبي”، أحد مؤسسي اللقاء المؤيد له، والذي عقد في أوتيل كارلتون في 24/4/1998 إذ قال:

  “إن الدعوة لحرية الاختيار من أجل قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية مفتوحة للجميع.

  “وإن الملف لم ولن يُطْوَ. وإن الاستقطاب مستمر. وهو يضم: “هيئات حزبية كبيرة أمثال: الاشتراكي والقومي والشيوعي والتيار الوطني الحر، والحركة الشعبية الديمقراطية، والحزب العلماني، وهيئات مدنية متنوعة الانتماء والإهتمام كحرية حقوق الإنسان، ولجنة حقوق المرأة، والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي وغيرها”.

  وقد عاد هذا المشروع حديثاً إلى حيويته والنقاش فيه فيما نشرته مؤخراَ جريدة النهار في 19/2/2013 تحت عنوان: أول زواج مدني في لبنان بين العروسين خلود سكرية ونضال درويش  أمام كاتب العدل في 10/12/2012. ثم تابعت الجريدة تقول: إن وزير الداخلية مروان شربل سيوقع على تسجيل أو عقد زواج مدني بين نضال درويش وخلود سكرية إدارياً وسيشترط الوزير عدم تغيير طائفتهما والتزامهما اتباع قانون الاحوال الشخصية القائم حالياً في كل ما يتعلق بمفاعيل هذا الزواج في حالات الإرث والطلاق حفاظاً على حقوقهما وحقوق أولادهما لحين صدور قانون مدني للأحوال الشخصية”.

ويتابع وزير الداخلية قائلا:”إن نضال وخلود سبق أن عقدا زواجهما الديني قبل إقدامهما على خطوة المدني”.

  وانه نظراً للخطورة وللأهمية الكبرى التي أثارها طرح الزواج المدني الاختياري مؤخراً في لبنان سواء أكان من حيث رفض المسلمين والمسيحيين له من ناحية، أو من حيث الترويج والتأييد له من العلمانيين من ناحية ثانية. لذلك، رأيت أنه لا بد من الإضاءة والتوضيح والمقارنة على بعض النقاط التي تتعلق بالأمور التالية:

1- التعريف بالزواج المدني الإختياري.

2- ما هي مقاصده ودوافعه التي يحتجون بها؟

3- ما هي أحكامه التي تتحرك خارج نهج مواد الزواج الشرعي والتي أثارت الرفض له.

4- ما هي سلبياته وما هي إيجابياته؟

5- وأخيراً هل هو الحلّ الأمثل للواقع الذي يأملون، أم هو مشكلة للحل الذي يقترحون؟

أولاً: التعريف بالزواج المدني الاختياري

   هو عقد ثنائي بين امرأة ورجل بالغين. يتمّ الرضا والقبول فيما بينهما على أن يقيما حياة زوجية مشتركة دائمة فيما بينهما باسم الحرية الشخصية، والحقوق الفردية التي يتمتعان بها فيما بين الذكور والإناث”.

من هنا ننطلق فنقول:

أ- أما الحرية الشخصية التي يروجون لها، فهي حرية متفلتة من أي ضابط يحدد مساحتها وينظم حدودها. لأنها تخضع أولاً وأخيراً إلى ارضاء مشاعر متحابيْن، وإلى إشباع نزوات عاشقين من دينين مختلفين كما يصرحون. صحيح أن الإنسان حرّ. ولكن كما نعلم أن الحرية مقيدة بقوانين مرعية في أي جانب من جوانب الحياة الكونية أو الاجتماعية والسياسية والمدنية منها والدينية، حتى تستقر الحياة على قواعد سليمة لا يعتريها التسيب أو الفوضى التي تنال أبسط مظاهر حياتنا اليومية.

ولنا مثال على ذلك القوانين التي تسنها الدولة لنا حفاظاً على الأمن العام.

ثانياً: الدوافع إلى اقتراح هذا القانون:

  أما الدوافع التي يحتجون بها لإقرار هذا المشروع فإنهم يقولون: إن إقرار مثل هذا القانون هو حلّ لمشكلات واقعية. لا سيما أن مثل هذا القانون يوفر على بعض المواطنين أعباء السفر إلى الخارج بغية عقد الزواج وفقاً لصيغ القوانين المدنية السائدة الخاصة بتلك البلد خاصة بالنسبة إلى الزواج والطلاق وإلى سائر الأحوال الشخصية من إرث ووصاية وغيرها.

