الترجمة الخاطئة للعلم أدت لإرباك فكري

أ. د. جعفر شيخ إدريس*

أود أن أبين في هذا المقال بعض الحقائق في علاقة الدين بالعلم راجياً أن تساعد في حسم الخلاف في بعض ما دار في هذه المسألة:

أولاً: رأى الغربيون أن يميزوا بين العلم بمعناه العام الذي تدل عليه كلمة knowledge ، والعلم بالمعنى الخاص الذي هو العلم التجريبي أو الطبيعي، فاختاروا للثاني كلمة خاصة مأخوذة من اللغة اللاتينية هي كلمة “ساينس” science.

لكن الذين ترجموا هذه الكلمة إلى اللغة العربية فعلوا عكس ذلك تماما. لقد عمدوا إلى أكثر الكلمات دلالة على العلم بمعناه الواسع هي كلمة علم فجعلوها ترجمة للعلم بهذا المعنى الخاص. هذه الترجمة الخاطئة التي جعلت العلم بمعناه العام هو “الساينس” هي التي أدت إلى إرباك فكري ما نزال نعاني منه. إن بإمكان المتحدث بلغة غربية أن يقول عن كلامٍ ما: هذا علم (نولدج ( لكنه ليس ساينس. فكل ساينس علم وليس كل علم ساينس. لكن المتحدث باللغة العربية لا يستطيع أن يميز بين الأمرين إلا إذا وصف العلم بمعناه الخاص بالعلم الطبيعي أو التجريبي. وقد أدى هذا الخطأ إلى خطأ حتى في فهم طبيعة القرآن الكريم. فبالرغم من وجود عشرات الآيات التي تصف هذا الكتاب بأنه كتاب علم، صرت تجد حتى بين المؤمنين به من يقول لك إن القرآن ليس كتاب علم وإنما هو كتاب هداية.

وياليت شعري هل تكون هداية بغير علم؟ لكن عزاءنا أن الذين يقولون هذا إنما يعنون أن الإسلام ليس كتاب ساينس، وهو كلام صحيح. إن العلم بمعناه الواسع ليس قاصرا على العلم الشرعي ولا العلم التجريبي، بل إن كل كلام أو دعوى مطابقة للواقع فهي علم. ولكن لأن العلم الذي أوحاه الله تعالى هو أجلّ العلوم، فإن القرآن الكريم يذكره بصيغة مطلقة ويذكر غيره مقيدا، كما في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الروم 83). وقوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم 7).

ثانياً: لو أن مجال العلم الطبيعي كان منفصلا تماما عن مجال الدين لما احتجنا للحديث عن الفصل بينهما ، بل لقلنا إن الفصل قائم فلا تخلطوا بينهما لكن الواقع أن هنالك تداخلا بين الدين الحق وبين الساينس، يجعل الفصل الكامل بينهما أمراً مستحيلا. فالدين يتكلم عن مخلوقات الله تعالى المشهودة كما يتكلم عنها الساينس، لكن الأخير لا يتعرض لكل ما يتعرض له الدين من مخلوقات الله تعالى لأن وسائله لا تمكنه من الكلام عنها بعلم لأنه ما يزال يتطور فيكتشف اليوم ما لم يكن متيسرا له اكتشافه بالأمس وهكذا. وكلام الدين عن المخلوقات المشهودة التي هي من اختصاص الساينس هو الذي جعل شيئا كالإعجاز العلمي ( الذي ينبغي أن يفهم منه الإعجاز الساينسي) أمرا ممكنا. ما هذا الإعجاز؟ إنه تأييد السينس بوسائله العلمية الحديثة لحقائق قررها كتاب الله تعالى من قبل بغير تلك الوسائل.

دعينا ذات مرة لحضور مؤتمر طبي أقيم بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية كان فيه جلسة تتعلق بالعلاقة بين الطب والإسلام. وكان من ضمن ما سمعنا كلاما قاله أحد الأطباء الفلبينيين. قال إنه تخرج في علم الطب في كندا وأنه كان من أساتذته أستاذ مختص بعلم الأجنة، وأن هذا الأستاذ كتب له وهو بالفلبين بعد تخرجه وهو بالفلبين رسالة يقول له فيها إن في القرآن الكريم كلاما ملفتا للنظر عن تطور الأجنة، يعني قوله تعالى:

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون 12-14).

