بين الجهاد والإرهاب كما بين الجنة والنار

د. محمد فرشوخ

العدد السابع والعشرون – خريف 2013

كان مقرراً للجلسة مع الحكيم أن تتناول موضوع الفقه وضرورته في الحياة العائلية، لكن وسائل الإعلام تناقلت خبراً طغى على كل خبر حول تفجير عدد من السيارات المفخخة في عاصمة عربية، أوقع عشرات الضحايا فقرر الحكيم التطرق فوراً لهذا الموضوع الخطير والدقيق.

قال: الجهاد أربعة، كبير وأكبر وصغير وأصغر، فالأصغر هو الحرب والأكبر هو مجاهدة النفس لقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم  كما جاء في الخبر: ” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى”. وأما الجهاد الكبير فهو جهاد الدعوة إلى الله وإصلاح الفرد والمجتمع بالحكمة والموعظة الحسنة، لقول الله تعالى في سورة  الفرقان:{ وجاهدهم به جهاداً كبيرا }، وأما الجهاد الصغير فهو جهاد رب العائلة ليطعم عياله ويكفيهم، قال تعالى في سورة المزمل: { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}. وفي الحديث الشريف:” الساعي على عياله كالمجاهد في سبيل الله” وقوله صلى الله عليه وسلم لشاب أراد الجهاد: “ألك والدان؟ قال نعم، قال: ففيهما فجاهد”.

من خلال هذا التصنيف وهذه المفاضلات استقى الفقهاء كثيراً من الأحكام الشرعية، وبات على من أراد الجهاد أن يتفقه في دين الله قبل أن يقدم على عمل قد يؤدي إلى تشريد أهله وضياع أولاده، وأن يعمل على تزكية نفسه، قبل أن يخوض حربه فلعله يدخلها صادقاً ويخرج منها غالاً ضالاً، أي أن تمتد يده إلى ما حرِّم عليه أو أن يطغى في المعركة أو أن يعيث قتلاً فيبوء بغضب الله ومقت رسوله.

ومن هذا القبيل قد يقدم امرؤ على عمل مسلح، فيوضع  عمله شرعاً في خانة الفساد بدلاً من أن يكون في موضع القبول، فكيف السبيل إلى التمييز بين النقيضين؟ هاكم بعض الإيضاح:

في التمييز بين دار السلام ودار الحرب، فدار السلام هي كل بلد أو موطن يعيش فيه المسلمون ومواطنوهم من غير المسلمين، حيث يجب أن يسود الأمن والسلام، وينطبق على البلاد التي تربطها ببلاد السلمين علاقات واتفاقات ما ينطبق على دار السلام من أمن وسلام ولذلك تدعى دار العهد.

وأما دار الحرب فهي مناطق الجبهات المفتوحة حيث ينشب القتال وتستعر الحرب والكر والفر في مواجهة البلاد التي أعلنت الحرب على بلاد المسلمين ونقضت العهود والمواثيق.

ويندرج في سياق المواثيق كل أجنبي دخل إلى البلاد بتأشيرة قانونية من السلطات وبالتالي دخل في ذمة كل مواطن بلا استثناء وعلى الناس عدم التعرض له ما لم يخرج على القانون. وتنص على ذلك القوانين الوضعية والشرعية معاً وبوضوح، ففي الحديث الشريف:”لا إيمان لمن لا عهد له”، ويقول عليه الصلاة والسلام أيضاً: “المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم”، فكيف إذا كان العهد أي التأشيرة قد أعطي له من قبل أعلاهم وهو الحاكم أو السلطة الشرعية؟ لذلك فإن في خطف الأجانب معصية وكذلك في حجز الحريات وطلب الفدية.

ولا جهاد في صراع المناطق والطوائف والمذاهب لأن الجهاد قرار الأمة، لا يعلن من قبل عصبةٍ اجتمعت كيفما اتفق من مختلف الآفاق، جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «هلك المتنطعون » . قالها ثلاثا . قال الإمام النووي في شرحه للحديث: ” أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم ” . وسماحة العقيدة تجعل الناس ينبذون التطرف ولو في الدين ففي الحديث الشريف: “يا أيها الناس إياكم والغلوّ في الدين ؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين”.

ولا جهاد من قبل قومٍ تشدهم عصبية أو مصلحة دنيوية ولا من قبل فرقة يجمعها مذهب أو عقيدة خاصة وكل ذلك يصنف في خانة الفتن، مهما كثرت المبررات والاجتهادات. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وأما تكفير المسلمين ليحل قتلهم فليس بذريعة، لقول النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: ” الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثًا، بِحَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ “.

