قواعد الحرب في الإسلام والقانون الدولي المعاصر

د.السيد مصطفى أبو الخير*

مقدمة

لقد حرصت على توضيح قواعد الحرب في الإسلام كي يدرك المجتمع الدولي أن الإسلام لم يتأخر يومًا عن قيادة ركب الحضارة، فأبناء الإسلام علموا أوروبا الحضارة بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء، ويكفينا شهادة الله في كتابه الكريم {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}، وقد سبق فقهاء الإسلام إلى وضع قواعد الحرب في الإسلام كاملة قبل أن ينص القانون الإنساني الدولي على الكثير من بنودها، فالفقيه محمد أبي الحسن الشيباني أول من وضع قواعد ومبادئ وأحكام هذا العلم في كتابيه السير الكبير والسير الصغير، وتكريمًا له أنشئت في ألمانيا جمعية تحمل اسمه.

وفي دراستنا هذه سوف نقارن بين قواعد الحرب في الشريعة الإسلامية ومثلها في القانون الدولي المعاصر الوضعي، لنثبت أن هذا القانون متجذر في الإسلام وقد طبقه المسلمون كافة بداية من رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم حتى عامتهم، دون تقصير أو انتقاص، فقواعد الحرب في الإسلام عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، وتلك عظمة التشريع الإلهي، الذي جعل الرحمة للناس كافة (…).

لقد تنبه علماء القانون في الغرب لعظمة الشريعة الإسلامية ومعرفتها الدقيقة بحاجات المجتمعات منذ وقت بعيد، (…) فتم الإعتراف بالشريعة الاسلامية كمصدر عالمي للتشريع والقانون في عدد من المؤتمرات الدولية العلمية منذ عام 1932م منها:

1- القانون المقارن الدولي في لاهاي عام 1932م.

2- مؤتمر لاهاي المنعقد 1937م.

3- مؤتمر القانون المقارن لاهاي 1938م.

4- المؤتمر الدولي بواشنطن 1945م.

5- شعبة الحقوق بالمجمع الدولي للقانون المقارن بباريس1951م.

وقد صدرت عن هذه المؤتمرات قرارات هامة هي:

أ- اعتبار التشريع الإسلامي مصدرًا رابعًا لمقارنة الشرائع.

ب- الشريعة الإسلامية قائمة بذاتها لا تمت إلى القانون الروماني أو إلى أي شريعة أخرى.

ج- صلاحية الفقه الإسلامي لجميع الأزمنة والأمكنة.

د- تمثيل الشريعة الإسلامية في القضاء الدولي ومحكمة العدل الدولية.

في مؤتمر لاهاي للقانون المقارن لعام 1932م أشار الفقيه الفرنسي “لامبير” إلى ظاهرة التقدير الكبير للتشريع الإسلامي الذي بدأ يسود بين فقهاء أوروبا وأمريكا في العصر الحاضر فقال: (ولكني لا أرجع إلى الشريعة -يقصد الشريعة الإسلامية- لأثبت صحة ما أقول، ففي هذه الشريعة عناصر لو تولتها يد الصياغة فأحسنت صياغتها، لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي والشمول وفي مسايرة التطور عن أخطر النظريات الفقهية التي نتلقاها عن الفقه الغربي اليوم).

أيضًا هناك فقهاء من الغرب أقروا بفضل الإسلام على القانون الدولي العام، منهم “فيتو ريا” و”سو ارس” والبارون “ميشيل دي توب” أستاذ القانون الدولي بمعهد الدراسات الدولية بلاهاي بهولندا، حيث ذكر الكثير من القواعد والأحكام التي سبق الإسلام بها القانون الدولي؛ وعلى الأخص في نظم الحرب، وأورد وصية أبي بكر لجنوده، وذلك في الجزء الأول من مجموعة دراسات سنة 1926م لأكاديمية القانون الدولي، كما أورد الأوامر التي أصدرها في قرطبة الخليفة الحاكم بن عبد الرحمن في هذا الشأن سنة 963م أي قبل أن تعمل الكنيسة البابوية للسلام، ومنهم أيضًا المؤرخ “سيد يو” في كتابه تاريخ العرب ص152، حيث عدّد الكثير من فضل الإسلام على الحضارة الغربية، وعلى الأخص في القانون الدولي.

وقد أفاض فقهاء الشريعة الإسلامية في كتب السير وكتب الجهاد، في شرح وبيان قواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني الواردة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والسيرة النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدين ومن تبعهم وسار على نهجهم.