   والردّ على هذه الحجة، إن قضية الزواج المدني الإختياري تدخل ضمن الدستور اللبناني الذي يضمن حريّة الرأي والمعتقد. لكن إقراره يتطلب وجود طائفة جديدة لا دينية. كما إنه يعتبر حلقة من حلقات العلمنة والإلحاد. لذلك هو مرفوض من رجال الدين مسلمين ومسيحيين:

1-من رجال الدين مسيحياً وكنسياً. لأن مقهوم الزواج في المسيحية، كما يقول الآباء على لسان، الأب جوزيف قزي في الاجتماع الذي عقد في كترمايا في 4/3/2013: “إن الزواج هو عقد وسرّ مقدس. وإن السيد المسيح قد رفعه ليصبح سراً من الأسرار السبعة في الكنيسة، ثم يتابع قائلاً:

“إن المؤمن المسيحي لا يستطيع أن يكون نصف مؤمن، وأن يستنسب وينتقي ويمارس واجباته الدينية كما يحلو له. وإذا كانت الدعوة إلى الزواج المدني هي دعوة إلى العلمنة، فيجب التنبّه لهذه الظاهرة الخطيرة”. ولذا، فهو مرفوض.

2-وكما أن هذا الزواج مرفوض كنسياً، فهو مرفوض أيضاً إسلامياَ. لان الإسلام ليس ملزماً البتة مواكبة ما يصدر من أحكام وضعية مهما كان مصدرها. وكما إنه ليس ملزما بإيجاد تبرير حقوقي لوضع من يرفض تشريعه، أو لا يؤمن به كدين سماوي.

فلا إكراه في الدين. فإمّا أن يكون المرء مسلماً مؤمناً بجميع تشريعاته. وإما أن لا يكون لأن الإسلام يأبى أن يُعبد الله على حرف. فضلاً عن أن هذا المشروع هو قائم على الحرية الشخصية الفردية التي هي في الأساس فكرة أنانية والحادية في مواجهة الأسرة في المفهوم الإسلامي أولاً،  وفي مواجهة المجتمع ككل ثانياً، فهو مرفوض حتماً.

ثانياً: يدّعون أن هذا القانون هو اختياري غير إلزامي:

  وفي قولهم هذا، عقدة العقد. إذ كيف يمكن أن يكون القانون ملزماً حكماً لجميع المواطنين من ناحية، وكيف يكون اختيارياً غير ملزم عملياً من ناحية ثانية؟! إن هذه التسمية تشويه وتمويه، كما أنها تشويق وترغيب؟ وهي كدسّ السمّ في العسل! وهي لذلك مرفوضة نصاً وقانوناً، وحكماً وتطبيقاً. فضلاً عن أن أحكام مواد قانونها للأحوال الشخصية تتعارض وتتنافى مع أحكام مواد الطائفتين اللتين ينتمي إليهما كلّ من الزوجين كما سنبيّن بعد قليل. بل أكثر من ذلك إنها تدعو للإنسلاخ عن عائلتيهما الكبيرتين التي تضم الآباء والأمهات والأبناء والأحفاد الذين يتمسكون بطائفتهم الدينية وبأحوالها الشخصية.

ثالثاً: يقولون: إن الزواج المدني غير الطائفي يسهم في تعزيز الإنصهار الوطني:

ونحن نقول: إن الإنصهار الوطني، والتآلف والتآخي بين المواطنين الذي يدّعون، لا يتم عن طريق الزواج المدني. ولا يرتكز على وحدة القضاء كما يروجون. إنما يقوم على إرادة العيش المشترك في البلد الواحد. والذي يتم عبر توحيد مناهج كتب التاريخ. والذي يترسخ عبر التربية المدنية الصحيحة التي تدعو إلى التسامح وإلى المحبة والإخلاص. وإلى قبول الآخر بين جميع المواطنين مسلمين ومسحيين. والتي تجد طريقها الصحيح في الوطن الواحد عبر المدارس الرسمية والخاصة على حدٍ سواء.

