بخيرٍ أو بشرّ بحسب موقفك من حركة الحياة

ع.د. محمد فرشوخ

العدد الثلاثون – صيف 2014

دخل الحكيم على القاعة متأبطاً بضعة أوراق كتبها بخط اليد، فبادأنا بالسلام والابتسام وأشار بالجلوس وكأنه على عجلة من أمره، فاستفتح وحمد الله تعالى وصلى على نبيه الكريم ودخل مباشرة في صلب الموضوع، فقال: أيها الأحبة، سألني بعضكم بالأمس، كيف يميّز بين الخير والشر، فأجبته: الحلال بيّن والحرام بيّن، فقال: وما أفعل بما اشتبه عليّ بين الأمرين؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس”. قال: زدني، فرويت له الحديث الشريف: “إذا ساءتك سيئتك وسرّتك حسنتك فاعلم بأنك مؤمن”. فردّ قائلاً: الأمر أشكل علي وعلى زملاء لي، فالحياة العصرية بلغت أشد التعقيد بحيث تداخل فيها الحلال والحرام، واختلط الشر بالخير، ونتمنى عليكم أن تخصونا بجلسة نتعلم فيها آلية التمييز بين الحق والباطل وان نتعلم حجة ذلك.

لذلك، أيها الأحبة، دعونا نبدأ بتعريف ما اصطلِح على تسميته “حركة الحياة “:

هي سنة الله تعالى في الكون وفي الطبيعة وفي حياة الأمم والأفراد. انصراف الناس إلى معيشتهم وتدبر أمور حياتهم ونزوعهم إلى البقاء. رحمتهم بالبعض وقسوتهم ببعض آخر، تهافتهم على الدنيا وإيثارهم ببعضها على أنفسهم. تكاتفهم في وجه خطر معين وانفراط عقدهم في مواجهة خطر آخر.

عجلة الحياة لا تتوقف بموت أحد من الخلق ولو كان حبيباً أو زعيما أوحتى نبياً، ومن غلب عليه الحزن على حبيب فاعتزل وانكفأ لحق بالموتى قبل أن يموت. ومن سنن الحياة انها لا تعرف الفراغ فالولد يحل في العمل مكان أبيه والبيت يعمره من ورثه او اشتراه والقرية يسكنها من هاجر إليها والحاكم مكان الحاكم والدولة الفتية مكان الدولة المترهلة كما قال ابن خلدون، مصداق قول الله تعالى:{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. (آل عمران:140).

وحركة الحياة لا يمكن مقارعتها بجهد فردي ولا بقرار مغاير، بل على الانسان أن يحسن قراءتها وفهم آليتها وأن عليه حتى يحقق أهدافه أن يكيّف أسلوب حياته ونهجه بما لا يتصادم مع هذه النواميس الكونية الجارفة والقوى البشرية الجامحة والنظم الاقتصادية والسياسية الطاغية.

وتخضع حركة الحياة لنواميس لا بد من احترامها كي لا تجرف من يعترض طريقها وهو يظن ان باستطاعته مقاومتها أو خرقها. وهنا تظهر أهمية تحقيق الأسباب الواقعية عند المؤمن قبل ان يدعي تفويض أمره إلى الله واتكاله عليه جل وعلا. لأن من لم يحترم هذه النواميس ولم يقدر خطرها يكون قد خالف أمر الله تعالى خالقِ هذه النواميس وخالقِ العقل الذي أهمل العبد استعماله وآمن بالخوارق وأهمل ما كان ينبغي عمله وتأمين مستلزماته وتحقيقه. فلا يليق بالعبد ان يطلب من الله تعالى تحقيق ما يجب على العبد ان يؤمّنه بقدراته وإمكاناته هو.

وحركة الحياة عند المؤمن لا تختلف عن حركة حياة البشر عامة مؤمنهم وكافرهم، لأنها مشتركة فيما بينهم فكلهم لآدم، وكلهم يجوع ويعرى وكلهم يحتاج إلى السكن والعمل والزواج والتعاون. والبيئة مشتركة وكلٌ مسؤول عن سلامتها، والغذاء مشترك وكلٌ له في إنتاجه او استهلاكه سهم. فمن احتكر ما زاد عن حاجته كان في ذلك نقص لحاجة شخص آخر في مكان آخر. وكل من تجاوز حده انتقص من حق آخرين. فهي إذن متوازنة عادلة ففي صحيح البخاري: -ح: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم). وقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: -ح: “ما من عام أمطر من عام”.

