الحرية في القرآن الكريم

بقلم أ. محمد البعلبكي*

بسم الله واياه نستعين

 

(…) ان حال الحرية المعروف في عالمنا العربي خاصة وعالمنا الاسلامي عامة يفسح في المجال بلا ريب لالتباس كبير نفذ منه ولا يزال ينفذ الكثيرون – وخصوصًا في الغرب – الى اعتبار العلة الاساسية في موقف الاسلام ذاته – كدين – من الحرية، انطلاقًا من جهل حقيقي او من تجاهل مقصود لحقيقة هذا الموقف، مآلهما مقولة ظالمة مروج لها لدى عامة الناس لا سيما لدى الاجانب هي ان “دين محمد صلى الله عليه وسلم دين السيف”، وانطلاقًا من ان صورة المسلمين اليوم هي حقيقة الاسلام، وذلك على الرغم من ان جمال الدين الافغاني اطلق منذ اكثر من مائة عام قولته الشهيرة مقررًا ان “الاسلام محجوب بالمسلمين”، او انطلاقًا من ان الدين كدين – سواء كان الاسلام او غير الاسلام – هو “افيون الشعوب” المعطل لارادتها، فهو اذن الوسيلة لسلب الشعوب حريتها واخضاعها لمختلف الوان الظلم والطغيان. مع ان هذا القول لو صح – لانسحب بالتأكيد على العقيدة نفسها التي جاء بها صاحبه واصبحت لدى اتباعها دينًا او ما يشبه الدين، وشهدنا مؤخرًا ثورة عدد من الشعوب عليها طلبًا للحرية.

كلا ايها الاخوات والاخوة.

انما العلة الحقيقية هي في التخلف العقلي الذي اصيب به العالم الاسلامي وجعل المسلمين في واد والاسلام في واد، وخصوصًا في شؤون الحياة الاساسية والقيم الانسانية الكبرى وفي طليعتها الحرّية.

… فكيف ايها الاخوة والاخوات اذا كانت دعوة القرآن الكريم ذاته انما هي في جوهرها الدعوة الى الحرية، بأرقى مفاهيم الحرية التي يمكن ان يدركها الانسان، على نحو ما سنبين في هذا الحديث. كيف اذا كان في القرآن الكريم ما يمكن حقًا ان يُباهَى به العالم؟

… منذ وجد الانسان على هذه الارض، وجد معه ذاك التوق الازلي السرمدي الى التحرر، فاذا هو يسعى الى التحرر من الخوف، ومن الجهل، ومن العوز ومن المرض، والى التحرر حتى من الزمان والمكان. وكل هذه ليست في الواقع الا قيودًا اذا امعنا فيها النظر امكننا القول بايجاز ان حاصلها ليس الا واحدًا هو الاستبداد وتعطيل الحرية، وان صراع الانسان عبر التاريخ لم يكن الا لانتزاع هذه الحرية والخلاص من نير الاستبداد الى كرامة الاختيار الحر.

… ونتوقف هنا لحظة لنقول ان التشريع القرآني وان لم يبلغ حد الغاء الرق قانونًا بالصورة الكلية لاسباب اقتصادية واجتماعية تتصل باوضاع البيئة آنذاك ولا مجال لتفصيلها الآن فان روح التشريع هي دفع المجتمع الى التخلص من هذه الآفة. والعبرة آخر المطاف لما عليه النفوس لا لما عليه النصوص. ومن هذا الباب حضّ القرآن على تحرير الرقاب، او فكها، وجعل ذلك كفارة مقبولة عن معاص كثيرة ترتكب، كما حض على مساعدة الذين يريدون التحرر من الرق حتى بالمال ان هم ارادوا ذلك: {والذين يبغون الكتاب مما ملكت ايمانكم فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرًا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}( سورة النور، الآية 33).

ثم ها هي بعد ارقى الامم اليوم تتباهى بالغاء الرق والتمييز العنصري في النصوص القانونية وهي ما تزال في الممارسة الفعلية اقرب الى جاهلية العرب ما قبل القرآن.

