الشيخ والشاب

محمد فرشوخ

العدد الخامس – نيسان 2008

لم تأته الموافقة على مقابلة الشيخ الحكيم إلا بعد أشهر من الرواح والمجيء صرفها الشاب في مرافقة تلامذة الحكيم في الطاعات والعبادات، يسمع من هذا ويفضي إلى ذاك يقوم الليل مع هذا ويصوم ويفطر على مائدة ذاك، يحضر الدروس العامة للحكيم ويراه من بعيد، كان موعده يؤخر عمداً عله يرحل إذا كان له طلب فيقضى قبل أن تحصل المقابلة. لكنه كان يعرف ما يريد ولا يرضى له بديلا.

ناهز الخامسة والعشرين من عمره وهو لا يزال يقرأ ويسعى ويجول بحثاً عن واحد ممن قيل عنهم في الماضي أنه العالم الصالح الحكيم العارف الورع. لم ييأس بعد أن بحث في بقاعٍ كثيرة والتقى رجالاً كثر، كان على ثقة من أن مثل هؤلاء على ندرتهم موجودون في زمانه وعليه أن يبحث عن مكانه، قرأ أن أمثاله يرميه حساده بالزندقة، ويطلقون عليه التهم جزافاً، وبذلك يروجون له عن غير قصد منهم فيأتيه المزيد من الطلاب ومن الفضوليين فيستقر لديه الموفقون منهم، كان الطالب كثيراً ما يردد: لن أبرح حتى أجده أو أمضي حقبا.

جدد الطالب وضوءه قبل الدخول والتقط أنفاسه واستجمع قواه، سلّم على الحاضرين وخص الحكيم بالتحية، رد عليه بابتسامة وإيماءة وأشار عليه بالجلوس، عرّف الطالب عن نفسه ورغبته في صحبة العالم والتعلم على يديه، سأله العالم: هل تستطيع معي صبرا؟ أجابه: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا.

سأله ممتحناً: كم تتوقع أن تبقى معنا؟ أجاب لا فراق بعد اليوم. إبتسم العالم وقال: ما دليلك؟ أجاب: ” يأ أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”. قال الحكيم خاشعاً: صدق الله العظيم، كم تتوقع أن يكون راتبك؟ أجاب الطالب: جئت لأبذل ولم آت لأتعيّش.

قال الحكيم: أخيّرك بين الصحبة والخدمة فماذا تختار؟ أجاب الطالب: الصحبة شرف والخدمة أرقى، استغرب بعض الحاضرين هذه الإجابة، فأومأ الحكيم إليه أن استأنف الشرح فقال: الصحبة جلسات محدودة معدودة والخدمة مرافقة وملاصقة أتعلم من خلالها الأصول وأصل بواسطتها إلى أدق التفاصيل.

سأله الحكيم أتحفظ حديث الإسلام والإيمان والإحسان؟ قال نعم، قال: أمن أهل الإسلام أم من أهل الإيمان أم من أهل الإحسان أنت؟ فهم الطالب أن عليه أن يتوقف عن الكلام وأن يستعد لتلقي الدرس الأول، فآثر الصمت والإنصات، تابع الحكيم:

الإسلام باختيارك، وعلامته شهادتك بتوحيد الله واعترافك برسالة نبيّه، ودليله إقامتك لشعائر دينه من صلاة وزكاة وصوم وحج كما تعرف، فعليك إذن أن تعلن أنك من أهل الإسلام قولاً وعملاً. ولا تنس أن تتفقد من وقت لآخر صحة قيامك بالطاعات والعبادات ، فالنسيان قرين الإنسان. وأكثر ما يمكنك أن تعلنه أنك من أهل الإسلام، وتذكر قول الله تعالى في سورة الحجرات:[ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {14}].

وتعلم درسك الأول من دعاء سيدنا يوسف في سورته: [توفني مسلماً وألحقني بالصالحين].

وحتى تكون من أهل الإيمان، فطريق الإيمان طويل وجميل، يسير على من صدق، عسير على المرائي و اللاهي. والإيمان أكثر من سبعين باباً كما تعرف، وتتوزع هذه الأبواب بين العلم والعمل، فيجب أن يكون ثابتاً كعقيدة وأما درجاته فتزيد وتنقص بحسب همتك وتحصيلك لأن فيه علاقتك مع الخلق وعلاقتك مع الخالق وتخلصك من علائق نفسك. ولا تدعي أنك من أهل الإيمان بل احرص أن تكون كذلك واترك تقييمه لمولاك، قال تعالى في سورة النجم:[ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى].

وأما أن تكون من أهل الإحسان فهذا الأمر طرفه بيدك وطرفه الآخر بيد الله تعالى ولا تسألني عنه حتى أحدث لك منه ذكرا. وانتهت الجلسة الأولى.