عودة إلى الأيام الخوالي

د. محمد فرشوخ

العدد الثامن والعشرون – شتاء 2014


بعد صلاة الفجر وقبيل التهليل والتكبير لصلاة عيد الأضحى، كان الجو مشبعاً بروحانية العيد وقد أضفى حضور الحكيم على طلابه بهجةً وحماسةً وسرورا، وبعد تهامس بين الحاج بسام وبين إمام المسجد، إقترب الإمام من الحكيم واستأذن لأخي بالكلام فوقف وقال:

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أكمل الخلق، وحبيب الحق، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. سيدي المربي، أيها الإخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

بادأ الله تعالى نبينا بالحب قبل أن يخلق آدم، فقرن إسمه بإسمه، ليعرفنا قدر رسول الله عنده، فلا تذكر لا إله إلا الله إلا ومعها محمد رسول الله. حتى أن قريشاً المعادية شهدت لرسول الله بحب الله، “والفضل ما شهدت به الأعداءُ”، فقالت: “محمدٌ عشق ربه”.

كذلك منّ الله علينا أن جعلنا من أمته، وهدانا لطريقته وسنته، والحب لرسول الله إتباع له، لقول الله تعالى : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله..}. وقال عليه الصلاة والسلام: ” لا إيمان لمن لا محبة له”، ولذلك اتبع الصحابة رسول الله وهو أستاذ الحب والرحمة الذي من شدة إهتمامه بصحابته وحرصه عليهم جعل كل واحد منهم يشعر بأنه أحب الناس إلى قلب رسول الله، وحتى إذا دارت رحى المعارك، كان أحدهم يذود عن رسول الله ويجود بنفسه دونه ويقول له: ” صدري لصدرك وقاء وروحي لروحك فداء”. فالمحبة والصحبة والهجرة إلى الله ورسوله ووارثه من بعده فرض.

سيدي المربي:

للهداية أسبابها، ومنها صحبة الولي المرشد، لقوله تعالى: {ومن يضلل فلن تجدَ له وليا مرشدا..} . وكما أن العقول تتلاقح بالعلم فإن الأرواح تتلاقح بحب الله ورسوله. والأماكن تتشرف بمن كان له عند الله شرف. فمن تشرف بعبادة الله والإخلاص له الله شرَّفه الله بصفة حميدة، كقوله تعالى في الكتاب الكريم: {عباداً لنا} أو {عبداً من عبادنا}، والكعبة تشرفت بجهد إبراهيم الخليل، كما تشرفت المدينة المنورة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما تتشرف المساجد بجهود الدعاة فيها رحمات الله عليهم أجمعين.

أما نحن فقد شرفنا الله تعالى بنسبتنا إليكم، فنسأل الله أن يثبتنا على صحبتكم، ومن فاته فرض قضاه وأما من فاتته الصحبة فلا قضاء لها. ومن فضل الله علينا، أن تعرفنا على العارف بالله، وهو الإمام الجامع، الذي يجمع القلوب على الله، وهو المهندس البنّاء لإسلامنا، وهو الطبيب المداوي لأمراض قلوبنا ونفوسنا، وهو المعلم بأعماله وحاله، وإمامنا  وقدوتنا، وحب الشيخ هو من أبواب الوصول لحب الله ورسوله، والمريد الصادق لا يرتاح حتى يصبح مراداً بعد أن كان مريدا. وفي المحب تسري صفات حبيبه ومن سرى سِرّكم فيه تغير حاله ليكون كالشجرة عندما حولوا خشبها إلى ناعورة، فقالت بلسان حالها : -أيها السائل عني  -قد سلبوا اللب مني  -كنت أُسقى وأُغنَّى   -صرت أسقي وأغني .