فهذا بلال الاسود الذي اعتقه الرسول يدعوه الرسول للاذان في بيت الله يوم دانت قريش كلها للاسلام اثر فتح مكة. وهذا الرسول يسمع مرة ابا الدرداء ينابذ عبدًا ويقول له: “يا ابن السوداء”، فيغضب صلوات الله وسلامه عليه حتى تنتفض عروق وجهه ويقول له: “ويحك يا ابا الدرداء، أردّة الى الجاهلية؟ ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل”. واتوني ان استطعتم اليوم في عصر حقوق الانسان بموقف كموقف عبد الرحمن بن عوف الصحابي الجليل احد العشرة المبشرين بالجنة اذ التقى في مجلس الرسول عبدًا من عامة الناس، وكان يخاصم عبد الرحمن في شيء، فغضب عبد الرحمن وسبّ العبد قائلاً: “يا ابن السوداء”. فردعه الرسول وقال له: “ليس لابن بيضاء على ابن سوداء سلطان الا بالحق”. والى هنا والحادثة تشبه حادثة ابي الدرداء، ولكن ما ترى فعل عبد الرحمن بن عوف حين قال له الرسول ذلك؟ لقد استبد به الندم والخجل، فما كان منه الا ان وضع خده على التراب واهاب بالعبد ان يطأ وجهه ويدوس على رأسه تعويضًا لكرامة العبد الذي جعل يتوسل اليه كي ينهض، فما نهض الا بأمر الرسول صلوات الله عليه ورضوانه على صحابته اجمعين.

ان التباسًا كبيرًا ينشأ بلا ريب في فهم موقف القرآن العظيم من هذه الحريات، من جراء مقاربة الموضوع من غير اعتماد الترتيب الزمني للآيات الكريمة، اي حسب تاريخ نزولها خصوصًا وان معظم الآيات التي تشرع قتال الآخرين في سبيل نصرة الدين واردة في سورة تأتي في مقدمة المصحف الشريف، بينما هي في الواقع سور نزلت في الثلث الاخير من العهد المدني للدعوة، واهمها في موضوعنا سورة “التوبة” التي هي السورة قبل الاخيرة حسب تاريخ نزولها، اي السورة رقم 113 بينما هي في المصحف الشريف السورة رقم 9. وهذا الالتباس الكبير يفسح في المجال لتشويش كبير عند غير الدارسين من المسلمين انفسهم، كما يفسح في المجال الى جانب التشويش لسوء القصد وللافتراء والتجني عند بعض هؤلاء وعند بعض غير المسلمين من الدارسين وغير الدارسين على السواء، ترويجًا للقول ان القرآن لا يعترف بحرية المعتقد للناس اجمعين، وان الاسلام بالتالي هو دين السيف لا دين حق الانسان المطلق في الاختيار. فلا بد اذن للفهم العلمي الدقيق من وجوب النظر في آيات القرآن الكريم في ضوء تسلسلها التاريخي، وفي ضوء اسباب النزول ايضًا، وان كانت العبرة كما يقول علماء الاصول بعموم النص لا بخصوص السبب. وحين يعتمد هذا المنهج لا بد من ان تبرز امام الدارسين وبشكل صارخ لا مجال فيه للبس الحق بالباطل، حقائق عظمى اهمها اثنتا عشرة حقيقة ترتبط احداها بالاخرى لتشكل كلاً لا يتجزأ وموقفً فلسفيًا محكم التكامل من الحرية. وهذه الحقائق هي الآتية:

الحقيقة الاولى:

هي ان القرآن ما هو الا تذكرة، وان كلا من الرسل جميعًا، وآخرهم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، ما هو الا مذكّر، مهمته محض التذكير، والنصح، والانذار، والتبشير، والبلاغ، والشهادة. وتترادف في هذا المعنى وتتوالى الآيات منذ بداية الدعوة في الآيات التالية: سورة المزمل {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً (19)}، وسورة المدثر {كلا انه تذكرة(54) فمن شاء ذكره(55)}، وسورة الانسان {ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا(29)}، وسورة المائدة {واطيعوا الله واطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين(92)}، سورة الاعراف {قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين(61) ابلغكم رسلات ربي وانصح لكم واعلم من الله ما لا تعلمون(62)} و{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد ابلغتكم رسلات ربي ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين(93)}، سورة الاعلى (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى {9} سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى {10}

وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى {11})، وسورة الغاشية (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ {21} لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ {22})، وسورة ق (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ {45})، وسورة الذاريات (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ {55} وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56})، سورة فاطر (إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ {23})، وسورة الاسراء (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا{105})، وسواها.