فالكون متوازن وتوزيع الثروة مرهون بعدل بني البشر. والخلل في حركة الحياة مردّه إلى أخطاء الناس، كبيرهم وصغيرهم فقيرهم وغنيّهم. فما جاع مخلوق إلا بتبذير فرد أو جماعة. وغضب الطبيعة مرده إلى إفساد البشر فيها، كحرائق الغابات وانقراض الأنواع، واحتكار الغذاء وسد مجاري المياه أو حرفها، وقطع أشجار الأحراج والغابات، وجرف التربة، وتلويث المياه والهواء والتربة، والتلاعب بالأسعار، وفرض الضرائب الجائرة، إلخ…

وها هي ثروات الأرض تنضب أو تفسد، والبحار تلوثها الفضلات النووية وتقتل الحياة فيها والحيتان تنتحر جماعيا على الشواطئ وعلى مرأى من الناس، أمم أمثالنا تقصد شواطئنا تشكونا وتقيم علينا الحجة وتشكو الجوع وتشكو خلو البحار من الأسماك الضرورية لحياتها بعد أن قضت شركات الصيد العملاقة على الأسماك صغيرها قبل كبيرها، بلا رحمة ولا دراسة. وفي الحديث: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ”.

فالعابد لا يساهم مثل العالم في تنشيط حركة الحياة وفي إرشاد الناس، والحوت يعرف من الذي يساهم إيجابا أو سلبا في غذائه وبقائه فيصلي عليه ويدعو له.

ولهذا يمكن تصنيف خير الناس بمقدار مساهمتهم في تنشيط حركة الحياة: فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ». والحديث دقيق فالخلق تعني مؤمنهم وكافرهم على السواء. ولا تمييز بين مسلم وغير مسلم في الجوع والفقر والغصب والاستهانة وغير ذلك.

وفي الحديث:ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: فِيهِ خَيْرٌ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَرَجَ مَعَنَا حَاجًّا، فَإِذَا نَزَلْنَا لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى نَرْتَحِلَ، وَإِذَا ارْتَحَلْنَا لَمْ يَزَلْ يَقْرَأُ وَيَذْكُرُ حَتَّى نَنْزِلَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ يَكْفِيهِ عَلْفَ نَاقَتِهِ، وَصُنْعَ طَعَامِهِ؟» ، قَالُوا: كُلُّنَا، قَالَ: «كُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ». ذلك لأنهم ساهموا إيجابا في حركة الحياة بينما تقاعس الرجل عن القيام فيها.

ومن ساهم في حركة الحياة كان أقرب إلى الله وأما من أعاق هذه الحركة او خالف نواميسها بالزنا مثلاً او بالاحتكار أو منع الماء او أفسد النسل والحرث وغير ذلك، فهو من الله أبعد، ولله أغضب.

وإليكم هذا المثال البسيط: حين يتحقق العدل والأمن بين الناس يزول القلق على رزق الغد ويقل حرص الناس على تموين ما ليسوا بحاجة فورية له. فيقل الطلب على المواد ويكثر العرض فترخص الأسعار. وفي حال العكس يخزن الناس فوق ما يحتاجون فيكثر الطلب ويقل العرض وترتفع الأسعار فيعجز البعض عن الشراء ويظهر الفقر.

ولكي نأخذ فكرة عن المستوى الحضاري للإنسانية في القرن الحالي إليكم بعض الإحصاءات العالمية الرسمية:

63% من سكان العالم بالغون، ونصفهم عاطلون عن العمل.

36% في سن الدراسة و6% منهم مضطرون لترك المدرسة والعمل مقابل اجر زهيد.

47% يعانون من الجوع بشكل مستمر.

13% منهم يسعون وراء الماء طيلة يومهم.

10% دخلهم أقل من 2$ في اليوم.

10% دخلهم اليومي أكثر من 240$.

24% يعيشون بدون كهرباء.

22% يستعملون الكومبيوتر.

92% يستعملون الهاتف او الجوال.(رغم العوز والفقر والجوع).

أيعقل ان يكون المستوى الحضاري لبني البشر متردٍ إلى هذه الدرجة على الرغم من الاكتشافات والاختراعات الفائقة التي لم يشهد تاريخ الإنسانية مثلها من قبل. فحركة الحياة في عصرنا الحاضر تتعرض لمعوقات بالغة الخطورة ستكون لها تبعات اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية خطيرة.