قال هذا الطبيب إنه لما قرأ هذا الكلام قال في نفسه إنه لم يكن من الممكن لبشر أن يعرف هذه الحقائق بالوسائل البشرية في الزمن الذي عاش فيه محمد صلى الله عليه وسلم. فلا بد إذن أن يكون محمد قد تلقاها من مصدر غير بشري، من الله تعالى. يقول ولذلك أسلمت.

ثالثاً: لست أدري كيف يستطيع إنسان يقرأ ولو شيئا من القرآن الكريم أن يقول بأمانة إن الدين الذي جاء به محصور في الأحكام والقيم. كيف يقول هذا وهو يقرأ في القرآن وصفا مفصلا لوقائع دنيوية وأخروية، تاريخية ومستقبلية؟ بل ربما كانت آيات الكتاب التي تقرر الحقائق أكثر من تلك التي تحكم وتقوم. لكن أخباره صادقة وأحكامه عادلة: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام 115).

رابعاً: الدعاوى التي يقوم على صحتها دليل عقلي وحسي هي حقائق يقبلها الدين ويذم من ينكرها. قال تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الأنعام 7).

وعليه فإنه من المستحيل عقلا أن يكون هنالك تناقض بين حقائق العلوم التجريبية (ساينس)

القاطعة، وحقائق الدين القاطعة. وأما إذا حدث خلاف بين ما ينسب إلى الدين وما ينسب إلى العقل أو العلم التجريبي في أمر ما فالأمر فيه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، أنه لا بد إما أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا، وفي هذه الحال يقدم القطعي أيا كان، وإما أن يكونا كلاهما ظنيين فيقدم ما كان أقوى دليلا.

خامساً: أما الكلام عن القيود على البحث العلمي فيحتاج إلى شيء من التفصيل فنقول:

• الحقائق الواقعية منها ما هو نافع ومنها ما هو ضار فلا بد إذن من تشجيع البحث في النافع ومنع البحث والتجارب في غير النافع. إن المخدرات ضارة فهل نسمح بتجارب تهدف إلى إيجاد أنواع منها أكثر تأثيرا على العقول؟

• حتى الحقائق التي لا ضرر فيها منها ما هو أكثر نفعا وما هو أقل نفعا. فإذا كانت البحوث فيها تحتاج إلى إمكانات مالية فلا بد أن يقدم ما كان أكثر نفعا على ما كان أقل. ولذلك تجد بعض الناس في الغرب يحتجون على صرف الأموال في بحوث الفضاء بينما يعاني كثير من الناس من الجوع والمرض والجهل.

• إن كل بحث علمي لا بد له من أن يتقيد بما اكتشف من حقائق تتعلق بمجاله. إن العلماء لا يبدأون بحوثهم من الصفر، وإلا لما تقدم العلم. وإذن فالكلام عن البحث المجرد من كل القيود هو محض خيال لا يقبله العلم التجريبي نفسه.

• لكننا نقول مع هذا نعم إن البحث العلمي سواء في الدين أو في الدنيا يحتاج إلى قدر كبير من الحرية.

سادساً: قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)( النحل: 78) وإذن فكل ما قام عليه دليل من الحس أو العقل فهو مقبول شرعا.

ولذلك فإنه إذا ثبتت حقيقة تجريبية فإننا لا نحتاج لقبولها إلى أن تؤيد بنص شرعي خاص بها، كما أننا نقبل الحقائق الشرعية من غير اشتراط تأييد لها بخصوصها بحقائق حسية وعقلية. إن الدين يقوم على افتراض أن المخاطب به إنسان عاقل يقبل شهادة الحس وشهادة العقل ويعرف شيئا من الحساب، ويسلم بقواعد المنطق الأساسية التي تقول مثلا إن الضدين لا يجتمعان، وأن الكلام المتناقض باطل. ولولا هذه المسلمات العقلية لما استطعنا أن نعتمد على الحس في معرفتنا لمواقيت الصلاة ودخول الأشهر، وتدبر القرآن واستعمال القياس وغير ذلك من الأمور التي تقوم على العقل والحس وهي جزء من الشرع.

_________________________

* وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.eajaz.org