كذب المنجمون

بقلم الشيخ الدكتور رجب ديب*

 

        راجت في الآونة الأخيرة ظاهرة استضافة المنجمين على شاشات الفضائيات العربية، وتبارى هؤلاء في التباهي بتحقق بعض ما توقعوه، وصدّقت شريحة عريضة من الجمهور العربي صحة ادعاءاتهم، مع أنه لم يصح منها إلا النزر القليل حيث قامت الفضائيات بإخفاء التوقعات الكثيرة التي لم تتحقق؛ والتي كادت تظهر بطلان دعواهم. ولما تعلق الناس بهؤلاء المدعين لدرجة أنهم صاروا من عوادهم، وأنفقوا عليهم الأموال الطائلة لكي يروا لهم الطالع، حتى أن بعضهم صار يبذل الغالي والنفيس علّ هذا المنجم يسعى ليعدّل له في طالعه، ويغيّر له من القدر الذي سينزل به! صار من الواجب على علماء الأمة أن يتصدوا لهذه الأكاذيب، وأن يوقظوا الناس من غفلتهم هذه، وأن يشرحوا لهم موقف الشرع والعقل من هذه الموجة الكاسحة التي استغلّت ضعاف العقول أو قليلي المعرفة.

أين عقل الناس؟

أكرم الله تعالى أمة الإسلام بنعمتين عظيمتين، لا يمكن أن تستقل إحداهما دون الأخرى، ألا وهما نعمتا الدين والعقل، نعمة الدين الصحيح ونعمة العقل الصريح، فلا دين بلا عقل، إذ لا تكاليف حينئذ. ولا عقل بلا دين، إذ أنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. والدين الصحيح قد أكمله الله بخاتم النبيين وسيد المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه، فلا نسخ بعد وفاته ولا تبديل، وسيبقى الدين على ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. بيد أن العقل لدى كثير من الناس في هذا العصر قد كبا كبوة مثيرة، وزل زلة خطيرة، فجمهور من الناس قد أصابتهم لوثات وعلل؛ أزرت بقدراتهم العقلية، مذ أسلموا عقولهم لأيادي الهدم التي لبست قفاز العلم، واستطاعت من وراء هذا القفاز أن تصافح كثيرًا من العقول، وأن تتسلل إلى كثير من البيئات والأوساط، دون أن يداخل الناس شك في أمرها، والتي أدت إلى تلوث الحياة الاجتماعية لدى كثير من المسلمين، بسبب تخلفهم، وإبان غفلة من علمائهم وفقهائهم.

لا يعلم الغيب إلا الله

وإن مما يؤخذ على كثير من الناس، في عصرهم الحاضر، عدم الالتزام بالمنهج الصحيح، فيما يتعلق بأمور الغيب، حيث آمن بعضهم بالخرافة، ورضي آخرون بالكهانة، فباتوا سادرين على باطلهم، لاهين بالسجع والتخمين، يقذفون بالغيب في كل حين ناسين أن الغيبيات لا مصدر لها إلا الكتاب والسنة، أما أخبار الناس فليست مصدر علم غيبي، بل إنها محور أساطير وأوهام، خليط كلام يأتي به مسترقوا السمع، والإسلام دين يزيل الخرافة من الفكر، والرذيلة من القلب، والشرود من المسيرة، فالإيمان ليس إيمانًا بالوهم، ولا إيذانًا بالفوضى.

وشر البلية ضلال بعد الهدى، وعمى بعد البصيرة، فلقد خلق الله الخلق يميلون بفطرهم إلى التوحيد؛ دين الفطرة، فانحاز الشياطين بفريق منهم، وحولوهم عن طريق الهدى، وانحرفوا بهم عن مسلك الرشاد.

خطب النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال في خطبته:”ألا إن ربّي عزّ وجلّ أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نَحَلْتُه عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانًا”.[1]

وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } (الأنعام 128)، فأضل الجن كثيرًا من الإنس بتزيينهم الباطل والضلال لهم، وإن من الباطل ما زينته الشياطين واستدرجت الإنس إليه، وهو تعاطي السحر بمختلف صوره وأشكاله، وتصديق الكهنة، والاعتماد على كذب المنجمين والرمالين والدجاجلة والمشعوذين، الذين يزعمون الاطلاع على الغيب والكشف عن المخبأ.

حكم الكهانة والتنجيم؟

عباد الله: أما الكهانة والتنجيم، فحدث عن المحزن المبكي ولا حرج. المحزن حينما ترى الترهات، وتسمع الرجم بالغيب من أخلاء الشياطين، والمبكي…يوم أن ترى الرعاع من المسلمين لا هم لهم إلا أن ينصتوا إلى دجل الدجالين، ومدعي قراءة الكف والفنجان، وإلى السيل المتضارب من تنبؤاتهم عما سيحدث في العالم، خلال يوم جديد، أو أسبوع سيطل، أو شهر أوشك حلوله، أو عام مرتقب، ويمضي الكثيرون في دجلهم، ويحددون بذلك مستقبل الأبراج، فسعيدون هم؛ أصحاب برج الجدي مثلاً، وأغناهم أصحاب برج العقرب، أما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظ، وخيبة الأمل، إلى غير ذلك من سيل الأوهام الجارف.