وأمّا في قولهم بالإنصهار الوطني فكأنهم يريدون أن يجعلوا من المواطنين ما يشبه قطع معادن كالنحاس أو الحديد. تصهرها نار الحب والعشق اللاهب في فرن الزواج المدني العالي الحرارة ليزيل كيانهم الإيماني ويحيلهم إلى مواطنين ملحدين لا دين لهم. فلا هم مسلمون ولا هم مسيحيون”.

مضامين هذا المشروع المخالفة للشرع الإسلامي

وبأنه، باستعراض أحكام الزواج المدني. مقارنة بالأحكام الشرعية، فإننا نجد مخالفات خطيرة لأحكام الشرع الإسلامي، نستعرض أهمها وأبرزها في المسائل الآتية: منع تعدد الزوجات ـ إلغاء شرط الدين في الزواج باسم المساواة ـ الطلاق بالتراضي ـ الهجر والعدة ـ إلغاء مانع اختلاف الدين في الإرث ـ البنوّة الشرعية والبنوة غير الشرعية ـ إباحة التبني ـ إباحة الزواج بين قرابات الرضاع… وغيرها كثير من الأمور.

 المادة 9 : عدم تعدد الزوجات

  شرعت هذه المادة من مشروع قانون الزواج المدني الاختياري لصحة عقد الزواج. أن لا يكون أحد طالبي العقد مرتبطاً بزواج قائم، وإلاّ أًعتبر باطلاً. في حين أن هذا الزواج يعتبر صحيحاً طبقاً للشريعة الإسلامية وما ذاك إلاّ لأن الإسلام قد عالج موضوع التعدد بحكمة وروية. وهو، وإن لم يبتدعه، ولم يُلغ العرف القائم به إلغاءً تاماً، ولم يُرغّب به، إلاّ أنه قيّد واشترط ما كان مطلقاً بما يحفظ كرامة الزوجين، وبما يحفظ حق نسب الاولاد، وبما يتفق ومصلحة الأسرة بشكل خاص، وبمصلحة المجتمع الإسلامي بشكل عام.

المادة 13: لا يعتبر مانعاً أمام الزواج اختلاف الدين أو المذهب باسم المساواة بين الذكور والإناث. وهذه المادة هي باختصار مدعاة إلى فتح أبواب “الزواج المختلط”، وهي ترمي بالدرجة الأولى إلى تشجيع زواج المسلمة من غير المسلم. على غرار زواج المسلم من كتابيَه وذلك باسم العدالة والمساواة بين الذكور والإناث، ونحن نقول:

   أ- إن زواج المسلم من كتابية لا يشكل اي مشكلة في الشرع الإسلامي. ذاك أن المسلم حينما يعقد على كتابية، فإنه يؤمن بحكم عقيدته برسالتي سيدنا موسى وعيسى عليهما السلام لقوله تعالى: {آمنَ الرَّسُولُ بما أُنزلَ إليْه من ربِّه، والمُؤمنون كل آمنَ بالله وملائكتَه وكتبهِ ورسله، لا نُفرق بين أحد من رُسُله}. (سورة البقرة آية: 285) فإيمان المسلم هذا، يحول دون إيذاء شعور زوجته الكتابية لأنه يلتقي معها على الإيمان بنبيّها الذي يجلّ أو يحترم. وتمارس شعائر دينها في البيع أو في ارتياد الكنائس، ولا أحد يكرهها على اعتناق دين الإسلام إلاّ إذا رغبت هي بذلك وفق قوله تعالى: {لا إكراه في الدين}.

   ب – أما عدم زواج المسلمة من كتابي، فإن الزوج غير المسلم لا يؤمن إصلاً بدين الإسلام، وينكر على زوجته المسلمة كتابها السماوي الذي تهتدي به، وتقدس أحكامه، وقد لا يجد هذا الزواج حرجاً في أن يتعرض غمزاً أو لمزاً أو مزاحاً لشعورها الديني، وربما يصل به الأمر من أن يمنعها من ممارسة شعائرها الدينية، فتجد نفسها عندئذ أمام أمرين أحدهما مرّ: فإما أن تدافع عن دينها بغيظ وعدم تروٍّ فتسوء العلاقة الزوجية إلى ما لا يطاق، وإما أن تستسلم صاغرة فتسكن وتستكين وربما تفتن في دينها في آخر الأمر فترتدّ عنه وهذا ما يأباه الإسلام لها إذ أن الردّة تبيح مالها ودمها وتخرجها من ربقة الإسلام. والتحريم وارد نصّاً صريحاً في الآية الكريمة: {لا هُنَّ حِلٌ لَهُمْ، ولا هُم يُحِلّون لَهُن}.