أولاً: قواعد الحرب في الشريعة الإسلامية

1- حماية النفس الإنسانية، أو حق الحياة، فحرص الإسلام – دون غيره من الملل والنحل والقوانين– على النفس، فقال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} (المائدة:32). وقال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} (الفرقان:68). وقد تعددت الأحاديث النبوية التي طالبت المؤمنين باحترام النفس الإنسانية وحمايتها، فقد قال صلى الله عليه وسلم عن قتل النفس انها من الكبائر (الإشراك بالله، وقتل النفس)، وقال أيضاً (لايزال المسلم في فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً).

2- النهي عن قتال غير المعتدين وتحريم الحرب العدوانية، مع إعطاء المسلمين حق الدفاع الشرعي الذي لم تعرفه البشرية إلا حديثاً، فقال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} (البقرة:190-194).

3- أباح الإسلام الحرب الرد على الظلم، على أن تكون العقوبة بالمثل مع الحث على العفو إن أمكن، فقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج:39-40)، وقال تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} (النحل:126).

4- أباح الإسلام الحرب عقوبة على الخيانة ونقض العهد والنكث للاتفاقيات التي تعقدها الدولة الإسلامية مع الدول الأخرى، فقال تعالى: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لايؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون، فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون} (الأنفال:55-58 )، وقال تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون، وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون، ألا تقاتلون قوما نكثوا إيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه ان كنتم مؤمنين، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} (التوبة: 10-14).

5- أباح الإسلام الحرب لنصرة المظلوم، فقال تعالى: {ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} (النساء:75). كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} (الأنفال72-73).

6- أمر الإسلام أتباعه بالاستعداد بالقوة الكافية لإرهاب الأعداء وليس الاعتداء فأمرهم بعمل جيش قوي (…) بكافة ما استطاعوا من أسلحة وذخائر وعتاد، فقال تعالى: {واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف اليكم وأنتم لا تظلمون} (الأنفال: 60).

7- حث الإسلام على مبدأ إعلان الحرب قبل القتال، ففي حديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب ولمعاذ بن جبل في غزوتين مختلفتين (لا تقاتلوهم حتى تدعوهم للإيمان، فإن أبوا فلا تقتلوهم حتى يقاتلوكم ويقتلوا منكم قتيلاً، ثم أروهم هذا القتيل وقولوا لهم هل لكم خيراً من ذلك بأن تقولوا لا إله إلا الله … فلأن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت).

هكذا عرف الإسلام مبدأ إعلان الحرب قبل القتال من قبل وجود القانون الدولي الوضعي والذي لم يعرف هذا المبدأ إلا في عام 1907م في مؤتمر لاهاي الثاني، وقد أعلن هذه الحقيقة البارون “ميشيل دي توب” حيث قال (أنه وجد مبدأ إعلان الحرب في كتابات الفقهاء المسلمين مثل الحسن البصري البغدادي والماوردي في حين أن أوروبا قد غشيتها الفوضى الإقطاعية…) ثم قال (لقد ساعد العالم الإسلامي في سبيل توفير الحياة الإنسانية الصحيحة على البشرية البائسة مساعدة يجب أن يُنظر إليها بعين التقدير السامي باعتبارها أسمى مما تم في أوروبا الرومانية والجرمانية والبيزنطية خلال القرون الوسطى، ولقد استفاد العالم الأوروبي من الإسلام فوائد جمة…).

8- كان للإسلام السبق في مسألة التمييز بين المقاتلين وغيرهم من المدنيين الذين لا يقاتلون، التي يتباهى الغرب فيها قولاً لا عملاً بأنه يطبقها ولكنه يقننها فقط سرقة من الفكر الإسلامي. ففي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لقادة الجيش في كافة الغزوات قال: (انطلقوا باسم الله وعلى بركة رسوله لا تقتلوا شيخاً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأةً ولا تغلوا، أي لا تخونوا، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين). وقال أيضاً: (لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً، ولا تقتلوا أصحاب الصوامع). ولقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات امرأة مقتولة فغضب وقال: (ما كانت هذه تقاتل أو لتقاتل) وصدق من سماه الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم. أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الإحراق بالنار فقال: (لا ينبغي أن يضرب بالنار إلا رب النار) رواه ابو داوود والدارمي.

