الكلمة الطيبة

محمد فرشوخ

العدد الخامس عشر – خريف 2010

 انتاب الشباب شيء من القلق خلال شهر رمضان الفائت وصاروا يتخافتون فيما بينهم، لماذا لا يرد الحكيم على الهاتف وهل هو بخير لعله ذهب إلى العمرة أو سافر في احدى رحلاته الدعوية شرقًا أو غربًا.

إلى أن أتى الخبر من أحد المقربين أن الحكيم معتكف في المسجد طيلة العشر الأواخر من رمضان. وأن بالامكان رؤيته خلال أداء الصلوات الخمس، وأن له جلستين عامتين يوميًا بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر لمن يشاء. عدا عن الجلسات الخاصة لذوي الحاجات والاستشارات.

عند ذلك توافقت مجموعة من الشباب على قصده مع أذان الفجر فوجدوه يقرأ القرآن بانتظار إقامة الصلاة. وحين رآهم أومأ برأسه رادًا السلام مرحبًا بهم بابتسامة عريضة. كان في غاية التألق وفي منتهى الأناقة.

في الصلاة قرأ بصوت رخيم يملأ الأسماع ويخترق القلوب من سورة ابراهيم… أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ…فقدرنا انها ستكون موضوع الجلسة بعد الصلاة. وهكذا كان.

بدأ الجلسة بالدعاء والافتقار إلى الله والترحيب بالقادمين من بعيد ثم شرع يعرض ما قاله المفسرون من قبل في هذه الآيات الكريمة. ثم انطلق بما فتح الله عليه قال: الكلمة الطيبة درجات، يفهم منها أولاً كل كلمة طيبة تخرج من افواه الناس؛ تصلح بين المتخاصمين وتهدئ من روع المذعورين وتواسي قلوب المحزونين وفي ذلك قوله تعالى في سورة فاطر: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.

والدرجة الثانية من الكلم الطيب، قول لا إله إلا الله والدعوة إلى الله، لقوله تعالى في سورة الحج: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ.

والدرجة الثالثة هي كلام الله تعالى في القرآن الكريم، وهو سرٌ من أسرار القرآن وإعجاز من إعجازه الدائم المستمر.

القرآن أيها الأحبة ليس كلامًا يقرأ ويعاد فحسب، وليس فقط آيات يستشهد بها عند الحاجة لدعم فكرة أو تأييد موقف. إنه كلام الله تعالى الذي خلق الانسان وأعطاه البيان بالقرآن. إنه “الكاتالوج” كما يقال في لغة العوام. من أراد أن يعرف بواطن النفس فعليه بالقرآن وان احتاج أن يستشفي من أمراضها فعليه بتقصي الآيات. القرآن يعالج في الانسان أمراضًا كثيرة ويحرره من عقد نفسية خطيرة من حيث يدري أو لا يدري، وكلما عاش المرء مع القرآن كلما تحرر من عقده المستعصية وعاداته السيئة، ومن تعهد القرآن بالقراءة والتدبر تعهده القرآن بالطمأنينة والسكينة. قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد 28).

لكن السر الأهم في القرآن هو هذا النبع الفياض من المعاني، والمعين الذي لا ينضب من الحكم، والأزاهير التي تتفتح بلا انقطاع. وكلما بلغ المؤمن معنًى عميقًا ظن أنه وصل إلى القعر واذ به يفاجأ بأن تحته معانٍ أعمق وأعمق، ومن تعود ختم القرآن وأحب القرآن وصاحبه ولازمه وجالسه، لمس هذا السرّ وأقول لمس ولا أقول عرف فالمعرفة تحتاج إلى جهد لا يبذله الا النخبة التي عرفت أن وراء هذا الكلم الطيب كلمة طيبة أولى وواحدة هي: {الله}.

ومن أراد أن يفهم المقصود فليقرأ من سورة النور قوله تعالى: الله نور السموات والأرض. من زرع اسم الله في قلبه أضاءت له معارف السماء والأرض وأشرق قلبه بالحقيقة التي ليس فوقها حقيقة فلا موجود ولا معبود ولا مقصود إلا الله تعالى. وصارت الدنيا مطية الآخرة والآخرة معبرًا لنيل القرب والرضى.

وهنا نصل إلى الدرجة الأعلى من الكلم الطيب، وهي اسم الله الأعظم الذي اذا سئل به أعطى واذا دعي به أجاب، يزرع في أرض القلوب، ويسقى بماء الحب، ويحرث بصحبة أهل الله حتى إذا تمكن وتجذر نقّى القلب والعقل والنفس والجسد مما يعكر ويشغل ويؤذي، وصار أمر المؤمن كله إلى خير، لا يقول الا خيرًا ولا يعمل إلا صالحًا ولا يفكر الا بالصلاح والتقوى ولا يضمر إلا الخير والحب.

كلما دعوته لبى، وكلما سألته أعطى وكلما استشرته أفاض بالحكمة والموعظة الحسنة. فصار حقًا خليفة الله في أرضه.

اترك التوسع في شرح الدرجة الأخيرة هذه لوقت آخر، ومن صمد وثابر حصّل وجنى في الدنيا قبل الآخرة وذلك هو الفوز الكبير. استودعكم الله وكل عام وانتم بخير. وانتهت الجلسة وقام الجمع الى صلاة الضحى.