لغة السرّ – البعد الثالث

محمد فرشوخ

العدد الثاني عشر – شتاء 2010

في صباح يوم أحد ممطر، اجتمع في بيت الرجل الحكيم جمٌ غفير من الناس فيهم الذكور والإناث والفتية والشيوخ، جاؤوا من مناطق مختلفة، على غير موعد، بعد أن نمي إليهم خبر وعكة صحية ألمّت بالمعلم. وما أن أبلغ بخبر الحشد يتجمع في الردهة الواسعة حتى تحامل على مرضه وخرج إليهم متكئاً على عاتقي ولديه، أطل مبتسماً متمتماً بالسلام والدعاء ثم جلس مرحّبا، وأنصت الجميع فأتي بالمذياع إذ كان صوته خافتاً وضعيفاً جداً. قال:

يقول الله تعالى:{ ولقد كرمنا بني آدم}، ويقول:{ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}، إذ من آياته أنه أودع فيه من الآلات ما يحيّر العقول: أجهزة تعمل بنظام بديع وغدد تفرز ما يناسب من موادٍ وتغيّر بمعدلاتها حسب العمر والحاجة والظرف، وغدد أخرى تأمر الغدد الأولى وتنظم لها برامج أعمالها، في عالم سرّي يعمل بلا ضجة ولا كلل ولا منّة. فإذا حان الأجل صدر أمر واحد يتوقف عنده كل شيء.

ومن المؤسف أن يعيش المرء ثم ينتقل إلى عالم البرزخ ثم إلى العالم الآخر ليكتشف أنه كان مزوداً بجهاز عظيم خارق وفاعل ومؤثر لكن بعد أن فات أوان استعماله ويا للأسف.

أن نعيش باجسادنا فهذا أول استعمال وأقله أثراً، وأن نعيش بعقولنا وفكرنا فهذه حياة أفسح وأسعد، أما أن نحيا بقلوبنا وأرواحنا فهذه حياة خالدة لا موت بعدها، يجمع العبد بها سعادة الدنيا وفرح الآخرة.

حين تُغمَض عين الرأس ويستغرق العبد في التفكر والتذكر والتدبر، تفتح عين القلب التي تدعى البصيرة، وهي التي تعي حقيقة الحقيقة وما وراء الأحداث، والحكمة من كل أمر، لأنها عرفت الله فعرّفها مصلحتها، حين تخلت عن النقائص رفعها وكشف لها الأرقى والأسمى.

حين يُظهِر العبد في بداية أمره طاعة لله وتسليما، ينقله من باب الانقياد إلى باب الحب:{ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه}، فيفتح له مجالاً جديداً رحباً وفسيحاً، يحسّن له أخلاقه، ويصلح له باله، ويطمئن له قلبه، ويجعله شامة بين الناس، قال تعالى في سورة الأنعام: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ؟

لا يروي ظمأ القلب إلا الحب ولا يشفي العلّة إلا الخلّة، بأهل العلم والإيمان والإحسان، حيث يفتح باب الوصال ويدوم الاتصال.

الروح محلها القلب وإذا أطلقت من عقالها تم اتصالها، فتصبح مطلقة سيارة، تجوب الأكوان، تستطلع الأماكن قبل حلول الأجساد فيها، وتستشرف مجالس الطيب قبل انعقادها، يقول الإمام عليّ كرم الله وجهه: ( أرواح المؤمنين تلتقي قبل يوم وليلة من لقاء أجسادهم)، وتشعر بخطط المكر قبل اعتمادها، وتلهم صاحبها بما ينبغي وما لا ينبغي فعله وقوله، وفي الحديث:”إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له وازعاً من نفسه يأمره وينهاه”.

وعندما تنطلق الروح وينشرح الصدر ويطمئن القلب، البحر كله لا يروينا والكون كله لا يسعنا، وفي الحديث القدسي:{ ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن}.

يمتع الله العليّ القدير قلوب عباده النقية الصافية وأرواحهم السامية بلغة خاصة ، لا أهمية فيها للمكان ولا للزمان، تجتمع بأرواح من سبق وبمن قد يأتي ، لا شأن لها بالأسماء ولا بالأشكال، علاقتها مع مثيلاتها سمواً ونقاءً وارتقاء. تتبادل التحيات ويقتبس بعضها من أنوار بعض ويرتاح بعضها إلى بعض، ويتعلم بعضها من بعض.

وينعكس ما تعلمته على صاحبها، ثقةً بالله وسعةً في الصدر ، وطمأنينةً في القلب، وسكينةً في النفس، وصفاءً في الروح، وخيراً في القول، وعزيمةً في السواعد وهمةً في الأرجل والأقدام، وعلماً وحلماً. الروح القوية تحمل الجسد الضعيف، وجسد العاصين يثقل كواهل أرواحهم وينهكها.

لغة الأرواح لا تحتاج إلى حروف، والكلام المنمق لا يجدي عندها، كلماتها الأحاسيس وأوامرها الإلهام وحدودها شرع الله والأحكام، تستبشر بأقرانها وتضيق بأقران السوء، وفي الحديث: ” الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها إئتلف، وما تناكر منها اختلف”.

لا تقولوا صوفية إنها آيات قرآنية وأحاديث نبوية. إنه البعد الثالث للإنسانية، البعد الخفي القويّ عند المتعلقين بذي القوة المتين.

إذا خففنا علائق المادة دون مبالغة، خفت أثقالنا، وانقشعت ظلمات قلوبنا فصارت أرواحنا رشيقة، في الكون طليقة.

عدّل الحكيم من جلسته ونظر مبتسماً وقال:

كنت قبل حضوركم غير قادر على الحراك ولا على الكلام، وحين علمت بمجيئكم شكوت إلى الله عجزي وضعفي وناجيته: يا رب إن لكل ضيف قِرى (هدية)، وهؤلاء ضيوفك فتكرّم يا أكرم الأكرمين.

أرجو الله تعالى أن يكون قراه لنا اليوم، صفحاً عن ذنوبنا السالفة ورياً لقلوبنا العطشى، ونوراً نمشي به في الناس، ونوراً يضيء لنا الصراط يوم القيامة وصلى الله على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين.

خرج الحكيم من المجلس ووقف الجمع له احتراماً، لكن دهشةً علت الوجوه، إذ خرج يمشي منتصب القامة، لا يتكيء على أحد! ومن استوعب ما ذُكِر أعلاه فهم ما كُتِب أدناه.