9- الحفاظ على البنية التحتية والمال العام والخاص، فهذا أبو بكر الصديق أول خليفة للمسلمين يوصي أمير أول بعثة حربية في عهده أسامة بن زيد فيقول: (لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة وسوف تمرون على قوم فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له). وفي وصية لأميره على الجيش المتوجه إلى الشام زاد أبو بكر على ما سبق فقال (ولا تقتل مجروحاً فإن بعضه ليس منه، أقلل من الكلام فإن لك ما وعي عنك، واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله في سرائرهم ولا تحبس عسكرك فتفضحه ولا تهمله فتفسده، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه).

10- وضع الإسلام منهجاً في معاملة الأسرى جوهره التكريم والمحافظة على كرامة الأسير والمحافظة على حياته فقال تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وان يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} (البقرة:85)، وقال تعالى {ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم في ما آخذتم عذاب عظيم} (الأنفال:67-68)، وقال أيضًا {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم، وان يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم} (الأنفال: 70-71). وقال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم} (محمد:4)، وقال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيماً وأسيراً} (الأنسان:8). وقال صلى الله عليه وسلم(استوصوا بالأسرى خيراً) أخرجه الطبراني في الصغير (ج1،ص250).

وتتلخص نظرية الإسلام في الأسرى في عناصر ثلاثة هي: حسن المعاملة حتى يُبت في أمرهم، المن (إطلاق سراحهم)، والفداء (الفدية) لمن يرجى منهم الخير.

حتى القتلى في الإسلام لهم حقوق، منها النهي عن التمثيل بالجثث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إياكم والمثله ولو بالكلب العقور)، ويدفن قتلى الكفار في المعارك ولا يُتركوا في الشوارع حتى تأكل منهم الحيونات. حماية حق الإنسان في الحياة وجعل قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعاً، فقال تعالى {ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا} (المائدة:32).

11- وضع الإسلام ضوابط النزعات المسلحة الداخلية غير ذات الطابع الدولي من خلال مبدأ التسوية السلمية للمنازعات التي تقوم بين المسلمين وأسبقيتها على الدفاع الشرعي فقال الله تعالى في القرآن {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} والصلح هنا يدل ويشير إلى الوسائل السلمية لفض المنازعات، بالإضافة إلى مبدأ الدفاع الشرعي الجماعي لقتال الدول الباغية، فقال تعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ولفظ القتال جاء بصيغة الأمر للمؤمنين (فقاتلوا) من أجل استنفار كل الهمم لإرجاع الحق إلى أصحابه ورد الجميع سواء كان ظالمًا أو مظلومًا إلى أمر الله.

ثانيا: قواعد الحرب في القانون الدولي المعاصر

لقد تأخر القانون الدولي المعاصر كثيرًا في الأخذ بقواعد الحرب الموجودة في الشريعة الإسلامية، حيث بدأ ذلك في القرن الماضي فقط بعد أن ذاقت البشرية مرارة الحروب التي قتل فيها ملايين الناس وتهدمت البيوت والمدن على رؤوس أصحابها بدعوى المدنية والحضارة ولم يترك العالم الغربي نقيصة إلا وارتكبها، حتى بعد إقرار ضوابط الحرب بمعاهدات جنيف الأربعة عام 1949 والبرتوكولين الإضافيين لهما عام 1977 حيث ظلت هذه الضوابط حبرًا على ورق. وتتلخص مهمة القانون الدولي الإنساني في حماية حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة، وهو يتكون من مجموعة مبادئ متفق عليها دوليًا ومستقرة في المجتمع الدولي، تدعو إلى الحد من استخدام العنف أثناء النزاعات المسلحة، وحماية الأفراد المشتركين في العمليات الحربية، والذين توقفوا عن المشاركة فيها، مثل الجرحى والمصابين والأسرى والمدنيين بقصد جعل العنف في النزاعات المسلحة محصورًا في الأعمال التي تقتضيها الضرورة العسكرية.

