الحليم حيران

محمد فرشوخ

العدد الحادي عشر – خريف 2009

ما أن جلس الحكيم وجلس طلابه حتى بادر بوجهه البشوش قائلاً: هيه، هاتوا ما عندكم. وهي عادته عندما يريد أن يخرج عن المنهاج المقرر، فاتحًا باب الاسئلة لكي يكشف الطلاب عما يجيش في نفوسهم وما يختلج في صدورهم. ليزيلوا بعض الشك والكثير من القلق. اذ الدين الحق هو الذي يستطيع أن يجد الحلول ويعالج الأزمات.

رفع أحدنا يده وقال: قرأت في حديث شريف أن زمانًا يأتي على الناس يجعل فيه الحليم حيرانًا. فما المقصود بذلك؟ وهل بلغنا هذا الزمان؟

عَلَتِ الحكيم ابتسامة رضى، تلتها قسمات جدية وكأن حدثًا ما قد طرأ خلال الجلسة، وقال: تعالوا ننطلق في الاجابة من الحديث الشريف نفسه، يا أبنائي اذا أدرنا ظهورنا للقوانين والأحكام التي شرعها لنا خالق الخلق ومالك الملك وهو بنا أعلم وأرحم وأحكم ثم طفقنا نبحث عن حلول أخرى من تجارب أمم وأقوام وأشخاص خرجوا بنظريات عديدة يناقض بعضها بعضًا، ويسفّه بعضهم بعضًا، ثم تمر الأيام لتثبت خطأ هذا وزلل ذاك وها أنتم ترون بأم العين اتحاد دول في الشرق يتفكك ودولة كبيرة في الغرب تمر بأزمة اقتصادية جرّت على مواطنيها وعلى العالم خسائر وويلات وأزمات. ولئن نظرتم إلى بلادنا العربية والاسلامية لوجدتم عجزًا عن معالجة الأمور الأساسية، كالفقر والأمن والأمية وشتى ميادين التنمية على الرغم من اتساع المساحات ووفرة الثروات الطبيعية وتوفر الطاقات الفردية المتفوقة. يقول الكاتب الايرلندي الشهير جورج برنارد شو: “لو تولّى العالم الأوروبي رجل مثل محمد لشفاه من علله كافة”.

فالنمو والانماء لا يكونان الا ضمن نظام اقتصادي واجتماعي وفكري ومدني متكامل ومتكافل. ومع ذلك فأغلب أهل الحل والربط لا يرون في تطبيق أحكام الشرع حلاً لمشاكلهم وأزماتهم.

والله تعالى يقول لنا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون}.

مثلنا كمثل الذي اشترى سيارة حديثة متطورة وقرر أن يقودها على طريقته المعتادة دون أن يتقيد بتعليمات الشركة الصانعة، فاذا به بعد أن أساء استعمالها يتهم الصانع بعدم الدراية وعدم الاتقان.

ونحن {صنع الله الذي اتقن كل شيء} نريد ان ندير هذا الكون بطرقٍ معتادة وجربنا كل الطرق الا الطريقة التي نصحنا بها خالق الخلق ومالك الملك. وأسألكم: لو كان أحدكم هو المهندس الذي صمم السيارة ورأى من صاحبها تفريطًا واستهانة هل كان يقره على جهله أم يربكه وينبهه حتى يعود إلى رشده ويتقيد بتعليمات الصانع؟

فاذا اصبح الحليم حيرنًا فلأن السبل قد سدت في وجهه وإذا كان هذا هو حال الحليم فكيف حال الذين من دونه؟

فرصة العودة إلى التعليمات متاحة دائمًا ونعني بها التوبة وازالة المنكرات واتباع الصراط المستقيم وتطبيق الاحكام والمعاملات وليس فقط العبادات. لكن هل يتسع عمر الفرد الواحد لتصحيح الخلل، الحقيقة أن على جيل من الأجيال أن يبدأ بالتقويم الهادئ العاقل وان يترك الأمر بعد ذلك لصاحب الأمر، بما يسرّع الحلول ويعجل في الانقاذ.

نظرية واحد زائد واحد صحيحة سليمة إلا في المعتقد فاداء الزكاة يثبت أن أربعين ناقص واحد قد تعود على المزكي بأضعاف المبالغ التي انفقها فما نقص مالٌ من صدقة.

وكذلك فان التقيد بما أمر خالق الخلق ومالك الملك قد يؤدي إلى ان يقف الكون كله مع الصادقين وفي ذلك يقول الشاعر: ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حالٍ إلى حالِ.

وختم الحكيم الجلسة بالآيتين الكريمتين:

{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}،

{ولينصرن الله من ينصره ان الله لقويٌ عزيز}.