الحقيقة الثانية:

هي التقرير القاطع لمبدأ حرية المعتقد وحق الاختيار، وحق الصراع الفكري الأرحب. فما دام الرسول ليس الا مذكرًا ونذيرًا وشاهدًا، فمن حق الناس اذن بعد ذلك اختيار ما يرون، على ان يكون الاعتراف بهذه الحرية وهذا الحق متبادلاً بين جميع الاطراف، فلا يعطِّل سيرَ الصراع اكراه مادي او معنوي او لجوء الى اي ضرب من ضروب العنف. وتتسع هذه الحرية للفكر الذي يتناول اسمى الحقائق ولو كانت ذات الله سبحانه وجودًا او وحدانية. وذلك يقينًا بان ما هو اصوب هو الاقوى ولا بد له من ان ينتصر في العقل البشري فلا حاجة الى القوة المادية او القسر او الاكراه لتحقيق مثل هذا الانتصار. اما ما هو خطأ فهو الاوهن ولا بد له من ان ينهزم في العقل البشري، ولذلك فهو الاقرب عادة الى اعتماد القوة المادية او اللجوء الى القسر او الاكراه لفرض نفسه.

وتعود حرية الاختيار، حتى في معصية الخالق جل جلاله، الى لحظة الخلق الاولى للبشر وابيهم آدم. فأي تعليم الهي للناس هو هذا الذي يضرب المثل في افساح الخالق في مجال الاختيار الحر لمخلوقاته الملائكة في ان يسجدوا او لا يسجدوا لآدم بعد ان امرهم بالسجود واقام لهم البرهان على انه قد علَّم آدم ما لم يعلِّمهم وكرمه عليهم جميعًا. (…)

وكذلك كان شأن آدم، وكأن الله سبحانه لم يخصّه بتعليمه الاسماء كلها، وهي مفاتيح كل معرفة – اذ كيف يمكن ان تكون او تتركز معارف من غير تمييز الاشياء باسمائها – كأن الله سبحانه لم يخص آدم بهذا الا تدليلا على انه قد منحه ما لم يمنح سواه من مخلوقاته غير المدركة من قوة خاصة قادرة على الادراك وعلى التمييز بالتالي بين الصواب والخطأ وبين الحق والباطل. فلما لم يستطع كبح جماح نفسه اذ اغواه الشيطان طلبا لمعرفة كنه الشجرة المحرمة فاختار عصيان امر ربه واكل منها وزوجه اهبطهما الله الى الارض لكي يمارسا وذرياتهما حقهم في الحرية ولِيُشبعا وذرياتهما ذاك التوق الازلي الى المعرفة، فيكون البشر على الدوام والى يوم يبعثون امام الاختبار السرمدي العظيم، اختبار ممارسة الاختيار الحر وتحمل مسؤولية هذا الاختيار بالتالي. سورة البقرة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ {33} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ{34} وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36}) وسورة ص: (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {79} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ {80} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ {81} قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {83} قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ {84} لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ {85}).

ومن بعد آدم استمر الاعتراف بحق الاختيار الحر منذ ايام نوح، فها هو يقول لقومه: [قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ {28}](سورة هود) وكذلك ابراهيم من بعده: [قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا {47}] (سورة مريم) و [وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ{114}](سورة التوبة).

ومع خاتم المرسلين يستمر الموقف دون اي تبديل، وبكل وضوح، منذ بدء الدعوة حتى أواخر السور المدنية. فمنذ البداية كان القول الإلهي في سورة “الكافرون” وهي من أوائل السور المكية ورقمها 18 حسب تسلسل النزول، وذلك بعد أن أكدت قبلها “المزّمل” و”المدثر” أن القرآن ما هو الا تذكرة فمن شاء ذكره: [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6}]. ثم تتوالى الآيات المكية ففي “يونس”:[وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ {99}] وفي “الزمر”:[قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي {14} فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ{15}] وفي “الكهف”:[وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ{29}] ويتوج هذا المعنى العظيم بآية البقرة المدنية التي هي بلا ريب أوجز النصوص وأبلغها في الدلالة بل أخلدها على مرّ الزمان: [لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرشد من الغي{256}]، فعلى الرغم من أن القرآن يعلن أنه قد أنجز مهمته في تبيين الصواب والخطأ حتى تجلى للناس طريق الرشد وطريق الغيّ فإن الاكراه على سلوك أي من الطريقين ممنوع.

 

الحقيقة الثالثة:

        هي أن الاختلاف في الرأي وفي العقيدة هو طبيعة البشر التي لا تبديل لها، بل ان الله خلقهم لكي يتباين منهم الرأي وتختلف منهم العقائد. فقد ورد عدة مرات في القرآن تأكيد أن إرادة الخالق هي أن لا يكون الناس أمة واحدة؛ [أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ {99}] (سورة يونس)، [وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ {119}] (سورة هود)، [لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ{67}] (سورة الحج)، [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ {48}] (سورة المائدة).

