التقليد الأعمى

رئيس التحرير

العدد التاسع عشر – خريف 2011

 

تفشت في مجتمعنا آفة يحار الحليم في التصدي لها، دخلت معظم البيوت واستوطنت في كل عائلة وصارت مدعاة للتفاخر بعد أن كانت تعتبر عيباً فيما مضى.

هي آفة التقليد الأعمى “لصرعات” الأمم الأخرى، والتأسّي بشخصيات لعب الإعلام في تسليط الضوء عليهم فصاروا ” نجوماً “، يقتدى بهم، فتجاهلنا النجوم الذين كانوا مفخرة ومثالاً، كالقادة التاريخيين والأدباء والمفكرين والمكتشفين والمخترعين، وعلى رأسهم المثل العليا من الصحابة الكرام والتابعين، وغاب عنا قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم:”أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم”.

كانت فتاة الأيام السابقة مثالاً في الحياء والأدب والثقافة والرصانة، وكانت تخفي دلالها وجمالها لمن يحق له أن يرى ويتمتع، فحافظت بذلك على كرامتها ودينها وسمعتها وسمعة ذويها. فصار العري اليوم والرقص والدلال هو القدوة والمثال.

بتنا نستورد البرامج التلفزيونية من مجتمعات تحللت، ونقولبها في حلة عربية ونخصص لها الأموال الطائلة، ونجمع لها الشباب العربي من كل الأقطار فمن قبلوه في البرنامج بكى ومن رفضوه بكى أيضاً. وإذا ما فازت فتاة بالمباراة ودخلت عالماً خطراً كان ما خفي منه أعظم، إنهالت التهاني والتبريكات عليها وعلى ذويها.

وصل التقليد باللباس والزينة إلى درجة ترى فيها شعر الرأس كالشوك والمساحيق تغطي وجوه الذكور كما الإناث، والشباب والشابات على السواء يظهرون من أجسادهم مناطق تثير الإشمئزاز قبل الشهوة. والرجال يتمايلون كالنساء وهم يتحادثون بلغة مركبة اختلطت فيها العربية بالفرنسية والانجليزية، ولا عجب إذا دخلت عليها قريبا لغات أخرى بحسب النفوذ كالصينية والروسية والفارسية. فصارت المحادثة بين الرجال أقرب إلى الغناء والدلع ولم يعد بالإمكان التمييز بين الشاب والفتاة في الدلال والبحة المتعمدة في الصوت ومد الكلمة في غير محلها، فضاعت مظاهر الرجولة في خنوثة ظاهرة، وصار من الصعب البحث مع مثل هذا الجيل في إحياء القيم التي تقوم عليها المجتمعات وتنتصر بها الإرادات وتشتد بها العزائم. فالاهتمام صار في مكان آخر. والمثل العليا سقطت على الموائد وبين الكؤوس وتحت الأقدام.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل:” لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه”.

ما تكشفه الفتاة من جسدها يجعل السائح العربي يظن انها من بائعات الهوى، وما يظهره الشاب من أسفل ظهره يجعل الرائي يشكك في رجولته وذكوريته.

إنه الفراغ القاتل، فقد رفضنا أن نرسل أولادنا إلى المسجد أوالكنيسة، وعجزنا عن إعدادهم لجهلنا بما ينبغي قوله وفعله، وفاقد الشيء لا يعطيه، مما جعل الفتيان والفتيات فريسة ما يرونه على شاشات التلفزة. وما يسمعونه من أقران السوء في الشارع.

أنعدمت الثقافة والنشاطات والندوات والمجالس التثقيفية واستبدلت بحفلات الطرب واللهو والطعام والشراب. نتفاخر بأغلى الثياب، وبتذوق السوشي والطعام الحلو مع المالح وبمعرفة أسماء الأجبان الفرنسية والسويسرية وأنواع المشروبات الروحية، ومتى يقدم كل منها، وفي الوقت ذاته، نحاذر أن ننفق قرشاً واحداً لإغاثة أطفال الصومال، أو لمساعدة قريب فقير أو جار مسكين، ولا حتى على إعداد أنفسنا وأولادنا من الداخل حيث الأمراض النفسية والمشاكل الاجتماعية والصدمات الجنسية.

لا يمكن للكومبيوتر أن يحل محل المرؤة والشهامة، والعزوبية لا تعالج بالزنا، والأزمات النفسية لا تعالج بالأدوية فقط، والحياة الاجتماعية لا تعني السهر والشرب حتى ساعات الصباح الأولى، والخدمات الاجتماعية الميدانية لا تستعاض بالمحادثات الطويلة على الهاتف الجوال والفايس بوك.

الوقت يمر والعمر يضيع سدى، والمجتمع يتحلل والأسرة تتبعه والخطر يتفاقم والأجيال القادمة ستصبح عما قريب منفصلة عن تاريخها التليد وماضيها العريق لتشكل هجينا كأنه لا أصل له ولا هدف ولا رسالة ولا حضارة.

إنه التقليد الأعمى المبني على تجاهل لما مضى وجهل لما سيأتي، الداء معروف والدواء معلوم فمتى نعي؟