مثال آخر على إعاقة حركة الحياة وهو كنز المال:ففي انتقال المال من عضو عامل في المجتمع إلى عضو عامل آخر في المجتمع يتحرك المال ويسري في مختلف الطبقات والفئات بحيث يقضى معظم الناس حوائجهم جراء حركة هذا المال.

وما أن يقرر عضو في المجتمع أن يكنز ماله لا أن يدفع به إلى سوق العمل والاستثمار أوجد خللا في الدورة الاقتصادية. بحيث قصُر المال عن بعض من كان يعمل سابقا فظهرت البطالة. وللبطالة تبعات منها الفقر والعوز والاستدانة وصولاً إلى الرذيلة والجريمة. وعندما يشيع الفقر يشيع الزنا وعندما يشيع الزنا يشيع القتل فإين موقع مثل هؤلاء في حركة الحياة وانتظامها وحسن سيرها.

ولا بد هنا من فهم دور الإسلام في معالجة خطورة الكنز. فقد جاء الشرع الحنيف بالزكاة فرضاً على المال المكنوز بينما لم يفرض على المال المستثمر في السوق إلا فيما جنى من أرباح قد استكملت الحول.

هذا خطر كنز المال وأما التعامل فيه بالربا فهو أشد ضررا، وله مفاعيل وتردّيات قد تنتهي بإفلاس الأشخاص والدول وبتراكم المال والثروات عند فئات معروفة دون سواها.

كما عالج الإسلام الشح في البيع والشراء فتدخل بنصوص قرآنية صريحة لا تقبل التشكيك ولا الجدال فأمر بتسهيل اعمال البيع والشراء والقرض والرهن على أهميتها ودقتها. فقال في الكيل: {وأوفوا الكيل إذا كلتم}، وشهّر بالذين يستوفون بالمكيال ولا يوفون حق الطرف الآخر في البيع والشراء: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون}، وقال في القرض: {فنظرة إلى ميسرة}، وقال في الرهن: {فرهان مقبوضة}، وقال في الدين: {فاكتبوه}. واشهد عليه.

كل ذلك حتى يرتاح السوق وتجري أعمال البيع والشراء بلا أزمات ولا خضات كما يحصل في أسواق التبادل اليوم.

ولمكافحة الفقر وتبعاته، حضّ الإسلام على الصدقة ووعد عليها الجنة والنعيم والخلف كما فرض الزكاة فرضاً ثم شجع على القرض الحسن.

وجعل الشرع الحنيف بعض المواد في متناول الناس ومنع احتكارها فقال عليه الصلاة والسلام: “الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار”. وكأننا نتكلم في عصرنا عن الخضار التي يحتاجها كل بيت وعن النفط أو غاز البترول الضروري للطبخ والتدفئة والإنارة.

والخلاصة أننا، لو نظرنا إلى أوامر الشرع الحنيف ونواهيه نظرة موضوعية دنيوية مادية وعقلانية، لرأينا ان كل ما أمر به الشرع له دور إيجابي في تطور حركة الحياة تطورا إيجابيا يدفعها إلى الأمن والعدل والسلام والرخاء بين الناس. ولرأينا ان نواهيه تصب في معالجة كل ما يعارض حركة الحياة ويعيقها ويقذف ببعض فئات المجتمع خارج خط الإنتاج سواء الذين كنزوا المال او الذين افتقروا بسبب ذلك. ولصار بإمكان أي إنسان عاقل أن يميز بين ما يسرع في حركة الحياة ويسهلها ويطورها وهذا هو الحلال بعينه والحسنة التي لا شك فيها، وبين كل ما يعيق حركة الحياة وقد سبق للشرع أن حرمها أو كرهها.

اختتم الحكيم الجلسة مشدداً على أمرٍ واحد، قال: أيها الأحبة، ما سمعتموه هو لغة العقل وبقي عليكم أن ترشدوا العقل كي يحافظ على ملَكة التمييز ولن يحافظ عليها إلا إذا انسجم مع نداء القلب ولا يستقيم أمر القلب إلا بذكر الرب. ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: {أنا جليس من ذكرني}، وحاشى لقلب جالس الله تعالى أن يَضِلّ أو يُضَل. فتدبروا القرآن وأدمِنوا ذكر الله تهتدوا وترشدوا.