        وإذا كان الأمر كذلك فإن أحدًا من البشر غير مخوّلٍ محاسبة الآخرين على عقائدهم حتى لو كانوا مجوسًا أو مشركين. إن الله وحده هو الذي يحكم بين الناس يوم الحساب، ويفصل بينهم في ما كانوا فيه يختلفون، طبعًا مع الانذار بالعقاب الالهي الشديد لمن اختار الضلالة. وانها لدرجة عليا في النص على عدم الصلاحية – كما يقول رجال القانون – في مجال العقاب البشري لاختلاف العقيدة أو الرأي او الفكر. ولذلك دعي يوم القيامة يوم الفصل في آيات كثيرة مكية ومدنية. وأصرح آية في هذا المعنى قوله تعالى في سورة الحج – وأعود فأقول أنها سورة مدنية نزلت قبل فتح مكة، أي في المرحلة الأخيرة من الدعوة: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {17}]، وفي سورة الأنعام: [إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ {57}]. بل إن الناس ممنوعون وإن آمنوا وعملوا الصالحات، من أن يُزَكُّوا أنفسهم استعلاءً على الآخرين: [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {31} الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى {32}] (سورة النجم).

الحقيقة الرابعة:

        هي أن حق الاختيار الحر مقترن اقترانًا لا انفصام له بالمسؤولية الشخصية التي تقع على صاحب هذا الاختيار دون سواه (…). ولعل أوّل إشارة إلى الرقابة الذاتية في التاريخ بل أوّل تقرير لها إنما جاء في قوله تعالى: [بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ {14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ{15}] (سورة القيامة).

        صحيح أن هناك أيضًا الرقابة الالهية التي تتحدث عنها سورة ق: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {18}]. ولكنها رقابة غير قمعية لا تلغي حرية الاختيار لدى الانسان، ولا هي تلغي رقابة الضمير، وانما هي لاجراء الحساب يوم الحساب: [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ {20} وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ {21} لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ {22}] (سورة ق).

        وما ورد معنى حق الاختيار الحر الا واتبع على الفور بمعنى المسؤولية. فإذ يخيّر الله الناس بين الايمان والكفر يحذرهم من سوء العاقبة إن هم أساؤوا الاختيار. ففي سورة الزمر: [إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {7}]، وفي الكهف: [وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا {29}]، وفي سورة الزخرف: [وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ {44}]، وسورة الصافات: [احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ {23} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {24}]، وسورة النور: [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {54}]، وسورة هود:[ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ{35}].

        وفي تحمل المسؤولية لا شفاعة حتى شفاعة الآباء. فما أغنى استرحام نوح لابنه عنه شيئًا، ويوم الحساب [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ{33}] (سورة لقمان)، [كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ {21}] (سورة الطور)، [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ{38}] (سورة المدثر).

الحقيقة الخامسة:

        هي رفض التقليد الأعمى في الرأي من غير اعتماد العقلن ولو كان التقليد يستند إلى تراث الآباء والأجداد. وفي هذا المبدأ أرفع درجة من درجات الدعوة إلى حرية الفكر وتحرير الانسان من أغلال المواقف السابقة التي يرسف في قيودها الانسان وتعمي البصيرة والبصر بغلالة من قدسية الماضي عن رؤية الحق والنور. والتقليد هو كما قال اوسكار وايلد: “تحية العوام لأصحاب العبقرية”. ولقد جاء القرآن يدعو الانسان في كل عصر إلى الارتفاع إلى مرتبة العباقرة.

        وفي السور المكية تسفيه لاتباع الآباء اتباعًا أعمى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ {21}] (سورة لقمان)، وفي سورة الزخرف: [بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ {24} فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {25}]، وسورة المائدة: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ {104}]ن وسورة البقرة: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ {170}].

        وعلى الرغم من سمو مقام الوالدين في القرآن الكريم، فإن دعوتهما أولادهما إلى غير الحق يجب أن تكون مرفوضة منهم، لأن التقليد الأعمى مرفوض: [وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ {14} وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {15}] (سورة لقمان)، وفي سورة الطور: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ {21}].

