الإعجـــاز العلمي … ضوابط وحـدود

فهد عبد الرحمن اليحيى*

 

        إنّ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة جانب من جوانب الإعجاز لا يستهان به، وينبغي توظيف ما توصل إليه البشر لبيان الحق لهم كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ{53}} (سورة فصلت). وكما قال ـ جل وعلا ـ وهو المحيط بكل شيء، العالم بما كان وما سيكون: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{93}} (سورة النمل). ولكن مع أهمية الإعجاز العلمي غير أنه مسلك دقيق ينبغي التبصر فيه والحيطة والحذر في عرضه، ذلك أنه يتعلق بتفسير الوحي من القرآن والسنة، وتفسيرهما ـ كما لا يخفى ـ له أسس وقواعد، إذ ليس كل من شاء أن يفسر الوحي بما يراه فعل. ومن هنا كان للإعجاز العلمي الذي هو فصل من التفسير العلمي (بل هو أهم فصوله) ضوابط لا بد من الأخذ بها، كي لا يكون هذا التفسير قولاً في كتاب الله بغير علم، ومن أجل أن يحقق الغاية منه دون مساس بمصداقية الوحي وثبوته وقدسيته.

فمن هذه الضوابط:

1 –    من أهم الضوابط أن يقتصر الإعجاز على الحقائق العلمية التي وصلت إلى حد القطع بها، بخلاف ما دون الحقائق من النظريات أو حتى ما قد يعتبره البعض حقيقة علمية ويخالفه آخرون؛ ذلك أن إقحام ما عدا الحقائق القطعية في الإعجاز مخاطرة ومجازفة تنقلب على تصديق الوحي بالتشكيك فيه، وعلى الإعجاز بالاستهانة به وسلبه روح الإعجاز والتحدي.

        فلا حاجة إلى التسرع في الاكتشافات العلمية لربطها بنصوص الوحي قبل أن تستقر في تلك الاكتشافات وتكتسب مصطلح الحقيقة العلمية. ولدينا بعض الأمثلة لما أطلق عليه حقيقة ليثبت خلافها، أو ـ على أقل الأحوال ـ ظهرت أصوات تشكك في تلك الحقيقة.

فمن ذلك: إمكانية الوصول إلى القمر والنزول على سطحه، هذا الأمر الذي ما زال من أعظم الحقائق والمسلّمات لدى أكثر العالم، لم يكن محل اتفاق بين علماء الفلك، فقد ظهر بعد إعلان (ناسا) عن نزول القمر بسنوات ـ بعض العلماء، ومنهم عالم أمريكي يشكك في ذلك وينفي إمكانيته مستدلاً بطائفة من الأدلة.

ـ من المقطوع به لدى كل مسلم أن القمر قد انشق على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى كان فلقتين يراهما كل شخص ويفصل بينهما ـ حال الرؤية ـ الجبل، كما ثبت ذلك في القرآن في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ{1}} (سورة القمر). وثبت في السّنّة في أكثر من حديث منها: ما في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: انشق القمر على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شقتين فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: “اشهدوا”. وما في الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن أهل مكة سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر. وما في الصحيحين عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن القمر انشق في زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم. والسؤال: أين نظرياتهم التي يعدونها حقائق عن الكون منذ آلاف السنين الضوئية عن هذه الحقيقة القطعية؟! فإذا ما قبلها بآلاف السنين الضوئية قد أثبتوه على أنه حقائق علمية، فإن مثل هذا الحدث القريب جدٌّا ما داموا لم يثبتوه ـ بل هم ينفونه ـ يدل دلالة واضحة على عدم الوثوق بما يطلقون عليه حقيقة علمية.

        كانت الحقيقة الفلكية تقول بثبوت الشمس تمامًا ثم تغيرت فحلت محلها حقيقة حركة الشمس. وثَم أمثلة أخرى يمكن تتبعها وليس هذا موضع استقرائها.

2 –    ألا يكون التفسير العلمي أو الوجه من أوجه الإعجاز العلمي مجزومًا به عند تفسير الآية أو الحديث، بل ينبغي أن يساق على أنه قول في تفسير الآية أو شرح الحديث. فإن مما يلاحظ أن بعض من يذهب إلى التفسير العلمي للآيات أو الأحاديث يقطع بذلك، وقد يسوق أقوال المتقدمين في تفسيرها ثم يجعل التفسير العلمي هو القاطع لتلك الأقوال، والمرجح لواحد منها. وهذا يقال مع ملاحظة ما تقدم في الضابط الأوّل وهو كون النظرية العلمية أصبحت حقيقة علمية، وذلك لا يبرر القطع بتفسير الآية أو الحديث بتلك الحقيقة لما يلي:

        أن الحقيقة العلمية قد لا تكتسب الإجماع من أهل الاختصاص بكونها حقيقة، بل وربما اشتهر كونها حقيقة وذهب إليه الكثيرون، ولكن يبقى ثم خلاف في وصفها بذلك، وحينئذ يبقى احتمال تغيرها، وإذا تغيرت وقد فسر النص بها قبل التغير أنتج ذلك زعزعة النص عن دلالته وإعجازه والشك فيه.

        أن الحقيقة العلمية مهما كانت قطعيتها فهي قابلة للتطور، وقد لوحظ ذلك في تاريخ العلوم، فنظرية (أينشتاين) في الجاذبية ربما كانت في زمنها وإلى حين تعديلها تعتبر حقيقة قطعية، حتى جاء العالم البلجيكي (لومتر) فأجرى عليها التعديل المعروف.

