هل انتهى دور الرسول؟

محمد فرشوخ

العدد الرابع والثلاثون – صيف 2015

اقترب من الحكيم فتىً في سن المراهقة وعرض عليه نشرة التقطها من ساحة بلدته النائية يستفتيه في مضمونها. أمسك الحكيم الورقة من طرفها كأنه يستقذر ما فيها وقال: هاكم جماعة جديدة تحاول هدم الدين باسم الدين.

يدعي هؤلاء بأنهم مسلمون مؤمنون بينما يشيعون أن سيدنا وعظيمنا محمداً صلى الله عليه وسلم قد أدى ما عليه وانتهى دوره وأن الأجيال المعاصرة لم تعد بحاجة إلى أقوال وأحكام توالت عليها السنون والقرون وصار بإمكان الناس ان يكتفوا بما جاء في القرآن!

ويستندون زوراً إلى بعض الآيات فيتلونها في غير السياق والمعنى الذي أنزلت به، ومنها: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]، ومنها كذلك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3]. فانتفت عندهم الاستعانة بالنبي لأن الدين بزعمهم قد تم واكتمل!

وما ذلك إلا لكشف النوايا الخبيثة التي تظهر تباعاً، فيسقطون بعد ذلك الأحكام التي وردت على لسان نبينا ولم ترد في كتاب الله فتضيع أوقات الصلوات وأعدادها، وصارت لهم صلاتهم الخاصة بأشكال مستهجنة لم يقرها نبيٌ ولا خليفةٌ ولا وليّ، ويتغير موسم الحج ومناسكه وتترك نسبة الزكاة ليحددها كلٌ على هواه وبحسب مشتهاه… فيسقط عن الناس الكثير من تبعات الدين في العبادات كما في المعاملات، ولا يبقى من الأحكام إلا القليل حتى لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه. مثل أولئك الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ”. (صحيح البخاري (5/ 164).

المؤسف أن مثل هذه الجماعات تقودها في العلن فئة تدعي أنها مثقفة مستنيرة، تتقن الجدال وتجتزيء الآيات وتؤوّل معانيها بما تهواه أنفسهم، ومتى كثر التأويل كثر التضليل. والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء].

هم باختصار قد أضلتهم أنفسهم وأهواؤهم قبل أن يضلّهم إبليس، ركبوا رؤوسهم قبل أن تركبهم الشياطين، أسقطوا الفرائض وأطاحوا بالسنن، ومن يسمع مقالتهم ويراقب أعمالهم يعرف أنهم لم يأتوا بجديد وأنها من البدع القديمة التي لم تكن تظهر إلا في زمن الفتن وعند ضعف الولاة حيث لا رقيب ولا حسيب، فاضافوا إلى الفرق الضالّة فرقةً جديدة.

استغنوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن اتباع سنته يثبت على الصراط المستقيم ولأن إسقاط المسلم لحق نبيه صلى الله عليه وسلم يعني خروج هذا المسلم من دينه، ألم يشترط الله تعالى في آخر سورة البقرة ان نؤمن بكل رسله؟ فكيف ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الانبياء والرسل؟

كيف يُستغنى عن هديه صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه ينبهنا إلى عدم التذاكي في التفريق بين هداه وهدى رسله فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)} [النساء].

كشف الله تعالى زيغ قلوبهم وأن عداوتهم الحقيقية هي لله تعالى لا لرسوله، فقال لنبيّه: { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام]. بينما يقول تعالى في سورة النساء: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}.

نعم لقد خرجوا عن التزامات الرسول الذي لا ينطق عن الهوى ليتفلتوا بعد ذلك من دين الله. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب].

لو قرأوا القرآن تدبرا والتزاما لفوجئوا بأن ما من مرة يطلب الله تعالى فيها طاعته إلا وقرنها بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أين لهم بالهدى إذا خالفوا نبيهم الذي أمر بالتعلّم منه فقال في الصلاة: “صلوا كما رأيتموني أصلي”، وفي الحج قال: “خذوا عني مناسككم”. والله تعالى هو الذي أمر باتباع هدي نبيه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر].

مثل هؤلاء لم يخفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تنبأ بظهورهم، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب} ِ [آل عمران: 7]، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمْ الَّذِينَ عَنَاهُمْ اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُمْ”.( سنن ابن ماجه).

