الطريق إلى الله

محمد فرشوخ

العدد الثالث والثلاثون – ربيع 2015

 

فوجئ الذين حضروا باكراً إلى القاعة، بأن الحكيم قد سبقهم إليها قبل وقت طويل، فقد رأوه منطوي الجسم مغمض العينين مطرقاً رأسه وبيده سبحته وعلى وجهه مسحة جدٍ وحزن. ولما أحس بمقدمهم قرأ الفاتحة رافعاً كفيه ومسح بهما خديه وفتح عينيه وجال بنظره إلى القادمين مبتسماً ومرحِّبا. وما هي إلا دقائق حتى امتلأت القاعة وصمت الحاضرون وانطلق الحكيم بصوت هادر هاديء وقور، قال:

الحمد لله الذي وفقكم للهدى واختاركم من بين آلاف الشبان والشابات الذين رغب أكثرهم عن الدين واستغنوا فاستغنى الله عنهم، وآخرون منهم أحبوا الهداية لكنهم لم يطلبوها ولم يسعوا لها سعيها، فأهملوا أنفسهم فأمهلهم الله لعلهم يرشدون.

والحمد لله الذي شرح صدوركم للتقوى وعلا بهمتكم لطلب العلم وأنار لكم سبيل الرشاد وألهمكم ذكره فاتسعت آفاقكم لفهم كلامه ومراده ومراميه.

خطتنا اليوم أن نضع نصب أعيننا هدفنا الذي نصبوا إليه، ونسأل الله التوفيق والسداد والقبول.

أن نحيا ونعمل لله، ومع الله، وبالله، وعلى الله، وفي الله، ومن الله، وإلى الله. وتعالوا نتفهم معنى كل سعي ذكرناه هنا استناداً لكتاب الله تعالى ولشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أولاً- مع الله ويعني المعيّة: وأول المعية أن يسير العبد مع شرع الله، ثم أن يراقب الانسان ربّه ما استطاع، في العبادة وفي العمل حتى يشعر بقوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم}، فإذا استشعر وجود الله معه على كل حال، حقق مقاماً عليّاً وهو الإحسان لقول النبي العدنان: “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. وحُقّ لمن حقق هذه المراقبة أن يحظى بعناية الله تعالى: “كن مع الله ترى الله معك”.

ثانياً- على الله ويعني التبعيّة: وهو أن تقوم بما عليك وأن تترك الباقي عليه، يقول الله تعالى: {وتوكل على الحيّ الذي لا يموت}، علامة على ديمومة تلبيته لك بلا انقطاع وعلى حسن الظنّ به، ومن توكل على الله كفاه.

ثالثاً- إلى الله، ويعني المرجعية: لأنه {إليه يرجع الأمر كله} ولقوله تعالى: {وأفوض أمري إلى الله}، وقوله: {وأن إلى ربك المنتهى} وقوله كذلك: {إن إلى ربك الرجعى}. وقوله: {ففروا إلى الله}، هرباً من كل غفلةٍ وشهوةٍ ومعصيةٍ وهوى.

رابعاً- في الله ويعني الهويّة: فلا رباط ولا ارتباط بالخلق إلا إذا كان مبنياً على المحبة في الله وعلى الأخوّة في الله، وحتى البغض لا يكون إلا من أجل الله لأعداء الله. يقول تعالى في الحديث القدسي: “وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيّ”.

خامساً- لله وتعني الإخلاص والوحدانية: أليس لله ملك السموات والأرض؟ ولذلك لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصاً لمالك الملك، لا رياء فيه ولا حظ لأحد به، ومصداق ذلك قوله تعالى: مخلصين له الدين  وقوله مخلصا له الدين، وقوله أيضاً: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}.

سادساً- بالله ويعني الاستعانة: إذ لا حول عن معصية الله إلا بمعونة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتسهيلها لنا سبحانه، باسم الله نبدأ وبه نستعين، به نصبر وبه نصول وبه نجول وبه ندرأ عن أنفسنا الحسد والغل والأذى. وهنيئاً لمن كان درعه قادراً على رد شرور الخلق أجمعين.

سابعاً- من الله ويعني التسليم لقضائه وقدره: فالخير منه فضلاً والسيئة منه جزاءً والصفح منه تكرماً وعفوا، وكل ما يجري بعلمه، ولا يكون إلا ما يريد. فمن سلّم ورضي من الله ما ارتضاه لعبده سعِد وسلِم. وفي هذه المحطة يسقط الحسد والغِلّ ويحل الرضا.

أيها الأحبة

ما رأيكم؟ هل ترون فوق هذه الغاية غاية؟ وهل هناك أسمى من طيب العلاقة مع الله تعالى؟ أفلا يهون علينا ما نبذل؟ وهل يليق بمن عرف منا هذا المقام الرفيع أن يرجع عن طلبه ويعود أدراجه؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال؟

لا يظنن أحد منكم أن الأمر مستحيل فقد سلكه سلفنا الصالح من قبل، وبمثل هذه الهمم بلغوا القمم. وما تخاذلت أمتنا إلا من يوم أن تقاعست عن سلوك الطريق إلى الله. ومن تلاعبت به الأهواء هوى وغوى. وقد قيل: ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه. فابذلوا أقصى الجهد ولا تضيعوا وقتاً ومن عرف ما سينال هان عليه ما يبذل.

أسأل الله تعالى لي ولكم أن يثبتنا وأن يعيننا وأن يفتح مسامع قلوبنا لتحقيق ما يحبه فينا ويرضاه لنا والحمد لله رب العالمين.