        أن وصف الشيء بأنه حقيقة يمكن القول بأنه وصف نسبي قد لا يعني القطع بكل حال، ولدى كل من أطلق هذا المصطلح على نظرية ما، ومهما يكن فهي حقيقة ترجع إلى علم البشر القاصر فقد قال سبحانه: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً{85}} (سورة الإسراء).

        أن القطع في هذا الأمر لا حاجة له، إذ يكفي إيراد احتماله للإعجاز، فكما أن الوجه من أوجه الإعجاز البلاغي لا يمكن القطع به لاحتمال إدارة ما هو أبلغ منه مما يخفى على المفسر، فكذلك الأمر هنا.

3 –    من الضوابط ألا يقتضي التفسير العلمي للآية نقض ما جاء عن السلف فيها، فإن كانوا قد أجمعوا على معنى فلا يكون مستلزمًا نقضه، وإن يجمعوا واختلفوا فلا يكون أيضًا مستلزمًا لنقض جميع ما ورد عنهم، بخلاف ما لو وافق البعض واستلزم نقض البعض الآخر، فذلك لا يمنع التفسير به.

4 –    ألا ينطلق التفسير العلمي التجريبي من منطلق الانبهار بالحضارة والمكتشفات المعاصرة، ومن ثم تسليم المطلق بها لما له من الأثر على التعسف في حمل النص على وجوه بعيدة، كما ينعكس ذلك على الصياغة التي يساق بها هذا التفسير من حيث يشعر القارئ له بالهرولة بالنص وراء ما اكتشفه المعاصرون.

5 –    ألا يعارض اللغة وقواعد النحو.

6 –    ألا يكون مستلزمًا لمخالفة البلاغة القرآنية.

7 –    ألا يترتب عليه تحويل الاستشعار التعبدي إلى تمسك بالمادي، أو بمعنى آخر كتحويل العبادة إلى عادة أو استفادة مادية. مثال ذلك: التفصيل في فوائد الصلاة المادية (سواء كانت فوائد صحية أو غيرها).

8 –    يلاحظ أن يكون وجه الإعجاز واضحًا وليست مجرد إشارة بعيدة، حيث يلاحظ من بعض الكتّاب في هذا المجال أنه يورد النص المشتمل على لفظة (كالشهب، مثلاً) ثم يسترسل في التفاصيل العلمية للشهب دون أن يكون هناك علاقة واضحة بين النص وبين هذه التفاصيل إلا مجرد ورودها في النص، وهذا ليس من منهج الإعجاز العلمي الذي يقصد به أن النص من القرآن أو السنة قد ذكر أمرًا لم يكتشف إلا فيما بعد. فإن أريد مجرد التفكر مثلاً في خلق الله وفي الكون فلا مانع، لكن ليس على وجه الإعجاز أو الاستدلال بالنص على التفاصيل المذكورة.

9 ـ   عدم الخوض في الآخرة وما يتصل بها كالبرزخ والقيامة، فالنظريات التي تتحدث عن نهاية الكون ـ مع كونها لا تصل إلى الحقائق ولا يمكن ذلك لأنه أمر مستقبلي ـ لا يمكن بأي حال القطع به من جهة العلم التجريبي، مع هذا وحتى على فرض كونها حقائق فلا ينبغي تفسير القيامة بها لأمور من أهمها:

        أنه تفسير لأمر غيبي مستقبلي من علم الله تعالى، بل ومن أعظم الحوادث التي تحدث عنها القرآن، وبمجرد عقل الإنسان وعلمه القاصر، فيخشى أن يكون لمن تكلم به نصيب من:

قوله تعالى: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ{53}} (سورة سبأ)، وقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ{10-12}} (سورة الذاريات). وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً{36}} (سورة الإسراء). وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ{33}} (سورة الأعراف).

        أن فيه إشارة لتحديد يوم القيامة ما دام ذلك في حدود علم الفلك الذي يخضع للحسابات الدقيقة، فإذا فسرنا القيامة بنظريات نهاية الكون ـ فإن تلك النظريات لا شك أنها ضمن نمط النظريات الفلكية الأخرى التي تخضع للحسابات الفلكية، وحتى لو لم تذكر تلك الحسابات الآن فإن تفسير القيامة بنظرية فلكية معناه أن بإمكان البشر حساب ذلك ولو بعد حين، وهذا مُنافٍ تمامًا للآيات القاطعة بخفاء علم الساعة على البشر كقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ{187}} (سورة الأعراف). والآيات والأحاديث في هذا كثيرة معلومة.

        أن تفسير القيامة بتلك النظريات يسلب من القلوب والنفوس هيبة القيامة، وأنها أمر عظيم يفجأ العالم كله، ويصير شأنها أمرًا معتادًا كالليل والنهار أو كالكسوف والخسوف على أحسن الأحوال. وهذا لا شك أنه خطأ؛ إذ القيامة أمر عظيم كما قال ـ سبحانه: {يَآأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ{1-2}} (سورة الحج).

10- عدم الخوض فيما يتعلق بصفات الله تعالى، مما قد يفهم منه نوع من التأويل، كمثل من فسَّر الكرسي والعرش ببعض الأجرام السماوية، ونحو ذلك.

11 – من ضوابط الإعجاز ـ أيضًا ـ عدم التأويل المتكلف، وأن الأصل ظاهر اللفظ ولا يعدل عن ظاهره إلا بقرينة قوية.

هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 _____________________________________

* الباحث في الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة. للراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.nooran.org