لغة الجهل

ع. د. محمد فرشوخ

 العدد الخامس والثلاثون – خريف 2015

كلمات بحروف لاتينية استبدلت بقية الحروف بأرقام رمزية:رقم 3 بدلاً من “ع” ورقم 7 بدلاً من “ح” وهكذا أطيح بالهمزة والطاء والخاء وغيرهن…، لغة ركيكة بلهجة محلية، تقوقعت حتى تعذر فهمها حتى على الذين يتعاطونها. يتفاخر الناس باعتمادها، سموها “عربيزي” فلا هي عربي ولا هي إنكليزي، لا ضير إن لم تفهم إحدى الكلمات فمعظم الكلام لغو وإسفاف، وستُمضي الساعات وأنت تقرأ ما يكتبون وإذا بك تخرج كمن غرف من الماء بسلّة من القش.

بدأت كصرعة، وتكاد تصبح معتمدة، استسهلها الناس، لا تستطيع أن تصحح أخطاءها فكلّها أخطاء، لا فرق فيها بين مثقف وجاهل إذ انحدر المثقف ليكتب بلغة الجهلة. لا يتعلم القارئ منها حسن الكتابة ولا صناعة الإنشاء ولا تصريف الأفعال ولا الإعراب ولا تحريك الحروف، أعفى معتمدوها أنفسهم من الجد في تطوير كتاباتهم فسقطوا في قلة المطالعة وغاب عنهم تذوق الأدب من لغتهم الأصيلة العريقة التي يتوق مثقفو الغرب والشرق لتعلمها وتذوق تراثها.

ومن أعفى نفسه من الكتابة بلغة سليمة، تخلّف تلقائياً عن تذوّق هذه اللغة العريقة التي فتن بها المستشرقون ومن قبلهم الأعاجم فعنوا وتفننوا في الكتابة بها.

لم يعد للخط الجميل مكان بين الشباب وإذا اضطر أحدهم ليكتب ملاحظة كتب كما يكتب طالب في الصفوف الابتدائية. فقد حال الحاسوب دون عناية الناس بخطهم بحجة توفير مادة الورق.

قلة هم الذين يلقون للتعبير السليم بالاً، ويكتفى الناس بالعبارات المعتمدة في المعاملات التجارية، ولم يعد للتعبير العاطفي ولا الأخلاقي مجال، حتى الترحم على الموتى والدعاء لهم استبدله جيل الجهل بعبارة مرمزة: R.I.P. أي أرقد بسلام، وطار ما تعلمناه من آيات القرآن ومن الدعاء المأثور للميت ولأهله.

وصل الأمر بسوء التعبير إلى درجة الترميز، فيرد عليك محدثك برسم وجه عابس أو مبتسم أو ضاحك أو ساخر أو مستغرب…(????).

هكذا تسقط المشاعر وتنقطع صلة التعبير بين الأحبة، ويضيع الحس الثقافي والقدرة على تذوق العبارات والمعاني السامية.وتنحدر المجتمعات العربية العريقة التي عجزت كل المؤامرات عن اختراقها لتصبح مجتمعات مادية حذفت من التداول عبارات السلام والود والتراحم.

الثقافة تراكم معرفة، وتبادل قيم وتطوير ذات وتهذيب سلوك، وعمادها المطالعة ثم الكتابة والانشاء، ويظهر تحصيل كل ذلك حين يمسك أحدنا بقلمه ويخط بيده محصلة معرفته على صحيفة بخط مرن ينم عن ذوق وطيب نفس، يستسيغ القارئ قراءته ويستحسن عبارته وعبرته.

ومن علامات المستوى الثقافي في المجتمع توفر الأدباء والشعراء وذيوع القصص وارتياد مجالس الأدب والمراكز الثقافية وازدهار المكتبات، فأين شباننا وشاباتنا من ذلك؟

اللغة هي الهوية وهي التي تحفظ التراث العريق وتنقله من جيل إلى جيل، والجيل الذي يُسقِط هذا التراث هو الذي يسقط من مسلسل التاريخ والحضارة والبناء، ومن أسقط العناية بلغته وتراثه، فقدَ هويتَه وصار تبعاً لكل نافذ، وناعقاً وراء كل ناعق.

باللغة الأنيقة تم تدوين القيم العريقة، ومن استهان بلغته استخف بقيَمه ومتى اختفت القيم ماتت روح المجتمع واندثر أثره وضاع مستقبله.

شتان بين لغة الجهل وبين اللسان العربي المبين كما وصف الله تعالى اللغة العربية في قرآنه الكريم.

لن تمحى حروف العربية من القرآن بل من ذاكرة هذا الجيل، فإذا قرؤوه استعجم عليهم، ولا يُخشى على اللغة العربية من الضياع فقد تكفل القرآن بحفظها على مرّ السنين، العجاف منها والطيبة على السواء، وقد تكفل الله تعالى من قبل بالقرآن وحفظِه، إنما يُخشى، إن تولى شبابنا عن لغة القرآن، أن يتولى الله عنهم وأن يتيهوا هم وذرياتهم في غياهب الدنيا بلا هوية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.