إرحم نفسك

 م. ف.

العدد الثاني – صيف 2007

 

        تغيرت تصرفات صديقي الدكتور في الآونة الأخيرة، التوتر ظاهر في مشيته وفي حركات يديه، يتلفت برأسه كثيرًا على غير عادته، مقطب الجبين، سريع التأفف، ما أن تتفرس في وجهه حتى تقرأ فيه التوتر والتذمر وعدم الرضى.

– لست على ما يرام، ما بك يا أخي؟

قال: “مش ماشي الحال”.

قلت: أي حال؟

قال: “ما في شي معي ماشي”، لا في العمل ولا في البيت ولا مع المجتمع. ولا أعتقد أنني سأصمد في وجه كل هذه الضغوط!

قلت: هل لديك بعض الوقت لعلنا نفرّج معًا بعض الهموم؟

قال: كل الوقت، ألا ترى الضجر على وجوه أصحاب المحلات والملل والفراغ يعتري الناس وخاصة الشباب؟

قلت: نبيه حقًا، ها أنت تضيف مشاكل الآخرين إلى مشاكلك الخاصة. ألا يكفيك همك؟

قال: كلها هموم في هموم.

قلت: لكني تعلمت أن لا أجعل الهموم تتراكم كي لا تطيح بي مصداقًا لقول الشاعر:

فـصـرت إذا أصـابـتـنـي سـهـامٌ      تـكسـرت الـنـصالُ عـلـى الـنـصالِ

قال: هذا حالي.

قلت: دعني اسألك عن بعض تفاصيل حياتك اليومية دون التطرق الى الحميم منها.

فاستجاب وأفاض واصفًا تحركاته منذ استيقاظه صباحًا حتى خلوده إلى النوم مساءً هذا إذا رقدت عينه!

قلت: ما رأيك لو نقارن هذه التفاصيل بما كان عليه جدي وجدك وأبي وأبوك؟

قال: لنحاول فلن نخسر شيئًا.

قلت: تستيقظ بعد طلوع الشمس، خائر القوى وتودّ لو تعود إلى الفراش. وترتدي ثيابك على عجل وتقاتل سائقي السيارات لتصل إلى مكان عملك مع بعض التأخير. وإذا كنت سعيد الحظ يتسنى لك بعض الوقت لشرب القهوة وتصفح الجريدة. بينما كان جدك يوقن أن “نومة الصبح تقطع الرزق” فيستيقظ قبل شروق الشمس ويصلي الصبح ويقرأ القرآن ويوقظ أهل البيت بمزاج معتدل وكلام طيب، يتناول فطورًا “ماكنًا” ثم يخرج إلى عمله بعد أن يستودع أهله وولده وماله عند من لا تخيب ودائعه أفمن كان مطمئنًا كمن كان قلقًا؟

قال: لا تقارن بين عصرنا وعصرهم فكل شيء قد تغيّر.

قلت: ربما كان أكثر صرامة مع زوجته منا مع زوجاتنا ولكنه كان أكثر تعلقًا ببيته وعائلته. قل لي، هل يجتمع أهل البيت على الطعام ولو مرة واحدة في اليوم؟

قال: “صعبة” لماذا؟

قلت: متى تتحدثون وتتبادلون المشاعر والأفكار؟ إجتماع الغداء فرصة للتعبير ولتوحيد الرؤية، يساعدكم في رسم نهج البيت ومسيرته، قل لي: هل تصلّي بعض صلواتك في بيتك أم جعلته قبرًا للنوم فقط؟

قال: أصلي فيه أحيانًا.

قلت: وهل يصلي أهل البيت معك؟

قال: لا، نصلّي كلٌ على حدة حسب أشغالنا.

قلت: تريد البيت متآلفًا ولا تبذل لذلك جهدًا؟ يا أخي عندما تقف في بيتك إمامًا وقدوةً ويصلي أولادك وزوجتك خلفك تنتظم الأسرة دونما تكلّف أو تصنع. ولا حاجة بعد ذلك للصراخ أو العبوس كي تفرض نفسك قائدًا وربًّا.

قال: وهل يمكن إصلاح البيت بمثل هذه الطريقة؟

قلت: أأنت أصدق أم الله تعالى؟ القائل {وأصلحنا له زوجه} والقائل {انهم كانوا يسارعون في الخيرات}. جرّب يا أخي فلن تخسر شيئًا. في الصباح تصالح مع نفسك وفي النهار تآلف مع أهلك وفي المساء عد إلى بيتك واسأل وتابع ووجّه واعط القدوة والمثل، وحاذر أن يكون لك في الليل لهو أو تسالي فيما يضرك ولا ينفعك كأن تمضي الساعات في لعب الورق أو تقليب التلفزيون أو في احتراق رئتيك مع تبغ النارجيلة فالسهر بلا طائل يعجل في الهرم ويؤرق في النوم ويطيح بصلاة الصبح والاستيقاظ المبكر بنشاط.

وأردفت قائلاً: بلغني أنك تتابع في الليلة الواحدة عدة نشرات للأخبار، إحداها للموالاة والثانية للمعارضة والثالثة لجهة محايدة والرابعة والخامسة لفضائيتين عربيتين والسادسة والسابعة انكليزية وأميركية ثم تتبعها في آخر السهرة بفيلم رعب أو مغامرات أكشن.

قال: صحيح.

قلت: يا أخي ارحم نفسك. كيف لعقلك أن يخلد إلى النوم بعد كل هذا.

قال: لا أحب أن يقال عني أني لا أفهم بالسياسة ولا أتابع أخبار لبنان والعالم.

قلت: الآن عرفت لماذا يظهر رؤساء العالم وهم يبتسمون ويمضون أسعد الأوقات في مزارعهم وعلى ظهر مراكبهم.

قال: لماذا؟

قلت: لأنهم ألقوا بثقل همومهم عليك وعلى أمثالك فارتاحوا واطمأنوا وزال قلقهم.

ضحك صديقي وقال: لا تتهكم عليّ “واللي فيني بيكفيني”.

قلت: معاذ الله أن أتهكم على صديق لي. كل ما أردت قوله هو ترديد قوله تعالى {لا يكلف الله نفسًا إلاّ وسعها}، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “عليك خاصة نفسك…”

قال: لو أطعتك فيما نصحتني فكيف تتحسن حالتي المادية؟

قلت: لو كنت تعمل عند رب عمل عادل لا يهضم لك حقًا ويكافئك على إخلاصك وأمانتك أكنت تثق بأنه سيزيد في راتبك ويكثر من منحك وإعطائك.

قال: نعم.

قلت: فكيف إذا كان رب عملك هو القائل: {وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما انكم تنطقون}. وهو القائل {ومن يتقي الله يجعل له مخرجًا (من كل ضيق) ويرزقه من حيث لا يحتسب}؟

قال: كلام جميل.

قلت: ليس كلامًا فقط إنه وعدٌ مشروط فهل تفي بما عليك حتى يأتيك بما وعدك به؟

قال: أحاول إن شاء الله، لكن أريد أن أبوح لك بشيء.

قلت: قل خيرًا إن شاء الله.

قال: لمجرد أن بحت بما يضيق به صدري شعرت بشيء من الإرتياح.

قلت: هذا أوّل الغيث.

ثم افترقنا على أمل أن “يمشي الحال” إن شاء الله.

واستدرت بعد لحظات إلى نفسي وأسررت قائلاً: إرحم نفسك أنت أيضاً!