وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟

محمد فرشوخ

العدد السابع – خريف 2008

لبى الحكيم دعوة أحد الأصحاب إلى طعام الفطور في صبيحة يوم أحد ممطر وكان الشاب من بين المدعوين، كان الطعام غنياً ولذيذاً وكان جو الجلسة أغنى وألذ، فقد كان الحكيم ينصح باختيار حضورٍ متجانسٍ متعطش.

وعندما قدِّمت الحلوى والفاكهة، سأل الحكيم: رجل أهديت إليه سيارة متطورة مجهزة بأحدث الآلات فركبها من قبل أن يستكشف قدراتها ومميزاتها وقادها كما يقود كل الناس سياراتهم عادة، ثم ضغط على أحد أزرارها فازدادت سرعتها فجأة وارتطمت وانقلبت! ماذا تقولون فيه؟

رد أحد الحاضرين: رجل جاهل، فأردف الحكيم: وما تقولون في رجل أمضى معظم عمره ولم يستكشف بعد كل الأعضاء التي خلقها الله فيه ولا القدرات الروحية التي منحها الله له؟

صمت الجميع وعرفوا أن الجلسة قد انطلقت، قال الحكيم: الكل يعرف أن الانسان روح وجسد، وكثيرون يعرفون وظائف الجسد وخاصة العلماء والأطباء، لكن ما علاقة الروح بالجسد؟ وأين التلاقي وفيم الاختلاف؟ بالطبع لكلٍ آلته ووظائفه.

فالجسد أرضي ومادي ترابي خلقه الله تعالى من صلصال كالفخار، وبالجسم نأكل ونعيش وهو القالب وتضطرب وظائفه جراء الشهوة والإفراط . وأما الروح فجوهر لطيف يدخل الجسم الكثيف فتدب فيه الحياة، به يعبر الإنسان من عالم المحسوسات إلى عالم الغيبيات، إذا أطاعه الإنسان ارتقى وسما، وإذا تجاهله صار كالبهائم، والروح ليس لها حدود وبها ينطلق الانسان إلى اللامحدود، إنها سر سماوي مقدس: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}، ومتى نزلت الروح في جسد الانسان تنشأ نفسه.

والنفس حالة برزخية بين الأصلين طيف يغمر الجسد ويحيط به، ويتأرجح هذا الوليد بين تياري الروح والمادة فينزع إلى الأعلى تارة ويرزح نحو الأسفل طوراً، قال تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض}.

ومن القليل الذي نراه من الروح أنها سر حياة الجسد وطالما بقيت الروح في الجسد طالما استمرت حياته، حتى يتوفى الإنسان فتعود الروح من حيث أتت وأما النفس فقد ارتهنت بما كسبت. قال تعالى: [ كل نفسٍ بما كسبت رهينة] .

فإذا صلحت النفس كانت وجهتها إلى الروح والعالم العلوي فاهتمت بمكارم الأخلاق والارتقاء والتعرف إلى الحياة الاخرة . وإذا فسدت كانت توجهاتها إلى الجسد فغرقت في المادة والشهوات البهيمية ومالت إلى النقائص. قال تعالى:{ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}.

وورد أن مركز النفس في أسفل القلب وأن الروح تعلوه :”.. وأما موضع النفس ففي القلب معلق بالنياط والنياط يسقي العروق، فإذا هلك القلب انقطع العرق “. وبالعبارة العلمية البطين الأيسر هوالذي يسقي العروق.

وأما القلب فله وظيفته العضوية ووظيفته الروحية وهو في الحالتين مسؤول عن بقية الأعضاء فيضخ إليها الدم والغذاء والأوكسجين وكذلك النور أو الظلام، وفي الحديث الشريف: “القلب ملك، وله جنوده؛ فإذا صلح الملك صلح جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده.”.. وقديماً قيل: سمّي القلب قلباً لتقلبه، أي بين توق الروح وبين هوى النفس. ومن القلب الطاهر ينطلق الحب والشوق وكذلك الرحمة…

فالروح تنشد السموّ وتحن إلى الجهة التي قدمت منها. صراع بين الخير والشر داخل الإنسان وخارجه، الروح جوهر نوراني علوي رباني، والنفس المهملة ظلمانية شيطانية ، أما القلب فمتقلب بينهما، قال تعالى:{يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}.