وإن لنا يا عباد الله، في أحقاب الزمن من ذلك اشكالاً وألوانًا، يمثلها أدعياء الكهانة والتنجيم، والتخمين والتدجيل، فهذا ابن صياد –الكاهن الذي ادعى النبوة- فقد سأله صلى الله عليه وسلم عن أمره فقال: يأتيني صادق وكاذب، فقال صلى الله عليه وسلم:”خُلِّطَ عليك الأمر” ثم قال له:”إني قد خبّأت لك خبأ أو خبيئاً”، وأضمر النبي صلى الله عليه وسلم:{يوم تأتي السماء بدخان مبين}، فقال: الدخ الدخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:”إخسأ فلن تعدوَ قدرك”.[2] فابن صياد أراد أن يقول هو الدخان، فلم يستطع فقال هو الدخ، وفي رواية عند أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”وخبأت له يوم تأتي السماء بدخان مبين” فابن صياد اندهش، فلم يقع عليه من إلقاء الشيطان إلا بعض لفظ “الدخان” وهو “الدخ”.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما أراد المسير لقتال الخوارج، عرض له منجم فقال له: يا أمير المؤمنين لا تسافر فإن القمر في العقرب، فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هزم أصحابك، فقال علي رضي الله عنه: بل نسافر ثقة بالله، وتوكلاً على الله، وتكذيبًا لك، فسافر فبورك له في ذلك السفر، حتى قتل عامة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سر به.

ومن تلك المفتريات التي دونها التاريخ، وأصبحت وصمة عار على جبين الكهان والمنجمين؛ هو كذبهم حينما ادعوا أن الخليفة المعتصم لا يمكنه فتح مدينة عمورية قبل أن ينضج التين والعنب. وانتشر الخبر بين الناس، فأكذب الله المنجمين وأعز المسلمين وكان الفتح استجابة لصرخة امرأة مسلمة أذلها الروم، فصاحت وامعتصماه، فبرز أحد الشعراء بقصيدة عصماء، عرض فيها لدجل المنجمين وكذبهم، فمما قال:

السيف أصدق إنباءً من الكتب  في حده الحد بين الجد واللعب

وعندما ظهر كذب أدعياء الغيب، لم يكف الناس عن تصديق مثل هذه الخزعبلات، فلا يزال يظهر بين الفينة والأخرى مسيلمة آخر، ودجالون كذابون، والله المستعان.

ونظرًا لكثرة المشعوذين في الآونة الأخيرة ممن يدعون الطب ويعالجون عن طريق السحر أو الكهانة، وانتشارهم في بعض البلاد، واستغلالهم للسذج من الناس ممن يغلب عليهم الجهل، رأيت من باب النصيحة لله ولعباده أن أبين ما في ذلك من خطر عظيم على الإسلام والمسلمين لما فيه من التعلق بغير الله تعالى ومخالفة أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فأقول مستعينًا بالله تعالى:

التداوي جائز وواجب:

يجوز التداوي اتفاقًا، وللمسلم أن يذهب إلى دكتور أمراض باطنية أو جراحية أو عصبية أو نحو ذلك ليشخص له مرضه ويعالجه بما يناسبه من الأدوية المباحة شرعًا حسبما يعرفه في علم الطب، لأن ذلك من باب الأخذ بالأسباب العادية ولا ينافي التوكل على الله، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الداء وأنزل معه الدواء عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله.

التكهن كفر وضلال

 ولكنه سبحانه لم يجعل شفاء عباده فيما حرمه عليهم. فلا يجوز للمريض أن يذهب إلى الكهنة الذين يدعون معرفة المغيبات ليعرف منهم مرضه، كما لا يجوز له أن يصدقهم فيما يخبرونه به فإنهم يتكلمون رجمًا بالغيب، أو يستحضرون الجن ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء شأنهم الكفر والضلال لكونهم يدّعون أمور الغيب، وفي الحديث الشريف:

ح: “من أتى عرّافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة”.[3]

ح: “من أتى عرّافًا أو كاهنًا فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد”.[4]

ح: “ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم”.[5]