ومصادر القانون الدولي الإنساني هي اتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و1907م، خاصة المواد التي تنص على الوسائل المسموح بها أثناء النزاعات المسلحة، واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949م (الأولى المتضمن حماية الجرحى والمرضى وتحسين أحوالهم في القوات المسلحة في الميدان، والثانية بشأن تحسين حالة الجرحى والمرضى والغرقى في القوات المسلحة في البحار، والثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب، والرابعة بخصوص حماية المدنيين وبروتوكوليها الإضافيين لعام1977م ). وإضافة إلى ذلك الإعلان الدولي بشأن حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والمنازعات المسلحة لعام 1974م، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة لعام 1984م، والمدونة الخاصة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين 1979م، وتنص كافة هذه الاتفاقيات على عدم حرمان أحد من حياته بشكل تعسفي، أو تعريضه للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المحطة بالكرامة.

ومع كثرة هذه القوانين إلا أنها تعاني من الضعف والفشل بسبب أن هذه الاتفاقيات لا تطبقها بعض الدول، وحتى الدول التي أخذت بها لا تلتزم بها بكاملها، خاصة وأن هذه الاتفاقيات رضائية أي تخضع من حيث الالتزام بها إلى إرادة الأطراف الموقعين عليها، فلا يوجد ما يجبرهم على احترامها، لغياب السلطة التي تسهر على تطبيق قواعد وأحكام القانون الدولي كما هو الحال في القانون الداخلي لتلك الدول. كما أن الضوابط الواردة في هذه الاتفاقيات وغيرها من قواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني لم تصل بعد – لا في درجتها ولا رقيها- إلى المستوى الذي وصلت إليه الشريعة الإسلامية المستمدة من رب العالمين والتي نتعبد لله بتنفيذ كافة بنودها، ولذا نجد أن قواعد الإسلام يلتزم بها كل المسلمين خلفاء وقادة وجنود، وليس أدل على ذلك من أن الخليفة عمر بن الخطاب عزل قائد جيوشه خالد بن الوليد بالرغم من كثرة الانتصارات العظيمة التي حققها، وقال (ان سيف خالد فيه رهق) أي أن سبب عزله كثرة القتل. وقد أخذ القانون الدولي الوضعي حقبة طويلة جدًا من الزمن وأجريت عليه التغييرات المتتالية حتى وصل إلى بعض المبادئ السامية التي وصل إليها الإسلام منذ عدة قرون، فقد كان القانون الدولي لا يطبق الضوابط التي وصل إليها في القرن العشرين على كافة النزاعات المسلحة، حيث كان يشترط شروطًا معينة حتى يطبق القانون الدولي على هذه الحروب، منها وجوب إعلان الحرب من قبل الدول رسميًا، وأن تكون هذه الحرب بين دول يعترف بها القانون الدولي، وأن يشنها “أمير” البلاد، والحرب التي تفقد شرطًا من هذه الشروط تخرج من نطاق القانون الدولي ولا تخضع لأحكامه وقواعده، مما جعلها أكثر شراسة من غيرها. ثم اختزل القانون الدولي هذه الشروط إلى شرط واحد للتدخل وهو قيام هذا النزاع المسلح بين دولتين أو حتى داخل الدولة الواحدة. ومن سلبيات القانون الدولي أيضًا أنه لم يضع إلا القليل النادر من الضوابط والتي بدورها لم تحترم من كافة الدول، فكان كل شيء مباح في الحرب. كما أن القانون الدولي لم يُخضع النزاعات المسلحة الداخلية (غير ذات الطابع الدولي) إلى التنظيم إلا في القرن العشرين، وحتى هذه الضوابط لم تصل إلى الضوابط الواردة في الشريعة الإسلامية. ولم يحرم القانون الدولي المعاصر صراحة الحرب إلا في ميثاق الأمم المتحدة في المادة (2/4) التي نصت على أن (يمتنع أعضاء الهيئة عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة)، وقد مر قانون تحريم الحرب في القانون الدولي بمسيرة طويلة جدًا، ذاقت خلالها البشرية أهوالاً يعجز عنها الوصف، فانتقل من الإباحة إلى التقييد ثم التحريم بفضل المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة.

والحرب الدفاعية التي أقرها الإسلام، لم يصل إليها القانون الدولي إلا من خلال ميثاق الأمم المتحدة في المادة (51) والتي نصت على أن (ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء (الأمم المتحدة) وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فورًا، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس – بمقتضى سلطته ومسؤوليته المستمدة من أحكام هذا الميثاق- من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه.

أما الحرب الجماعية (الدفاع الشرعي الجماعي) ضد المعتدي فلم يعرفها القانون الدولي إلا من خلال ميثاق الأمم المتحدة والتي نص عليها في ثنايا مواده خاصة المادة (51) والفصل السابع من الميثاق. أما الشريعة الإسلامية فقد عرفت هذا النظام (الدفاع الشرعي الجماعي) منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان في قول الله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت احدهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}.