وعن عَبْدِ اللهِ ابن مسعود، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» قَالَهَا ثَلَاثًا. والمتنطعون هم المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.

حُرِموا من محبة الله حين أسقطوا دور نبيهم فأحدثوا هوة بينهم وبين مرضاة ربهم لا يمكن اجتيازها ولا ردمها لأن الله تعالى اشترط على من يحبه ان يتبع رسوله ومن فقد صفة اتباع النبي فقد محبة الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران].

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم: ” أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ،…”.( عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ).

لكن أقسى ما فقده هؤلاء هو مشاعر الحب والرفق والرحمة والجماعة في الدنيا، ولسوف يُسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم في قبورهم : ” ما كنتَ تَقولُ في هذا الرجل؟ فيقولُ: لا أَدري كنتُ أَقولُ ما يَقولُ الناسُ، فيقالُ: لا دَرَيْتَ ولا تَليْتَ، ثم يُضرَبُ بمِطرقةٍ من حديدٍ ضربةً بيْنَ أُذُنيْهِ، فيَصيحُ صيْحةً يَسمعُها مَن يَليهِ إلا الثَّقَليْنِ”.(صحيح البخاري). وما ينتظرهم يوم القيامة أقسى وأعتى وأضنى وأذل.

رحم الله من قال: (لا يُتَصوَّرُ إسلامٌ بلا سنة، ولا يُفهم إِسلام بِلا سُنَّة، ولا يُقبل إسلام بلا سنة). رسول الله هو الأسوة ومنه نتعلم علماً وعملاً وأداءً وأخلاقاً وفهماً واستيعاباً وشرعاً وحكمة. قال عزّ وجلّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب].

 ومن استغنى عن النبي صلى الله عليه وسلم، سلّم نفسه وعقله للبِدَع واستسلم للشياطين تغويه وتتلاعب به. لأن كتاب الله تعالى أبلغ من أن يفهمه امرؤ بمفرده ويخشى عليه إن عمل فيه بعقله دون موجّه ومعلّم أن يؤوّله وفق هواه، وَمَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ”. كما أخبر ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات].

قاريء القرآن ودارسه ومتدبره يحتاج إلى شارح ومفصل وواجب عليه أن يعرض ما قرأ وما فهم على شرح رسول الله حتى لا يدركه العجب برأيه والشطط بفكره والتقصير بعبادته. قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } [النساء].

أيظن هؤلاء أن الله غافل عن أمثالهم؟ معاذ الله فقد ذكرهم في كتابه العزيز فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.  وحذرهم ممن مغبة عصيانه واعتقادهم الباطل فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور]. ومن لم يَعِ عن النبي صلى الله عليه وسلم مقالته فهو أعجز من أن يتدبر بعقله كلام الله الجليل.

الحاجة إلى رسول الله مستمرة في الدنيا والآخرة: سنرد حوضه وسنشرب من كفه وسيقف عند الميزان يحمل بطاقة من صلّى عليه في الدنيا، وسيقف عند الصراط يدعو الله تعالى ان يسلّم له أحبابه. وقد خاب وخسر من أسقط كل هذه الأرصدة من حسابه  يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا عقل ولا فلسفة ولا تأويل.

وبأي شيء سيحتمي يوم القيامة من حرّم على نفسه شفاعة نبيّه صلى الله عليه وسلم ؟ بعمل أو بصلاة؟ لن ينجو إلا برحمة الله تعالى كما قال عليه الصلاة والسلام، ورسول الله هو من رحمات الله الكبرى. قال ربنا سبحانه: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء].

ختم الحكيم مقالته فقال: في كل قرن تطلع قرون الشيطان بالبدع ذاتها وتحت مسميات متعددة ويَبْعَثُ الله لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا، كما قال عليه الصلاة والسلام. هذا دون أن اتكلم عن روحانية النبي صلى الله عليه وسلم ودورها المستمر في استنهاض همم الفرد والأمة والذود عن الدين إلى قيام الساعة. فاحذروا المختزلين كما تحذرون المغالين وعليكم بكتاب الله وبسنة النبي وسنة الخلفاء الراشدين من بعده والله تعالى أسأل أن يهدينا سُبلهم والحمد لله رب العالمين.