النمل والإبريق

ع. ر. د. محمد فرشوخ

العدد التاسع عشر – خريف 2011

وقف الشباب في الباحة قبيل الموعد يتساءلون عما سيكون موضوع الجلسة اليوم وإذ بالحكيم يصل باكراً ويقف بينهم ملاطفاً، يسألهم عما يشغل بالهم، فأشاروا إليه بواقع الحال وبما يجري في البلاد.

وما أن التأم الجمع في القاعة حتى أعلن الحكيم عن اضطراره لتعديل الموضوع المقرر للجلسة والتطرق إلى ما يسترعي اهتمام الشباب في هذه الأيام، وانطلق شارحاً، قال:

وقف أحد دهاقنة السياسة يوماً محاضراً في الفريق الذي تعده وزارة خارجيته لتولي مهام دقيقة خارج البلاد. وقبل أن يبدأ أخرج من حقيبته إبريقا زجاجياً فيه أعداد من النمل، وضعه على الطاولة وفتح غطاءه ثم قال: “موضوع محاضرتنا اليوم هو كيف تساس الشعوب النامية”.

وبعد استعراض الفروقات بين توجهات الساسة وآمال الشعوب، أشار إلى الإبريق قال:”انظروا ولاحظوا أن النمل بدأ يتجمع وينتظم ويشكل أهرامات أخذت تعلوا شيئاً فشيئاً كي تصل إلى قمة الإبريق لتخرج منه، ولاحظوا كيف أن عدداً منها لفظ أنفاسه تحت أقدام بني جنسها لكنه بقي في مكانه لتعبر عليه الفرق الصاعدة إلى الأعلى”.

وما أن شارفت طلائع النمل على بلوغ القمة حتى أقدم المحاضر الضليع على خض الإبريق بعنف، وإذ بنظام النمل ينهار، ويسقط جميعه في قعر الإناء ويموج في بعضه البعض.

أردف المحاضر الأجنبي بكل جدية قائلاً: “إعلموا أن النمل لا ييأس ولا يكل ولا يمل وأنه سوف يعيد تنظيم صفوفه وسينطلق باتجاه القمة من جديد، وكل ما عليكم فعله هو أن تخضوا الإبريق مرة تلو المرة قبل أن يخرج إلى الحرية، وإياكم أن تغفلوا عنه طويلاً، كي لا تفقدوا السيطرة عليه، فينتشر في أرجاء المكان وينشيء مواطن جديدة “.

صمت الحكيم هنيهة ليرى ردود فعل القصة على الوجوه فكانت ما بين مقطب واجم ومندهش متسائل وحائر عجز عن هضم الفكرة. ثم استأنف معلقاً:

وجه الشبه أن بعض الشعوب نشيطة كالنمل لا تكل ولا تمل، وهي مستعدة لتقديم التضحيات كي تنال حريتها، ولديها من الثقة والعقيدة والوعد مثل قوله تعالى في سورة النور: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا …}. ما يحول دون يأس الناس وما يجدد لهم الأمل بالحرية مهما بلغت الصعاب. بينما نجد البعض مستسلماً، لا لقدره، بل لإرادة غيره متذرعاً بالمصلحة والواقعية والضعف، والله تعالى يقول في سورة الرعد:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

تابع الحكيم: لكن دهقان السياسة هذا بالغ في التعاظم والتفاخر، وتجاهل أن الشعوب ليست نملاً وأنه ليس هو المطلق التصرف بالكون، وأن هذه الأرض قد طوت من قبل من هو أقوى وأغنى وأعتى. وأن صراع الإرادات قد تحسمه القوة مرة لكنه غالباً ما يوافق الحق والعقل والعلم والصبر والعزيمة، قال صلى الله عليه وسلم:”وأن النصر مع الصبر”.

ختم الحكيم الجلسة بقولٍ حازم: اليائس هو الخاسر، وعلى كل مؤمن أن يدرك أنه يأوي إلى ركن شديد، وان الله غالب على أمره، وتذكروا وعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: ” ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار “. واحفظوا قول الشاعر:

ما بين غمضة عينٍ وانتباهتها يغيّر الله من حالٍ إلى حالِ.