والروح طيبة شأنها الموافقة، موافقة الخير والشرع والحلال، والنفس خبيثة شأنها المخالفة، مخالفة الشرع والخير والحلال، والقلب إذا مال إلى أحدهما اتصف الانسان بصفته، وعلى القلب تتراكم الآثام أو تتكشف له الآفاق. قال تعالى في سورة المطففين: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون}. ولا تصبح النفس مطمئنة إلا إذا توفر لها ما يزكيها ويقومها:{قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دسها}.

والعقل آلة خلقها الله تعالى للتعرف على الحقائق وعلى عظيم خلق الله لمعرفة عظمة الله وقدرته وجلاله، ومن حديث رواه الوليد بن مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “.. .. ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت”، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته”. والعقل يكون إما لسان الروح عند العبد المستقيم يستقي الحق من القلب السليم، وإما آلة مطواعة للمنافق والكاذب يصرف طاقته في اختلاق الحجج والأعذار، وقد ورد: ( عقل المؤمن من وراء قلبه وعقل المنافق من وراء لسانه ) . فالمنافق يكذب أولاً وبعد ذلك يبذل جهده لكي يحصن كذبته بكذبات أخرى فيرهق عقله بكمٍ هائل من الكذب والنفاق، أما المؤمن فيستفتي قلبه الطاهر المفطور على الحق فتراه مرتاحاً لا يتكلم إلا بصدق وحق.

وصاحب العقل يعمل عقله في التفكر والبحث حتى يفهم الحقائق وأعظم حقيقة أن للكون خالقاً ومدبراً

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:-ح: “بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لكِ، رباً وخالقاً اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له”. والحقيقة الثانية من حيث الأهمية هي في قوله تعالى في سورة البقرة: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}. وتتالى حقائق الخلق والموت والبعث والحساب والجنة والنار…

ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجماعة تجمهرت حول شخص فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: مجنون، قال:” ليس بالمجنون، ولكنه مصاب، إنما المجنون المقيم على معصية الله تعالى”.

وما فائدة العقل إذا كان صاحبه لا يستعمله ولا يصغي إليه؟ ففي الحديث الشريف:” ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى، أو يردّه عن ردى”. والعقل يكبر ويتطور عند سعي صاحبه إلى المزيد من المعرفة عبر الاطلاع والمطالعة وعبر مجالسة أهل العلم والمعرفة، قال صلى الله عليه وسلم:”يا عويمر ازدد عقلاً تزدد من ربك قربا”.

والعقل هدية الله تعالى لمن أحب من خلقه، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:”الأحمق أبغض خلق الله إليه، إذ حرمه أعز الأشياء عليه”.

والعقل أول الجواهر الثلاث التي أهداها الله لعباده وثانيها الإختيار وثالثها الإرادة، فإذا فقه القلب أدرك العقل الصواب، وصدر قرار الإرادة وتحركت الحواس والجوارح باختيار صاحبها وإرادته وعلى ذلك يحاسب الإنسان.

وحبذا لو يتسع الوقت لشرح مكنونات العقل، وحجراته المسؤولة عن الذكاء والذاكرة والبديهة والمبادرة والوعي والإدراك، وخاصة الناصية التي في مقدم الرأس وهي المسؤولة عن الصدق أو الكذب، عدا عن حجرات الحواس الخمس وبقية الجوارح، قال تعالى في سورة الإسراء: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.

وعن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: ” إذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَم فإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّها تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتقِ اللَّهَ فِينا فإنما نَحْنُ مِنْكَ، فإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنا، وَإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا “.

وفي القرآن الكريم يسأل الله تعالى الناس: أفلا تتفكرون؟ أفلا تعقلون؟ أفلا تسمعون؟ وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟

فالحواس مقاربة وتحقيق، والعقل تفكر وتدقيق، والقلب انجذاب وتوفيق، والروح طواف وتحليق.

وفي الخلاصة، ختم الحكيم الحديث بقوله إحفظوا عني: ( خمسة لخمسة: القلب مهبط الأنوار والإلهام، والعقل مكان فهم كلام الله، والجوارح محل الأعمال، والروح مكان التجليات، والسر باب الوصال، وقديماً قيل: من لزم الأصول بلغ الوصول ). وانتهت الجلسة.