الآخر

أ. صلاح سلام

 

في تجوالي وترحالي عبر البلاد العربية والاسلامية وغيرها من بلاد العالم صار من عاداتي أن أستغل أوقات الراحة والاستراحة لأتلمس شيئًا من وجدان الناس، فالمؤتمرات واللقاءات قد تعطي فكرة عن ولاة الأمور والمستشارين والفاعلين، لكن الاختلاط بالعامة يعطي فكرة أعمق عن مختلف طبقات الشعب، وغالبًا ما يكون فيها من العبر ما يغني ويفيد.

التقييم بينك وبين من تصادف متبادل وليس من طرف واحد. فسائق التاكسي يرمقك بين الفينة والفينة عبر مرآته العاكسة فيرى ما يشغلك ولربما عرف قدرك وشيئًا من ثقافتك ولربما معتقدك واهتمامتك من خلال رحلتك معه اذا كانت طويلة نوعًا ما.

وحمّال الحقائب ومعه عامل الفندق قد يستنتجان ما يكفي عنك لمجرد قضائك يومين أو ثلاثة في الفندق، ولا تستغرب اذا تبادلا المعلومات عنك فيما بينهما.

ولا تستهن بماسح الأحذية فلعله ذو فراسة، تمكنه ما بين نظرة إلى حذائك ونظرات إلى قسمات وجهك، من ان يستخرج شيئًا من حقيقة شخصيتك فاذا بادلك الحديث عرف من لكنتك من أي بلد أنت ولربما من أي طائفة!

مهما بلغت قدرة كلٍّ منا على الكتمان والغبّ، فكلنا يتمتم وكلنا يتأفف وكلنا يعبّر بطريقة أو بأخرى.

للآخر وجهة نظر وظروف وأسلوب كما يكون لي ولكل واحد منا بصرف النظر عن مكانته وثقافته وسنه وغايته.

وبمقدار ما يطول المكث بينك وبين هذا الآخر تزداد المعرفة عمقًا والعلاقة اتساعًا.

الآخر ليس سائق التاكسي ولا عامل الفندق ولا ماسح الأحذية فقط الآخر الحقيقي هو زوجتك ووالدتك وابنتك. وغالبًا ما يكون هؤلاء في صفك وبجانبك.

لكن الآخر القلق والمقلق هو ابن بلدك وشريكك في الوطن، هو الذي يحتاج إلى ان يفهمك وتفهمه ويتفهمك وتتفهمه. وكيف يكون العيش مشتركًا اذا لم تُبدِّد هواجسه تجاهك ويُبدِّد هواجسك تجاهه.

كيف يمكن ان تتلاقيا اذا لم تلتقيا، وتتحابا اذا لم تتقاربا وتشعرا بالحاجة اذا لم تتعاملا.

كيف تكون العلاقة سليمة اذا كان هذا الآخر يخضع للغريب ويستعين به على القريب. ويذعن للاجنبي ويقدم له الخضوع والطاعة استقواءً على مواطنه وأخيه في المدينة والبلدة والقرية.

يقول الله تعالى في سورة البقرة (الآية 188):

{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون }.

الآخر سيبقى الآخَر والآخِر والأخير، إلى أن يحكم بينكما شرع الله وتسود بينكما اخلاق رسول الله فيعرف الجار حق جاره والأخ حق أخيه ويسري منطق الخضوع لله والاستجابة لحق الوطن واللين في جانب المواطن.

وطالما ساءت النظرة للآخر سيبقى الصراع على الماء والكهرباء والرغيف والبنزين، وسيتأخر موعدنا مع الرخاء إلى أمدٍ بعيد.