ففي هذه الأحاديث الشريفة النهي عن إتيان العرافين وأمثالهم وسؤالهم وتصديقهم والوعيد على ذلك. فالواجب على ولاة الأمور وأهل الحسبة وغيرهم ممن لهم قدرة وسلطان إنكار إتيان الكهان والعرافين ونحوهم، ومنع من يتعاطى شيئًا من ذلك في الأسواق وغيرها والإنكار عليهم أشد الإنكار، والإنكار على من يجيء إليهم. ولا يُغترّ بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يأتي إليهم ممن ينتسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال لما في إتيانهم من المحظور، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم لما في ذلك من المنكر العظيم، والخطر الجسيم، والعواقب الوخيمة، ولأنهم كذبة فجرة، كما أن في هذه الأحاديث دليل على كفر الكاهن والساحر لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصدهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله وذلك كفر بالله وشرك به سبحانه. والمصدق لهم بدعواهم علم الغيب ويعتقد بذلك يكون مثلهم، وكل من تلقى هذه الأمور عمن يتعاطاها فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا يجوز للمسلم أن يخضع لما يزعمونه كعلاج كنمنمتهم  بالطلاسم أو صب الرصاص ونحو ذلك من الخرافات التي يعملونها، فإن هذا من الكهانة والتلبيس على الناس ومن رضي بذلك فقد ساعدهم على باطلهم وكفرهم. كما لا يجوز أيضًا لأحد من المسلمين أن يذهب إلى من يسأله من الكهان ونحوهم عمن سيتزوج ابنه أو قريبه، أو عما يكون بين الزوجين من المحبة والوفاء أو العداوة والفراق ونحو ذلك، لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

والسحر من المحرمات الكفرية كما قال الله عز وجل في شأن الملكين في سورة البقرة:

{ …وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[6] .

فدلت هذه الآية الكريمة على أن السحر كفر، وأن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه، كما دلت على أن السحر ليس بمؤثر لذاته نفعًا ولا ضرًا وإنما يؤثر بإذن الله الكوني القدري لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخير والشر. ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على ضعفاء العقول فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل.

كما دلت الآية الكريمة على أن الذين يتعلمون السحر إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وأنه ليس لهم عند الله من خلاق (أي من حظ ونصيب) وهذا وعيد عظيم يدل على شدة خسارتهم في الدنيا والآخرة وأنهم باعوا أنفسهم بأبخس الأثمان ولهذا ذمهم الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} والشراء هنا بمعنى البيع.

نسأل الله العافية والسلامة من شر السحرة والكهنة وسائر المشعوذين، كما نسأله سبحانه أن يقي المسلمين شرهم وأن يوفق المسلمين للحذر منهم وتنفيذ حكم الله فيهم حتى يستريح العباد من ضررهم وأعمالهم الخبيثة إنه جواد كريم. وقد شرع الله سبحانه لعباده ما يتقون به شر السحر قبل وقوعه، وأوضح لهم سبحانه ما يعالجونه به بعد وقوعه رحمة منه لهم وإحسانًا منه إليهم وإتمامًا لنعمته عليهم.

الحافظ هو الله

وأهم ما يتقى به خطر السحر قبل وقوعه وأنفعه هو التحصن بالأذكار الشرعية والدعوات والتعوذات المأثورة، ومن ذلك قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة مكتوبة بعد الأذكار المشروعة بعد السلام ومن ذلك قراءتها عند النوم. وآية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم وهي قوله سبحانه:{ اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [7] ومن ذلك قراءة {قل هو الله أحد}، و{قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}، خلف كل صلاة مكتوبة وقراءة السور الثلاث ثلاث مرات في أول اليوم بعد صلاة الفجر وفي أول الليل بعد صلاة المغرب وعند النوم، ومن ذلك قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل وهما قوله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْه مِن رَبِّهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌ آمَنَ باللهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وقَالُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وإِلَيْكَ المَصِير} إلى آخر السورة.

كيف نتقي الشيطان والجنّ؟

قد يستغرب القارئ في الحقيقة إذا قلنا له بأن الوقاية من الشيطان والجن يجب أن تبدأ قبل أن يكون جنينًا في بطن أمه، إذ أن كيد الشيطان والجن يأتيه مبكرًا جدًا:

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لو أن أحدهم، إذا أراد أن يأتي أهله، قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدًا”(رواه الشيخان).

ثم يكون أذى الشيطان لحظة الولادة أيضًا. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه” ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم:{وإِنِي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَتَهَا مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيم}(آل عمران 36) رواه مسلم.

وفي لفظ عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:”كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب”.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان”. رواه مسلم.

ثم بعد ذلك يعلمنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف نقي صبياننا أذى الجن والشيطان حين نمسي، فقد ورد في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا كان جُنح الليل أو أمسيتم فكفّوا صبيانكم، فإن الشيطان ينتشر حينئذ. فإذا ذهب ساعة من الليل فخلّوهم، وأغلِقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا. وأوكوا قِرَبَكم، واذكروا اسم الله، وخمِّروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرُضوا عليها شيئًا. وأطفئوا مصابيحكم”.[8]

وفي رواية:”فإن الشيطان لا يفتح غلقًا”. رواه الترمذي.