الحقيقة السادسة:

        هي أن الحرية لا تتجزأ، فهي لجميع الخلق على السواء، دون تمييز أو تفريق. ليست هي أرستوقراطية ولا هي غير أرستوقراطية. ليست حكرًا للأغنياء ولا لذوي السلطان ولا لفئة دون فئة. لا طبقية ولا تصنيف بين الناس في الحرية، بل مساواة كاملة في هذا الحق الاساسي من حقوق الانسان. ولا ينتقص من هذا الحق أن يكون ممارسوه من المستضعفين أو من “الأرذلين” أي من الطبقات الدنيا في المجتمع، من غير الأرستوقراطيين المترفين. [قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ {111} قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {112} إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ {113} وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ {114} إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ {115}] (سورة الشعراء)، [وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ {27} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ {28} وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ {29} وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ {30} وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ {31}] (سورة هود).

الحقيقة السابعة:

        هي أن ممارسة حرية الفكر ليس لها من سبيل إلا الحوار العقلي بين الناس. ولقد علّم الله الخالقُ نفسُه الناسَ كيف يكون الحوار بينه وبين مخلوقاته ومنذ الأزل، على الرغم من أنه في غنى عن ذلك، ويكفيه أن يكون له الأمر وعليهم الطاعة. وقد سبقت الإشارة إلى حواره سبحانه مع الملائكة ومع الشيطان ذاته. وحاور ابراهيم ربه بلوغًا لليقين فقبل منه الحوار وآتاه سُؤْله: [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {260}] (سورة البقرة).

        ولم يشجب القرآن في هذا الباب موقفًا كما شجب موقف رفض الحوار والاصرار على عدم ممارسته: [وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {7} يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {8} وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ{9}] (سورة الجاثية).

الحقيقة الثامنة:

        هي أن للحوار أصوله وعدّته وآدابه. فمن أهم أصول الحوار أن يكون حوارًا مفتوحًا لا عقدة فيه ولا شروط مسبقة ولا التزام افكار جامدة لا تقبل المناقشة مهما كان ايمان المرء بهذه الأفكار ويقينه بأنها هي الصواب دون سواها. وفي ذلك من احترام حق الآخر في الرأي المخالف مرتبة لا تدانيها أعلى مراتب هذا المعنى في تاريخ البشرية. وهذا الحوار المفتوح لا بد من أن يستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

        فها هو القرآن يدعو إلى الاقبال على الحوار بهذه الروح بل يشجع على الاقبال على الحوار بالانطلاق من التسليم الجدلي بأن الخصم قد يكون هو على حق. فبعد مناقشة طويلة في الادلة على وحدانية الله تأتي الآية في سورة سبأ: [قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {24}].

        أما عدة الحوار فهي العقل والمنطق والعلم والحجة والبرهان. فما أكثر ما يرد في القرآن: [قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111}] (سورة البقرة)، [وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ{117}] (سورة المؤمنون). ولا فائدة من محاورة الجاهل المحاور بغير علم: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ{20}] (سورة لقمان)، ومثلها في سورة الحج: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ {8}]، وفي آل عمران: [هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {66}].

        وكثيرًا ما ترد في القرآن كلمة “سلطان” في معرض الحديث على الجدال، واعتبار “السلطان” شرطًا للحوار لا يستقيم بغيره. ويستوقفك الأمر لما لهذه الكلمة من معنى شائع هو معنى القوة والتحكم المادي، ثم تأخذك الدهشة الكبرى ويستبد بك الاعجاب العظيم عندما تكتشف (…) في المعاجم أن معنى “سلطان” في الأصل هو الحجة والبرهان المستمدان من العقل والعلم فـ [إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ {56}] (سورة غافر)، و[يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ {33}] (سورة الرحمن)، أي بعلم وتكنولوجيا إذا صح التعبير (…).

        وكذلك اللين والحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والكلمة الطيبة هي في القرآن من عدة الحوار السليم: [اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي {42} اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {43} فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى {44} (سورة طه)، وللرسول العظيم قال الله: [ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {125}] (سورة النحل).

        وللحوار أيضًا آدابه إلى جانب أصوله وعدته. وقمة هذه الآداب عدم الضيق بالحوار، ووجوب الصبر على القول المخالف، والاعراض عن اللغو، [وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ {70}] (سورة النمل)، والآيات في ذلك كثيرة: [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ {214} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {215} فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ {216}] (سورة الشعراء)، و[أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {8}] (سورة فاطر)، و[فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ {79} إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ {80} وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ {81}] (سورة النمل)، و[فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ {60}] (سورة الروم)، و[وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {51} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ {52} وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ {53} أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {54} وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ {55}] (سورة القصص).