لا استثناء عند الفتن إلا في الدفاع عن العرض والأرض، فهو مفروض وأما العدوان على العرض والأرض فهو مرفوض. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا يحل لمسلم أن يروع مسلما » . ويقول عليه الصلاة والسلام أيضا : « من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي ربه مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ».

 وعند الفتن يكثر القتل والسلب وتعم الفوضى ويستشري الفساد ويُقتَل الأبرياء وتُنتهَك الأعراض، ولربما انقلب الأمر لغير مصلحة الناس فيتدخل شر الناس ويملكوا أمر الناس، ولذلك نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي عقبة بن عامر حين سأل عن النجاة فقال له: “أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك”.

ونقول أن الجهاد قرار أمة، لأنه يتطلب مقدرات وقدرات وتقنيات وإمكانات ضخمة كي تؤمن أسباب التفوق بالعدد والعدة، وتسمح بالصمود والاستمرار في القتال إلى أن يتحقق النصر، ومن كان عمله منقطعاً لا صلة له بمشروع أكبر كانت مغامرته غير محمودة العواقب، وأمره مهدداً بالفشل وقومه معرضين لشتى أنواع الاضطهاد. الإرهاب يزرع الجوع والخوف ويقضي على الأمن والسلام وعلى رغد العيش مناقضاً لقول الله تعالى في سورة قريش:{ فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.

الجهاد الحقيقي يا أحبابي له علامات وله وقع وله نتائج فاعلة، فأعداد المجاهدين تتضاعف مع مرور الوقت، والتأييد يزداد والعون من الله يظهر جلياً، والفتوح تظهر كالشمس والسمعة تسبقه، والهيبة والتوقير يجللانه، والنصر قرينه، والثبات دليله، وبشائره عودة الناس إلى الله، والتزامهم بشرعه، وتوكلهم عليه.

وأما الإرهاب فسمعته سيئة ورائحته نتنة، وعائداته فشل وخوف وخذلان، ومردوده خسارة تلو الخسارة، وآثاره لا تمحى تحفر في ذاكرة الأجيال ولا تذكر إلا ويذكر معها الدم والندم واللوم والأسف.

في الجهاد لا يُقتَل إلا الأعداء والإرهاب لا يحصد إلا الأبرياء، الجهاد يتطلب شجاعة والإرهاب جبن كله لأنه يضرب الآمنين. الجهاد مكانه دار الحرب والإرهاب يضرب في دار السلام، ولا شبه ولا تساوٍ ولا عدل بين جهاد الكرامة والفداء وبين إرهاب المكر والجبن والخديعة.

جهلٌ بقواعد الإسلام وسلوكه وآدابه، وجهلٌ بمقاصد الشريعة، ينجم عن ذلك انحيازٌ لفكر أو عصبية أو قومية، او اتباعٌ لمن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه نفاقاً أو غلواً. ولعب بعواطف الناس وأثار غرائزهم وشحن نفوسهم، والذين قال الله تعالى فيهم: { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ } [النحل:116] . لذلك وجب التعلم من أهل العلم الحقيقيين الأكابر، روى أميمةُ الجمحي عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال: « إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر ». ويقول ابن مسعود رضي الله عنه : “لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعلمائهم فإذا أخذوه عن صغارهم وشرارهم هلكوا” .

فالإلمام بالدين والتفقه واتباع الصالحين أولى من أن يتبع المرء المغالين او الذين باعوا أنفسهم وقومهم للغير، فيقذف بنفسه في آتون الفتن ويسير على غير هدى من ربه وهو يحسب أنه يحسن صنعا.

وكل قتال في عصبية أو قبلية فمرده إلى النار، فقد جاء في كتب الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةِ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ، وَيَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، وَيَدْعُو إِلَى عَصَبِيَّةٍ فَقُتِلَ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا ,. وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي “.

يا أيها الناس، يدعونا المولى عز وجل في كتابه الكريم إلى الأمن والسلام فيقول في سورة يونس: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }، والمقصود أن يسود في بلادنا الأمن والاستقرار والطمأنينة، فكونوا من أهل السلام ولا تكونوا من أهل النار، فهل من يسمع ويعقل ويعود إلى رشده؟ واحذروا يوماً قال الله تعالى عنه في سورة المُلك: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}.