وكما تأخر القانون الدولي في تنظيم قواعد الحرب فقد تأخر في إعلان حق الحياة لكل إنسان، والذي يعتبر الحق الأساسي للإنسان، والذي بدونه تصبح الحقوق الأخرى سرابًا ومجرد أوهام، ولذلك فقد أفردت له القوانين الوضعية نصوصًا قانونية أصبغت عليه حماية قانونية دولية. ومن هنا كان وصف الحق في الحياة بالحق الطبيعي أو الأساسي، الذي لا يجوز التنازل عنه، وهو أسمى من القوانين الوضعية، لأنه هبة الله سبحانه وتعالى لبني البشر، وأساس استمرار الحياة على الكرة الأرضية.

وقد أحاط القانون الحياة الإنسانية بالحماية من اللحظات الأولى للإنسان إلى مماته، كما تمتد إلى أعضاء الإنسان، لأن الاعتداء عليها يحمل معنى تعطيل حياة الإنسان جزئيًا أو كليًا، وأيا كان الاعتداء على حياة الإنسان، فهو محل للتأثيم من قبل القانون سواء تطاول الفعل إلى إزهاق روح أو تسبب عاهة أو في جرح أو أثر ضار وسواء أكان الفعل عن قصد أو غير قصد، علمًا بأن الحق في الحياة يشمل السلامة الجسدية والسلامة المعنوية وهي حسن المعاملة وعدم استعمال العنف ضد البشر وعدم سلبهم أو التعرض لشرفهم ودينهم أو معتقداتهم أو تراثهم أو إرهابهم والغدر بهم أو تعريض سلامتهم للخطر.

وكان من نتائج تزايد الاهتمام بهذا الحق نشوء فرع القانون الدولي لحقوق الإنسان، والمختص بدراسة كافة حقوق الإنسان وقت السلم. وصدرت العديد من المواثيق والإعلانات والاتفاقيات تنص على حماية الحق في الحياة، أهمها المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 التي نصت على (لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه) والمادة الخامسة من ذات الإعلان التي نصت على (لا يتعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة).

ونص على حق الحياة ايضًا في المادة السادسة الفقرة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسة لعام 1966م، التي نصت على (لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة. ويحمي القانون هذا الحق. ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي). والمادة السادسة من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989م، والمادة الأولى من الإعلان الدولي بشأن حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والمنازعات المسلحة لعام 1974م، واتفاقية مناهضة للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة لعام 1984، والمادة الثالثة من المدونة الخاصة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين 1979م. وهناك أيضًا عدة مواثيق واتفاقيات إقليمية لحقوق الإنسان والتي فرضت حماية قوية للحق في الحياة، منها الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 1945 المادة الثالثة. وكذلك الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 1997 في المادة الخامسة. والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1979 في المادة الرابعة، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950 في المادة الثانية الفقرة الأولى بالقسم الأول منها، والإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان الصادر عن منظمة الدول الأمريكية بالقرار رقم (30) الصادر في المؤتمر التاسع للدول الأمريكية عام 1948م في المادة الأولى منه. وتقضي هذه المواد بمجملها بعدم حرمان أي إنسان من حياته بشكل تعسفي، أو تعريضه للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو الحاطة بالكرامة.

الخاتمة

(…) بالمقارنة بين قواعد الحرب في الشريعة الإسلامية وفي القانون الوضعي الدولي يتضح الآتي :

1- قواعد الحرب في الشريعة الإسلامية أسبق في الظهور وأكمل في القواعد والمبادئ والأحكام منها في القانون الدولي الوضعي، فقد عرفت الشريعة الإسلامية التفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين والأهداف العسكرية والأعيان المدنية.

2- تمتاز قواعد الحرب في الشريعة الإسلامية بوجود عنصر الإلزام الذي تفتقر إليه قواعد القانون الدولي الوضعي، فهي في الشريعة الإسلامية عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، أما في القانون الدولي فآليات المتابعة والمراقبة ضعيفة لا تكاد تشعر بها لأنها بيد الدول ولا يلزمها سوى أخلاقيات ورضاء الدول وهو منعدم في العديد من الحالات، مما جعل قواعد القانون الوضعي ورقية أو نظرية أكثر منها عملية(…).