المسألة الثانية: الطلاق: المادة 58

   تنص المادة 58، على أنه لا يصح الطلاق بالتراضي. فلو جاء الزوجان مثلاً إلى المحكمة وعرضا إنهما اتفقا على الطلاق فإن المحكمة المدنية لا تقبل طلبهما. لأن هذا القانون أوجب أن يكون الطلاق بسبب خصومة ولأسباب مكشوفة مفضوحة. والمادة: 27 التي تنص على أسباب الطلاق وحالاته المتعددة وهي كثيرة ولا شأن لنا كما هو وارد بتفصيلها الآن.

أما في الشرع الإسلامي، فإن الطلاق قد أقر وإن كان أبغض الحلال عند الله. وقد عرّفه الشرع بأنه يعني “حل عقدة الزواج”..

  وكما نظر الشرع نظرة رباط مقدس يربط المرأة بالرجل بميثاق غليظ في الزواج، فقد تنبّه إلى ما يمكن ان يحدث بين الطرفين من نزاع متوقع، فلجأ إلى وسائل علاجية قبل أن يقر الطلاق نهائياً باستدعاء حكمين من أهلها ومن أهله ليحاولا مصلحين استمرار حياتهما الزوجية. أما إذا تعذر الاصلاح فكان من الخير للزوجين أن يفترقا. وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {وإن يتفرّقا يُغنِ الله كُلاً من سَعَتِهِ} (سورة النساء، الآية:130). وقد جعله الله على مراحل بقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان}.

مسألة الهجر والعدة: المادة: 45

تنص المادة:45 على أن الهجر هو انفصال كل من الزوجين  عن الآخر في المسكن والمعيشة مع بقاء الرابطة الزوجية قائمة بينهما. والهجر هذا هو عادة مأخوذة من القانون الكنسي. وهي مرفوضة في الشرع الإسلامي لأن الهجر في مفهومه هو إبطال مؤسسة الزواج نفسها، فالهجر في هذه المادة يعني ترك المرأة والرجل لمغريات الحياة الشخصية لكل منهما مع قيام الزوجية القانونية! وهذا ما يأباه الإسلام.

   وقد عالج الإسلام ما يشبه بالهجر أي: الإيلاء والظهار! وقد كانا منتشرين عند العرب قبل الإسلام فعالجهما بحكمة وروية وبالوسائل السلمية التي تتفق وطبيعة كل من المرأة والرجل.

   فلا هجر إذن في الإسلام، فإما زواج قائم، وإما فراق أي طلاق لمصلحة الزوجين.

إما الإيلاء: فهو عبارة عن اليمين مطلقاً. أي الامتناع عن وطء الزوجة باليمين. وقد حرّمه الشرع لقوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم}.

  والظهار: هو قول الرجل لإمرأته: “أنتِ عليّ كظهر أمي”. فتكون الزوجة محرمة عليه، كما تحرم عليه أمه لقوله تعالى:  {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} (الأحزاب:4).

المادة: 75. العدّة

ينشأة عن الطلاق قضية “العدة” وهي مدة زمنية ينقضي بانقضائها ما تبقى من آثار الزواج. وقد جعلتها المادة 75، ثلاث مائة يوماً (300). وهذا يعني أنه يمنع على المرأة أن تتزوج قبل انقضاء هذه المدة.

في حين أن الشرع الإسلامي ضبط العدّة بقوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}. وقد جعلها على ثلاثة أنواع:

1ـ عدة تكون بالقروء: وذلك إذا كانت المرأة من ذوات الحيض وذلك لقوله تعالى: {والمُطلقات يتربصن بأنفسهُن ثلاثة قروء}.