وقد علمنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف نقي بيوتنا من أن تدخلها الجن والشياطين أو تبيت فيها، وكيف نحمي طعامنا من أن تنال منه.

فقد روى الإمام مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه؛ قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله؛ قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء”. رواه الإمام مسلم وأبو داود.

كذلك يعلمنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كيف نبعد الشيطان عن طعامنا بقول:{بسم الله الرحمن الرحيم}. روى الإمام مسلم وأبو داود عن حذيفة قال: كنّا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرّة طعامًا فجاءت جارية كأنها تُدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يُدفع، فأخذ بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذتُ بيدها، فجاء الأعرابي ليستحل به، فأخذتُ بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدهما”. ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل. رواه الإمام مسلم وأبو داود.

كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا ونبهنا إلى أن الشيطان إذا وجد شيئًا من أثر الطعام على جسد بني آدم فإنه لا يتورع عن لحسه، وفي لحسه قد يترك على أيدينا بعض النجاسة المادية بالقاذورات والأوساخ والميكروبات التي يمكن أن يخلفها ريقه على أسناننا وأيدينا وأثوابنا، إذا كانت عليها آثار أو بقايا طعام. وقد تجلب لنا بعض الأمراض الغريبة التي يقف الطب البشري حائرًا أمامها، لايعرف لها دواءً ولا يعرف لها سببًا ولا طريقة للشفاء.

كما أن النجاسة المعنوية تتمثل في ما يصيب ابن آدم من صرع وهلع ووسوسة نتيجة لملامسة الشيطان لبدنه. ويقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:”إن الشيطان حسّاس لحّاس، فاحذروه على أنفسكم. من بات وفي يده ريح غَمَر ولم يغسله فأصابه شيء؛ فلا يلومن إلا نفسه”.[9]

وفي الوقاية من الجن والشياطين ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أدب دخول الحمام أو بيت الخلاء فيقول:”إن هذه الحُشوش محتَضَرة، فإذا دخلها أحدكم فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث”. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.

ملازمة الجماعة

إن مفارقة الإنسان المسلم للجماعة تعرضه أيضًا لأذى الشيطان، فكما يستفرد الذئب بالغنم الشاردة، فكذلك الإنسان المسلم المفارق للجماعة هو كالشاة الشاردة والشيطان ذئب الإنسان، كما يخبرنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”.

وروى الإمام أحمد أيضًا عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال:”…عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الإثنين أبعد. من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة…”

التحصن والاستعاذة بالله

الاستعاذة هي اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى للاحتماء به وقد ورد في الحديث الشريف أن عبد الرحمن بن حبيش سئل: أأدركت النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة كادته الشياطين؟ قال: جاءت الشياطين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية، وتحدرت عليه الجبال، وشيطان معه شعلة نار، يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرعب منهم، وجعل يتأخر وجاءه جبريل عليه السلام، فقال يا محمد قل، قال ما أقول؟ قال قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارقًا يطرق بخير، يا رحمن؛ فطفئت نار الشياطين، وهزمهم الله تعالى.[10]

في صحيح البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين:”أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ويقول: إن أباكما (إبراهيم) كان يُعَوّذُ بها إسماعيل وإسحاق” صلى الله عليهم أجمعين وسلم.

ويقول المسلم أول النهار وأول الليل ثلاث مرات: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.

ويضاف ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم:”من تصبّح بسبع تمرات من تمر العالية؛ لم يضره ذلك اليوم سمّ ولا سحر”.[11]

كما نحض على الصلاة مع الجماعة والتمسك بالسنن والعمل على جمع كلمة المسلمين والنصح وعدم الخيانة وإضاعة الأمانة لأن ما يغضب الله يغري الشيطان ويسهل سبيله في الوصول إلى مبتغاه.

وإلى لقاء آخر إن شاء الله  



*  داعية إسلامي ومربٍ وباحث.

[1]  اجتالتهم: أزالتهم عما كانوا عليه. م 17/2865 (بلفظه)، حم 4/162 عن عياض بن خمار.

[2]  خ 1/1289، م 18/2924، د 4/4329 عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[3]  م 14/227 (نووي) عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

[4]  حم 2/429، ك 1/8ن هق 8/135 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[5]  تطير: تشاءم. بز 9/3578، طب 18/355، فيض 5/385 وإسناده جيد، عن عمران بن حصين.

[6]  سورة البقرة من الآية 102.

[7]  سورة البقرة  الآية 255

[8]  خ 2/3106

[9]  الغمر: الدسم والزهومة من اللحم. رواه أبو داود والترمذي.

[10]  رواه الأمام أحمد.

[11]  تصبّح: أكل في الصباح، مثل تغدّى: أكل وقت الغداء. رواه البخاري ومسلم.