وقال عليه الصلاة والسلام: أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين، وأنتم سيدي حظنا من الشيوخ ونحن حظكم من المحبين، فأنتم أهل التربية والتوجيه والأدب، بشهادة شيوخكم الذين أعطوكم الإذن بذلك وقد جعلتم من الأدب والحب مذهبا، وفضلكم يشمل الخاص والعام، وعن مثلكم قال الشاعر :

                 لا تنكر النفحات إن هي أسرعت        من مرشد هاد لقلب مريده

                  سر  الشيوخ إذا  سرت أنفاسـه     شملت فؤاد قريبه و بعيده 

وعلّمنا رسول الله أن نسأل الله حبه، وحب من يحبه، وحب الأعمال التي توصلنا وتقربنا إلى حبه، والحب شعبة من شعب الإيمان، وبه تبدأ التزكية، وعليه تبنى الأخلاق، ووجبت محبة الله للمتحابين في جلاله، وهو قوله تعالى: يحبهم ويحبونه، ومن حرص النبي على دين عمر رضي الله عنه، أراد تعليمه فسأله يوماً: ” كيف أصبح حبك لي يا عمر؟”، وبفعل الحب ترك الصحابة بيوتهم وهجروا أهليهم وأموالهم بمكة، والتحقوا بالمعلم ومنهم صهيب الرومي، فاستقبله رسول الله بالمدينة قائلا له : ربح البيع أبا يحيى !.

ذلك لأن البقاء لا يقارن بالفناء، وحب الله ورسوله لا يقارن بالدنيا وما فيها، لأنه من أكمل عطاء الله للمؤمن في الدنيا كما في الآخرة. وها هو سلمان الفارسي قد نال بحبه شهادةً من رسول الله بقوله صلى الله عليه وسلم: “سلمان منا آل البيت”، كما نال سيدنا أبو بكر الصديق شهادة الصحبة من الله بقوله تعالى : {إذ يقول لصاحبه لا تحزن}. وقد دفن هو وعمر بجوار من أحبا ليكون ذلك دلالة على أن صحبة الدنيا متصلةٌ بالآخرة لمن وفى بعهده وبيعته.

وها هو يعقوب عليه السلام فقد بصره على فراق من يحب، فردّ الله له بصره بقميص وأثر حبيبه، والمحب أيضا يشم رائحة حبيبه، مهما بعدت المسافة، فما أن فصلت العير من مصر  حتى قال سيدنا يعقوب من فلسطين: {إني لأجد ريح يوسف}. فبُعد المكان أو الزمان لا يحجب المحب عن الحبيب، ولو حبسه العذر فالقلوب متصلة بمن تحب، وهكذا كان حال التابعي أويس القرني مع النبي صلى الله عليه وسلم رغم أنه لم يره بعين رأسه، والمحب في وصال دائم مع حبيبه قال الشاعر :

               ومن عجـبٍ أني  أحـن  إليـهـمُ              وأسـأل عنهم من لقيـت وهم  معــي

               وتبكيهمُ عيني وهم في سوادها              ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي    

وسيدنا موسى وهو كليم الله ما اكتفى، من شدة حبه بكلام من يحب، فطلب أن يراه فصعق بعد تجلي الله على الجبل. ثم استفاق وبقي الجبل دكا، وهذا حال المحبين فهم في حفظ حبيبهم وكنفه.

نسأل الله أن يهديَنا ويهدي بنا، وأن يعطيكم سؤلكم، وأن يعينكم على هداية الناس، وأن يجعلنا عونا لكم وأن لا يضيع تعبكم فينا، وها نحن سيدي جئناكم بالعيد نمتع أبصارنا برؤيتكم وترتوي قلوبنا من إمدادكم، ونطلب رضاكم ونسألكم عما يدخل السرور على قلبكم، وأختم بقول الشاعر:

  لإن اكتفى غيري بطيف خيالكم       فأنا الذي بوصالكم لا أكتفي        

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إنتهت كلمة الخطيب، وكم كان بودي أن أصف المشاعر الطيبة والابتسامات الراضية والوجوه المشرقة، والمهم أن عدداً من الحاضرين عاش ساعةً تشبه الأيام الخوالي حين كانت تربية المؤمنين رسالة واتباعهم للحكماء غاية وأية غاية.