2 ـ وقد تكون بالأشهر: وهي على نوعين:

   أ ـ للنساء اللائي يئسن من الحيض.

   ب ـ للنساء اللواتي يتوفى عنهن أزواجهن لقوله تعالى:

      { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.

وهنا زيدت هذه العدة لمعرفة براءة الرحم.

3 ـ وعدة تكون بوضع الحمل: لقوله تعالى:

  { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.

  إذ بالوضع يبرأ الرحم. وهو الأصل في فرض العدة، حتى ولو كان الوضع بعد ليالٍ قلائل، أو حتى بعد ساعة من وفاة الزوج.

وبهذه الأمور التي تخالف أحكام  مشروع القانون المقترح، سوف ينشأ تناقض مع المحكمة الشرعية إذا ما اختارت الزوجة أو الزوج الطلاق وفق الشريعة الإسلامية.

البنوّة الشرعية. والبنوّة غير الشرعية

المادة: 76 و78:

    تعتبر البنوّة شرعية حكماً بثبوت الولادة من زوجة الزوج المعني في حينه وفق نظام المشروع. وتنص المادة 78 على أن الولد غير شرعي هو المولود خارج إطار الزواج الشرعي المنظم في هذا القانون، ولا تثبت بنوّته إلا باعتراف رضائي يعلن بقرار من المحكمة المختصة. وإلاّ فلا يصح الأعتراف!! في حين أن الأولاد الناجمين عن الزواج المعقود في المحكمة الشرعية يعتبرون شرعيين.

إباحة التبنيّ: المادة 104

   التبنيّ هو عقد قضائي ينشئ بين المتبنيَّ والمتبنيِّ، في الحقوق والواجبات العائدة للبنوة  الناتجة من زواج في إطار عقد قانوني رسمي ـ كما أن هذا المشروع أجاز إلغاءه في حالات عددّها، فتزول بإلغائه جميع الحقوق والواجبات التي ترتبت عليه. ويا لهول المشكلة بالنسبة لهذا الولد المتبنىَّ.

   كما أن هذا المشروع إجاز تبني أولاد والديهم على قيد الحياة. ويتم التبني بموافقة الوالديْن الأصليين. وهذا الترخيص سيفسح المجال للمتاجرة بالأولاد وبخاصة أولاد الفقراء. ويا  للمصيبة!

   أما الشرع الإسلامي الحنيف. فقد منع التبني منعاً باتاً وأكدّ على أن يعود الانتساب إلى الأب الوالد فقط لا غير وفق قوله تعالى: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ، فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (الأحزاب آية:5).

ولذلك شدد النبيّ صلى الله عليه وسلم النكير على الآباء الذين يجحدون نسب أولادهم فيقول فيما رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة: “أيّما رجل جحد ولده، وهو ينظر إليه، احتجب الله منه يوم القيامة وقبّحه على رؤوس الأولين والآخرين”.

    وكما حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم الآباء، كذلك حذّر النساء من أن ينسبن إلى أزواجهن مّنْ يعلمن أنه ليس منهم. فيقول صلى الله عليه وسلم: “أيّما امرأة أدخلت على قوم مَن ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها جنته” (الصنغاني: سبل السلام 3/93).

إباحة الزواج من قريبات الرضاع:

   لم ينص المشروع في مواقع الزواج إلاّ على قرابتي النسب والمصاهرة وهذا يعني أن قرابة الرضاع غير معتبرة من مَوانع الزواج. فيجوز للرجل بموجب هذا القانون أن يتزوج أمه وابنته وأخته من الرضاع. كما يبيح للمرأة أن تتزوج اباها وابنها وأخاها من الرضاع. وهذا مخالف لصريح القرآن الكريم والسنّة. يقول سبحانه:

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}.

{يُحْرَمُ من الرضاعة إذن ما يحرم من النسب. وهو سبع. وقد عَدّدَهُن ابن عباس بقوله:

“حًرم من النسب سبع وهنّ: الأمهات ـ البنات ـ الأخوات ـ العمات ـ الخالات ـ بنات الأخ ـ بنات الأخت”.

هؤلاء لا يحل الزواج بهن بحال من الأحوال. إذ اعتبر الشرع الإسلامي المرضعة أمّاً للرضيع كأمّهُ من النسب، واعتبر الرضيع أبناً لها. وهو بمنزلة الابن من النسب.

