الحيرة

ع.د. محمد فرشوخ

العدد الخامس والعشرون – ربيع 2013

أدى الحكيم وطلابه صلاة الفجر ثم استغرقوا في التسبيح والذكر حتى خرق الهدوء صوت شجي رتّل عشراً من سورة الأنعام جاء فيها: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}.

تساءل الحكيم: أرأيتم هذه الحيرة التي وقع فيها سيدنا إبراهيم؟ أرأيتم أنه كلما ازداد تفكراً ازداد تحيّراً؟ إلى أن اهتدى إلى التسليم لمشيئة الخلاق العليم.

الحيرة حالٌ يصادف كل إنسان عاقل، يقف قلقاً ليختار بين أمرين أو أكثر، من قبل أن يبلغ سن المراهقة وحتى يلقى الله تعالى، بعض الناس يغرق في حيرة عند أبسط الأمور في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والسيارة، وبعضهم يذهب أبعد من ذلك ليفكر في مستقبله وتبعات اختياره مثل التخصص العلمي والمهنة واختيار الزوجة المناسبة. والعاقل هو الذي يستجيب للعقل والمنطق والواقع بدلاً من شطط المخيلة واتباع الهوى والانقياد للرغبة والشهوة. ومتى تساوت الخيارات زادت الحيرة ولا بد عند ذلك من المشورة، وفي الحديث الشريف: “ما خاب من استشار”، وأرقى استشارة هي استخارة الله تعالى، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخارة كما كان يعلم السورة من القرآن، وهي عبارة عن ركعتين يليهما دعاء الاستخارة كما تعلمون. وفي هذا الدعاء إشارة واضحة إلى أن العبد ضعيف لا يقدر، والله على كل شيء قدير، وهو علام الغيوب ولن يبخل ذو الجلال والإكرام بالإلهام على عبدٍ أوكل أمره إليه وسأله العون.

لكن الحيرة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تستمر بالسموّ مع ارتقاء كل فكر سامٍ، فيدرس المراهق الفلسفة في الصفوف الثانوية، ويقف عند آية: { يد الله فوق أيديهم}، وآية: {فإنك بأعيننا}، وآية: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}، ولا تطول حيرة الذين يسألون ويستشيرون أهل العلم، فيدركوا أن يد الله تعني قدرته وعين الله تعني عنايته، وأن مشيئة الله تعني حكمته ودرايته بخلقه وأن كل امريء بما كسب رهين. وأن المتشابه من الآيات مقصود لكشف القلوب الزائغة والنوايا والأضغان والأحقاد المبيتة.

وتشتد الحيرة عند نزول المصيبة والمرض والفاجعة، ويتساءل العبد إذا كانت البلوى من تقدير الله فما الحكمة منها؟ هل هي تهديد وتنبيه أم عقوبة أم كفارة للذنوب؟ أم محق وسحق وغضب؟ وبشِّر التائبين الصابرين الراضين، فالأيام سوف تبدي لهم الحكمة مما جرى.

وكلما اشتدت العزائم وقوي الإيمان اشتدت الحيرة وقويت العواصف، فهي عند المؤمن أقوى منها عند المسلم وعند العالم أقوى منها عند العابد، وعند الحاكم أقوى منها عند المواطن، ولتزول الحيرة هنا لا بد من اللجوء إلى أهل العلم والمعرفة. ومن أهم المرجعيات أولئك العلماء الحكماء العارفين ببواطن الأمور الذين يربطون ما يجري في الواقع بما تريده السماء وفقاً لما جاء في الحديث الشريف والكتاب المنير.

العارف بالله والولي الصالح والمربي المرشد ليس كالسلعة متوفراً في الأسواق ولا يتصدر المنتديات ولا يتشدق ويملأ الشاشات، هو الذي أضنى جسده في طلب العلم، وقهر نفسه بمنعها من رغباتها، وأغنى عقله بالاطلاع والمعرفة، وعبد واستقام، وخلا بربه وذكر وتفكر، هو الحافظ للعهد والقيِّم على القيم والأخلاق والدالّ على مواطن الضعف والخلل عند الأفراد وفي المجتمعات، وهو الخبير بمعالجة المشاكل الروحية والاجتماعية والتي تبدو لغير العارفين عالقة مستعصية.

والحيرة لا تتوقف هنا بل تعلو لتصيب حتى أهل العلم والعقل وأهل القلوب والأرواح، فمن تفكر في عظيم خلق الله تحيّر كما حصل لسيدنا إبراهيم حين نظر في ملكوت السماوات، ولأنه نبي الله ورسوله أوحي إليه بالإجابة فزالت حيرته، وحتى المقربين يصابون بالحيرة بين حب الله والخشية منه، وبين مقدار قربه منهم وبعدهم عنه.

وآخرون يحارون في فقه معاني أسماء الله الحسنى، بين الحنان والقهار، وبين المعطي والمانع، وبين الضار والنافع. وكذا النظر إلى ذات اللّه يورث الحيرة والدهشة واضطراب العقل فالصواب أن لا يتعرض لكُنْهِ الله ولِذاته، لأن أكثر العقول لا تحتمل ذلك بل الواجب التفكر في آياته وآلائه وفي عظيم خلقه ونعمائه. وها هو الحلاج يجول في شوارع بغداد ويصيح كالمجنون أو هكذا ظنّه الناس، فيقول: ( يا أهل الإسلام أغيثوني!..فليس يتركني ونفسي فآنس بها وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها وهذا دلال لا أطيقه)، فبالغ في العبارة حتى استهجنها عامة الناس.

ليس القصد من الحيرة بلوغ الجنون أو الفوضى أو الانتحار، كما يحصل للملحدين من العلماء والأثرياء الذين قال الله تعالى في أمثالهم: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض}، أي من القلق وسوء التصرف والخوف من المجهول. إنما الحيرة مدعاة لتقصي الحقيقة وارتقاء الروح وسموّ المعاني، وليس هناك أبلغ من الحيرة التي نابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، القائل: “شيبتني هود” وفسّرها العلماء بأن التي شيبته في هذه السورة هي آية: {فاستقم كما أمرت}، أليست آية محيّرة؟ فإذا أشرق نور اليقين في الصدر ذهبت الحيرة وزالت المخاوف واستراح القلب.

الحيرة هي الباب لإنكار الذات، والتبروء من الحول والقوة، والالتجاء إلى حول الله وقوته، ومدعاة لقصد أهل العلم والجلوس بين أيديهم، بقصد توضيح ما التبس من أفكار، وتصويب المواقف والأعمال، والإصرار على المثابرة في العمل والعبادة، كما قال الله تعالى في سورة الحِجر: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99).