3- عرفت الشريعة الإسلامية الدفاع الشرعي بصورة دقيقة وموضوعية أفضل من القانون الدولي الوضعي.

4- أقر الإسلام قبل القانون الدولي الوضعي ضرورة الأخذ بالوسائل السلمية لحل المنازعات الدولية.

5- عرف الإسلام الدفاع الشرعي الجماعي قبل القانون الدولي الوضعي، كما عرف الإسلام حقوق الإنسان والتفرقة بينها في زمن النزاعات المسلحة ووقت السلم(…).

ومما سبق يتبين مدى الإعجاز والتقدم التشريعي للشريعة الإسلامية (…) في كل من الشكل (الإجراءات) والموضوع (المضمون)، (…) مما يدحض ادعاءات الغرب في أن الإسلام دين الإرهاب، ويبين أسبقية الإسلام على القانون الدولي الوضعي في تنظيم قواعد الحرب، كما يبين أفضلية الإسلام على القانون الدولي الوضعي من حيث عنصر الإلزام المتمثل في اعتبار قواعد الحرب في الإسلام عبادة نقترب بها إلى الله، كما أن القانون الإسلامي أعم وأشمل (…)، ولذا فهو الصالح لكل زمان ومكان.

______________________________

* خبير بالقانون الدولي. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.eajaz.org

المراجع

1- الأستاذ أنور الجندي، سمو الاستشراق والمستشرقون في العلوم الإسلامية، الطبعة الثانية، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة ،1985م.

2- المستشار/ علي علي منصور، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، المجلس الأعلى للشؤن الإسلامية، 1965م .

3- الدكتور صلاح الدين عامر، مقدمة لدراسة قانون النزعات المسلحة دار النهضة العربية،1995م.

4- الدكتورة خديجة النبراوي، موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي من نبع السنة الشريفة وهدي الخلفاء الراشدين، دار السلام للطبع والنشر والترجمة، القاهرة 2004. (…)

5- راجع للمؤلف كتاب نصوص المواثيق والاعلانات والاتفاقيات لحقوق الإنسان، دار ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، 2005م.

6- الدكتور علي يوسف الشكري، حقوق الإنسان في ظل العولمة، دار ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة،2006م.

7- راجع للمؤلف كتاب مستقبل الحروب دراسات ووثائق، دار مصر العربية، القاهرة، 2009م.

8- John Dugard, keynote address international law, Israel and Palestine conference on Israel and the international law, al-zaytiuna center for studies consultations, Beirut-Lebanon,4-5 November 2009.

9- فضيلة الشيخ أبو زهرة، حقوق الأسرة في الإسلام، القاهرة، 2005

10- الدكتور زكريا حسين عزمي، من نظرية الحرب إلى نظرية النزاع المسلح، دراسة في حماية المدنيين في النزاعات المسلحة، رسالة دكتوراه، حقوق القاهرة 1978م.

11- الدكتورة رقية عواشرية، حماية المدنيين في النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي، رسالة دكتوراه، حقوق عين شمس 2002م.

12- الدكتورة إيناس أحمد سامي عبد العظيم الصادق، تطبيق القانون الدولي الإنساني، للنزاعات المسلحة غير الدولية، دراسة مقارنة للشريعة الإسلامية، رسالة دكتوراه كلية الحقوق، جامعة الزقازيق2010م.

13- الدكتورة رنا عطا الله عبد العزيز عطا الله، الدفاع الشرعي الوقائي وفقًا لقواعد القانون الدولي العام، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق،جامعة الزقازيق، 2009م.

14- الدكتور حمادة محمد سليم، الحرب العادلة في القانون الدولي، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة الزقازيق 2009م.

15- راجع للمؤلف نصوص المواثيق والاعلانات والاتفاقيات لحقوق الإنسان دار ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 2005م.

16- الدكتور علي يوسف الشكري، حقوق الإنسان في ظل العولمة، دار ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2006م.

17- http: \\ kabreet, egyp.com.\issue14\article7.asp

18-للمؤلف. النظرية العامة للأحلاف العسكرية، دار ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الباب الأول، 2005م، رسالة الدكتوراه، حقوق الزقازيق، 2005م.

19- وكتاب المؤلف الأحلاف والتكتلات العسكرية وفقًا لقواعد القانون الدولي العام، مركز دراسات الوحدة العربية، مارس، 2010م.