الحقيقة التاسعة:

        هي أن ممارسة الاختيار الحر لا يجوز أن يُعَلَّق على شرط الانتفاع المادي أو حساب الربح والخسارة أو على الخوف من الارهاب. فالخضوع للمادة عبودية تعطل الحرية. وحين يقع الاقتناع برأي لا يجوز أن يَحُول دون اعتناقه حائل أو ذريعة من ارتزاق أو استضعاف: [وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {57} وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ {58}] (سورة القصص)، و[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ…{67}] (سورة العنكبوت).

        وكما أن الحرية حق لك، فإن من حقها عليك أن تصونها. وصيانتها لسواك واجب كما هي صيانتها لنفسك. وإذا أنت لم تصن حريتك وحقك في الحرية، حتى لو اقتضى الأمر هجرة موطنك نفسه مؤقتًا – على جليل قدر الوطن في حياة الانسان – إلى موطن آخر لا تضييق فيه على الحريات فإنك ظالم لنفسك ولا عذر لك في أنك مستضعف أو غير ذي طول: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {98} فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا {99}] (سورة النساء)، و[إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي{26}] (سورة العنكبوت).

الحقيقة العاشرة:

        هي أنه لا يجوز إساءة استعمال الحرية فإن للحرية حدودًا لا يجوز تخطيها. وقد بين القرآن هذه الحدود وشدد عليها في مواضع متعددة. فالحرية لا تعني افتراء الكذب على الله وعلى الناس. والحرية ليست حرية لبس الحق بالباطل أو حرية كتمان الحق، ولا تحريف الكلام عن مواضعه بعد أن يعقله الانسان.

والحرية لا تعني النجوى بالاثم والعدوان: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {9}] (سورة المجادلة).

والحرية لا تعني قول الزور: […فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ{30}] (سورة الحج).

والحرية لا تعني حرية شتم الآخرين: [وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ…{108}] (سورة الأنعام).

والحرية لا تعني إساءة الظن بالناس ولا أن يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {11} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ {12}] (سورة الحجرات).

والحرية لا تعني ترويج الشائعات الكاذبة على مثال حديث الإفك: [إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ {11} لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ {12} لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ {13} وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {14} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ {15} وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ {16} يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {17} وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {18} إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ {19} وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ  اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ {20}] (سورة النور).

والحرية لا تعني الانفعال بنبأ الفاسق قبل التثبت من صحته: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ {6}] (سورة الحجرات). وانما قول الحق هو شرط الحرية. انه الأمانة التي عرضها الله على السموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الانسان: [إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً {72}] (سورة الأحزاب). تلك هي أمانة القول السديد الذي به تصلح الأعمال وتغفر الذنوب: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا {71}] (سورة الأحزاب).

 الحقيقة الحادية عشرة:

        هي أن حق الحرية للإنسان ليس من غير ثمن باهظ. وكل اختيار حر لا يمكن أن يثبت لصاحبه من غير اختبار عظيم. إنه ما يمكن أن ندعوه باللغة الأجنبية test الحرية. وهو ما يعّبر عنه القرآن الكريم بالفتنة أو البلاء، أي محاولة صرف الانسان أو تحويله عن دينه أو معتقده أو فكره أو رأيه بالترغيب أو الترهيب أو الخداع أو الممالأة. (…)

[…وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {35}] (سورة الأنبياء).

[إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {7}] (سورة الكهف).

[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ {31}] (سورة محمد).

فالفتنة هي قدر المؤمن. وما من سلاح له في وجهها إلا الصبر والثبات على الايمان والتضحية حتى الاستشهاد تشبثًا بحرية الاختيار: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3}] (سورة العنكبوت)، و[وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ {10} وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ {11}] (سورة العنكبوت).

الحقيقة الثانية عشرة:

        هي أن حق الحرية على الانسان أن يدافع عنها بكل الوسائل حتى القتال.

على أن القرآن لم يشرع القتال دفاعًا عن الحرية إلا في المرحلة الأخيرة من الدعوة، مؤثرًا تعليم أتباعه اعتماد كل الوسائل السلمية تجنبًا للعنف حتى ولو كان اللجوء إلى العنف المادي اضطرارًا لغاية الدفاع. وقد كان القتال ممنوعًا على المسلمين حتى انزلت آية الاذن به في سورة “الحج” المدنية. بل ان القرآن كان يحض المسلمين على أن يبروا خصومهم إن هم لم يعتدوا عليهم أو يقاتلوهم في دينهم: [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {9}] (سورة الممتحنة).

______________________________________

* نقيب الصحافة اللبنانية