اختلاف الدين والمذهب لا يمنع التوارث

المادة 145: تنص هذه المادة وما يليها من مواد على ما يلي:

تطبق على الزوجين اللذين عقدا زواجهما وفقاً لهذا القانون أحكام الإرث، والوصاية وتحرير أَنصبة التركات العائد إلى نظام الأحوال الشخصية التابع له كل منهما مع مراعاة المبدأين الآتيين:

1-لا يحول اختلاف الدين دون التوارث بين الزوجين ودون إفادة الأولاد.

2-يبقى اختصاص النظر في قضايا الإرث والوصاية وانصبة التركات الناشئة عنها للمحاكم المدنية دون سواها.

   إن هذه الموانع تضع الإطار القانوني أمام بعض التناقضات.

   فنظام الأحوال الشخصية التابع له كل من الزوجين يمنع التوارث بين مختلفي الدين. إذ لا توارث بين المسلمين وغير المسلمين. فحينما يمنع التوارث، فإن الإحالة لهذا القانون تبطل مفعول الفقرة التي تجيز التوارث مع اختلاف الدين. فضلاً عن أنه ينشئ خصومات مستمدة من واقع العادات والتقاليد المرعية.

والغاية القصوى من هذه المادة. هو ضرب الدين الإسلامي في أحكامه، وإفادة غير المسلم، من تركة المسلم وبالعكس.

   كما أن سائر المواد المتعلقة بقانون الإرث فإنها تخالف الأحكام الشرعية فيما يتعلق بأنصبة الإرث ومقاديريها، وبالنفقة على المستحقين فيما بعد الموت. وهي لذلك مرفوضة.

الخاتمة:

الزواج المدني الإختياري: هل هو حلّ أم مشكلة؟!

    بعد أن استعرضنا التناقضات والمخالفات بين مواد مشروع قانون الزواج المدني الاختياري للأحوال الشخصية، وما يقابلها من أحكام في الشريعة الإسلامية، نستنتج بموضوعية عقلانية إن هذا المشروع لا يحمل بين طياته الحلّ المرتجى للمشكلة التي يدّعون. بل على العكس إنه يثير مشاكل عديدة وجديدة تنال التنظيم الأسري بكامله لأنه ينال كل أفراد الأسرة صعوداً ونزولاً لما سيخلقه من تعقيدات وخلافات في تطبيق الأحكام بين مواد مشروع الزواج المدني في المحاكم المدنية، وبين أحكام ومواد الشرع الإسلامي في المحاكم الشرعية.

   فوحدة التقاضي في الأحوال الشخصية ـ لا تزيد في تقارب الطوائف ولا يزيد في تدعيم الوحدة الوطنية كما يدّعون.

   كما أن هذا المشروع لن ينتج انصهاراً وطنياً بين جميع المواطنين ولم يحقق العدالة والمساواة بين الجميع. لذلك نخلص إلى القول إن المسلمين لا يشكون من فقدان القوانين أو الأحكام التي تقر العدالة والمساواة بين المرأة والرجل، ولكن أن كنا نحن المسلمات نشكو من شيء فإننا نقول أن الضمانات الدستورية التي وفرها الشرع الإسلامي لنا بفضل عدالة الرحمن، ومن غير منّة من الرجال، فإنها وحدها لا تكفي حتى ولو كانت ملزمة وثابتة بقرار إلهي إذا لم يتوفر للذكور والإناث على السواء التربية الإسلامية الصحيحة عن طريق التعلم والتعليم، وعن طريق جعل طلب العلم الضروري لأحكام الدين فريضة على كل مسلم ومسلمة والالتزام بهذه السياسة التثقيفية التي نادى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وقلْ ربِّ زدني عِلماً”.

    لذلك نختم بحثنا بما حذّر الله منه من استبدال الأحكام الشرعية، بأخرى وضعية تتبدل مع أهواء واضعيها من الرجال كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. فنكون إن فعلنا قد ضللنا ضلالاً كبيراً مصداقاً لقوله تعالى: في سورة الأنعام، الأية 115 و116:

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا، لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ، إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} صدق الله العظيم.