نور على نور

محمد فرشوخ

العدد السادس عشر – شتاء 2011

علت الأصوات في حوار كاد يصل إلى الجدل بين عدد من الشبان، كان يحاول كل منهم أن يظهر مبلغ علمه وواسع معرفته، وكان الموضوع يدور حول معنى {الله نور السموات والأرض}. وبين هؤلاء وقف أقدم الشبان معرفةً بالحكيم وملازمةً له، فبادر بهدوء وابتسام: يا جماعة لم لا تحيلون السؤال إلى أهله؟ وكأنه سكب الماء البارد على الحاضرين وأعادهم إلى رشدهم، وهكذا كان، فقام بكتابة السؤال وأحاله إلى الحكيم الذي تطرق إلى الموضوع في أول جلسة، وقال:

عن أي نور نتحدث؟ عن نور النجوم التي أنارت الكون المظلم، أو نور الهدى الذي قال الله تعالى عنه في سورة النور: {يهدي الله لنوره من يشاء}، أو نور الرضى الإلهي الذي قال عنه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حق الصحابة الذين اشتركوا معه في غزوة بدر: “لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فإني قد غفرت لكم”؟

دعونا نبدأ بالخطوط العريضة، النور أنوار وليس نوراً واحداً، فلكل عمل صالح نور، ولكل طاعة نورها الخاص، ولا يشبه نورٌ نورا. نور الصدقة مثلاً نور يدفع أنواعاً من البلايا، ونور الوضوء نوره والغسل يرى واضحاً يوم القيامة، وفي الحديث: “من اغتسل يوم الجمعة بنية وخشية كتب الله له بكل شعرة نورا يوم القيامة…”، وللصلاة نورها، الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، وللذكر نوره يتراءى من بيت الذاكر لأهل السماء كما تتراءى أنوار النجوم لأهل الأرض، و” ذاكر الله في السوق له بكل شعرة نور يوم يلقى الله” كما جاء في الحديث الشريف.

ولمناسك الحج أنوارها من الطواف إلى الحلق. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري: “وأما حلقك رأسك فإنه ليس من شعرك شعرة تقع في الأرض إلا كانت لك نوراً يوم القيامة”. ونور الحلق هذا، يضع حاجزاً بين معصية مضت وبين مستقبل واعد بالإيمان، تشده عزيمة تنازلت عن مظهر وزينة زائلين، لتؤكد إصراراً على الصلة بالله وتفانياً في إطاعة أمر الله ورسوله.

تعالوا نستعرض بعض هذه الأنوار، وليكن دليلنا من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، واجعل في نفسي نورا، واجعلني نورا “.

وفي دعاء آخر:” اللهم اجعل لي نوراً في قلبي، ونوراً في قبري، ونوراً في شعري، ونوراً في بشري (أي جلدي)، ونوراً في لحمي، ونوراً في دمي، ونوراً في مخّي، ونوراً في عظامي، اللهم أعظم لي نورا، وأعطني نورا، واجعل لي نورا، وهب لي نوراً على نور، يا نور السموات والأرض”.

فالنور الذي في القلب هو نور الحقيقة، حقيقة الوجود الإلهي، وسر خلق الله تعالى للكون، فإذا عمي القلب عن الحقيقة عجزت كل أعضاء البدن عن تلمسها واكتشافها. وأنوار السمع والبصر والشعر والجلد هي الأنوار التي تعين الجوارح على الطاعات وتردعها عن ارتكاب المعاصي والآثام. والنور الذي عن اليمين نور الهداية والذي عن اليسار نور الوقاية، والنور الذي في المخ والعقل هو نور العلم ونور التفكر السليم. والنور الذي في اللحم هو ما ينبت من الكسب الحلال، والنور في الدم هو نور الصيام الذي يطارد وسوسة الشيطان الذي يجري مجرى الدم في العروق، والنور في العظم والعصب هو الذي يعطي القوة على قيام الليل وعلى فعل الخير، وعلى الصمود في الجهاد، والصبر في طلب لقمة العيش.

والنور من الأمام هو النور الذي ينير الصراط يوم القيامة والذي قال الله تعالى فيه: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم}. وأما النور الذي من الخلف فهو النور الذي يقتدي به من خلفهم من ذريتهم وتلامذتهم وأحبابهم ومن اقتدى بهم. والنور الذي من فوقهم هو النور الإلهي الذي يتنزل على العبد رحمة وكرماً، وعلماً لدنياً، ورفعة ومهابة، وإجلالاً بين الناس، وفي الحديث: “إن لله رجالاً إذا رؤوا ذكر الله لرؤيتهم”. وأما النور الذي من تحتهم فهو نور العناية الربانية الذي يحمي العبد الصالح من كل سوء يعده الماكرون والحاقدون والمخادعون للإيقاع به. و”اجعلني نورا” معناها اجعلني كلّي في خدمة دينك للدلالة عليك، ولا تترك مني شيئاً فيه حظ لنفسي. والنور الذي في القبر هو نور الأعمال الصالحة التي تحول ظلمة القبر إلى نور، وكذلك أنوار الأوراد وقراءة القرآن التي تحول وحشة القبر إلى أنس، وعكس ذلك أن الظلم ظلمات. و”أعظم لي نورا”، تعني مضاعفة الأنوار الناجمة عن العمل الصالح بأضعاف الأجر والثواب. وأما “اجعل لي نورا” فهي الإذن الإلهي بالرضا والقبول، لقوله تعالى: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}. وأما أعطني نورا فهو الطلب من الله تعالى أن يعطي مِن عنده ومن واسع علمه ما نحتاج إليه ولم يبلغه علمنا ولم يلهج به لساننا، فإنه يعلم ولا نعلم، ويعرف ما يصلحنا وما يضرنا. وأما النور على نور فهي اجتماع الأنوار الصاعدة حاملة الكلم الطيب والعمل الصالح والطاعات مع أنوار الله الهابطة بالرضا والأجر والثواب، والله أعلم.

أردف الحكيم قائلاً: أيها الأحبة، تحتاج كل عبارة وردت آنفاً إلى جلسة مستقلة، ولئن أوجزتها لكم فلأنني أتوسم فيكم الخير والأمل، بأن تقوموا بدرسها وتوسيعها وتعليمها للناس. وأرجو الله تعالى أن يفتح على بعضكم بالمزيد من معانيها وفقه مراميها، مصداقاً لقوله تعالى في آية النور في سورة النور: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {35}

وأتمنى أن تدرسوا معها قول الله تعالى في سورة التحريم: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا

مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {8}.

ثم تختتموا دراستكم هذه بالوصف الرائع لموقف المؤمنين والمنافقين على الصراط، كما ورد في سورة الحديد، حيث يقول الله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ {13} يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ {14} فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {15}.

فإذا أنهيتم دراستكم هذه تصبحون جديرين بأن ننتقل إلى تفسير الآية الكريمة: الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة إلى آخر هذه الآية العميقة والمشرقة والفواحة والمنيرة.

ختم الحكيم الإجابة بالدعاء فقال: اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، اللهم نوّر قلوبنا وعقولنا وجوارحنا، واهدنا للحق أنّى توجهنا، وأتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير. وانتهت الجلسة ليبدأ العمل بمقتضاها.