أين أنا؟

ع.م.د. محمد فرشوخ*

العدد الثاني والعشرون – صيف 2012

دخل الحكيم إلى القاعة، وبادر الحضور قائلاً: “وردتني رسالة من صديق طبيب يعمل في الخارج، أود أن أقرأها عليكم وأشرككم في المعالجة، يقول الصديق بعد تقديمه التحية”:

كنت أقود سيارتي، قاصداً مستشفىً لم أزره من قبل لإجراء مقابلة هامة، وإذا بي أرى مشهد الطريق قد تغير من حولي فعرفت أني قد ضللت السبيل، أركنت السيارة إلى جانب الطريق، وأخرجت خريطتي، وصرت أحاول تحديد مكاني، أين أنا؟ وكم ابتعدت عن الطريق المقصود، وكيف ينبغي أن أصحح حتى أعود إليه من جديد. وبعد التدقيق اهتديت وصححت.

وحين عدت إلى المنزل في المساء، إستعدت المشهد مجدداً وتساءلت متى خرجت عن الطريق الصحيح وما الذي شغلني عنه، كيف صححت، وكم من الوقت أضعت ؟ وكم خسرت من اللقاء الذي فاتني حضوره.

تفكرت يا سيدي بأن المسألة ليست دائماً سيارة نقودها بل ربما حياة نخوضها، والطريق ربما يكون الصراط المستقيم والمسار يحدد المصير.

أصابتني رعدة حين تصورت ما كان سيحصل لي لو أنني استغرقت في شرودي وتعرضت لعائق حال دون عودتي إلى الصواب. الشرود طبيعي لكن ماذا لو طال الشرود، والأنكى ماذا لو لم أدرك أنني انحرفت عن الطريق وظننت أنني أحسن صنعا؟

تبين لي أن العقدة والمفصل هي لحظة التوقف من وقت لآخر والمساءلة والمصارحة مع النفس: أين أنا من الحقيقة؟ هل أعيش الواقع أم في زيفٍ مصطنع؟ بين ثوب وزينة وسيارة وشقة وصحبة متفاخرة متنافسة على لهو ولعب وشهوة، تتطاحن على عرَضٍ من الدنيا قليل؟

هل يصلح كل هذا الجهد وكل هذا الإنفاق لفترة مؤقتة يزول عزها وتنقضي شهوتها وتذبل نضارتها، بينما لم أعد العدة لحياة طويلة خالدة، لم أشترِ خلالها أرضاً ولم أغرس فيها غرساً، ولم أبنِ فيها بيتاً. لا أدري ما سيفعل بي، هل سيعرضوا أعمالي على والداي وعلى أولادي وزوجتي وأهلي، واخجلتاه إذا فُضِحت على رؤوس الخلائق، فاكتشفوا سخفي وحماقتي، واأسفاه إذا منعت من الدخول، ورأيت سائقي وناطور بنايتي يسبقاني وتفتح لهما الأبواب وتنصب لهما الأقواس.

كان الأجدر بي أن أخاطب نفسي قبل فوات الأوان: قف صحح، كي لا يقال لي: قف ممنوع.

صرت اخاف أن يساء استقبالي، فيقبض عليّ، وأساق سوق المجرمين، بدلاً من أن يحسنوا استقبالي ويكرموا وفادتي، قيل لي أن الناس هناك يعرفون بسيماهم فمنهم وجوه ناضرة إلى ربها ناظرة، ومنهم من تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون.

يا سيدي كتبت لكم وأنا خائفٌ مما سيأتي، قلقٌ على المصير، فكيف الدواء وكيف السبيل؟

طوى الحكيم الرسالة، وجال ببصره على الحضور الصامت ، والكل يفكر في الإجابة، ثم قال: دعوا ربنا سبحانه في علاه يجيبنا كما أجاب الذين من قبلنا، يقول تعالى في سورة النور: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.

*رئيس منتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في لبنان.