للعطاء رجال

أ.صلاح سلام

كم من إنجازات صغيرة تطورت ودامت آثارها، وكم من كلام كثير ذهب أدراج الرياح. إذ بين العطاء وبين التصدر هوة تتسع يوماً بعد يوم، فالمنتج الحقيقي هو عبد ربه وخادم مجتمعه لا يسأل الناس جزاء ولا شكورا، والعطاء يتطلب مثابرةً وصبراً وإصراراً وإرادةً وعزيمة، بينما يدفع حب التصدر بصاحبه إلى الانصباب على الظهور والفضول ومراقبة الناس وتسقط أخبارهم ، باحثاً عن موقع بارز في العلن ولو على حساب كرامته في الخفاء، ليحيط نفسه بهالة مصطنعة، باذلاً الجهد والمال لكي يهلل له الناس ويكيلوا له المدائح ويصفوه بما فيه وبما ليس فيه، إلى أن ينزلق ليعظم نفسه ويصبح عبداً لها.

عبد نفسه يجهد ليرى الناس صورته في صحيفة ويقرأوا عنه خبراً في إذاعة، وعبد ربه يجتهد ليراه ربه على طاعة وليكتب له في صحيفته عملاً صالحًا .

عبد نفسه يسعى للمناصب وعبد ربه يتهرب منها ولا يقبلها إلا قلقاً. ومن اختير لمنصب أعين عليه، ومن سعى له ترك وشأنه ليعاني منه وبسببه.

عبد نفسه يغشى عينيه ضباب الأنا والتعالي ويغلف قلبه ران المكاسب وطلب الدنيا. بينما أول ما يفعله عبد ربه هو أن يدوس على حظ نفسه وكبح هواه حتى يتمكن من الانصات للحق، ولكي يملك فضيلة الاعتراف بالخطأ ويذعن للصواب.

شمعة صغيرة تضيء ما حولها ولو بتواضع خير من عمود كهرباء بلا كهرباء يعترض طريق الناس ولا فائدة ترجى منه.

عبد نفسه يستطيع أن يغش بعض الناس لبعض الوقت، لكنه لا يستطيع أن يخدع كل الناس كل الوقت وهو لا محالة آيل إلى الفشل ولو بعد حين. ومن ضحك أخيراً ضحك كثيراً.

عبد نفسه ينساه الناس وتطوي ذكراه الأيام، وعبد ربه ينقش اسمه في قلوب الناس ويحفظون له مآثره ويعرفه الملأ الأعلى ويجزيه ربه الجزاء الأوفى.

وصدق المولى تعالى القائل في سورة النحل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. صدق الله العظيم.