حجّوا قبل أن لا تحجّوا

ع.م.د. محمد فرشوخ

{بسم الله الرحمن الرحيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)}.

تنبيه يقرع الأسماع، ومشاهد لا يمكن تجاهل مفاعيلها في المخيلة والأذهان، هي صورة نهاية الدنيا وجمع الناس يوم القيامة لا ريب فيه، تظهر في كل عام مصغّرة مختصرة بثلاثة أو أربعة ملايين من الحجاج القادمين من كل فج عميق، لتلقي في روع كل حاج هيبة الموقف وعظمته، ولتبعث الأمل في قلب كل حاج بقبول توبته، وغفران ذنوبه وفتح صفحة جديدة في حياته وأدائه، قبل فوات الأوان، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”[1].

والحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، وفرض أمر به المولى تعالى فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]. فصار دَيناً معلّقاً في رقبة العبد حتى يؤديه.

ومن أداه كان ملبياً مستجيبا لدعوة الله تعالى حين قال:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، (سورة آل عمران:27) وكان حقاً على الله تعالى أن يكرم ضيوفه، والحديث: “الحُجّاج والعُمّار وفد الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم”[2].

الحج فريضة واجبة على كل مسلم ومسلمة، والأعذار فيها قليلة نادرة، وفي ذلك خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ” أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا “[3]. وتلبية أوامر الله شرف للعبد وهي أيضاً فرض سواء كان العبد طائعاً محباً أو مرغماً متبرماً، قال الله تعالى لإبليس في سورة الأعراف: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}؟

ويروي الحارث بن سويد عن سيدنا علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى حَبَشِيٍّ أَصْمَعَ أَفْدَعَ بِيَدِهِ، مِعْوَلٌ يَهْدِمُهَا حَجَرًا حَجَرًا”، فَقُلْتُ لَهُ: شَيْءٌ تَقُولُهُ بِرَأْيِكَ أَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عليٌ): «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»[4]. وفي رواية : ” فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ بِأَيْدِيهِمْ مَعَاوِلُ يَهْدِمُونَهَا حَجَرًا حَجَرًا “[5] ، بينما نرى عجبا من بعض الناس، حين يحدثك عن جولاته السياحية حول العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، دون أن يمر بخاطره القيام بفريضة الحج الواجبة عليه، كأنه لم يسمع من قبل عتب ربه عليه، ففي الحديث القدسي “يقول الله عزّ وجلّ: إن عبداً صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم”[6].

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أراد الحج فليتعجل، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ”[7]، فلربما عاجله الموت او المرض أو الفقر بعد ذلك. ومن كان به بخل أو خاف الفقر والعيلة فله العهد من رسول الله الكريم: ” تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا، تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ، خَبَثَ الْحَدِيدِ”[8].

بعد ذلك كله نسمع من يقول إن الحج لم يعد ضرورياً لأن هدفه كان جمع الناس لتعريفهم بالدين الجديد، وفي عصر الفضائيات اليوم لم تعد بالناس حاجة للتنقل والسفر، وصار بإمكانهم مشاهدة المناسك وسماع العلم وهم في بيوتهم ولا داعي لتكبد مشقات السفر والمناسك. وآخرون يرون في الحج عادة قديمة وأن من السذاجة الاستمرار في أداء مناسكها، وإذ بالمولى يرد عليهم مستبقا نظرياتهم “الباهرة اللامعة”، فيقول في تتمة الآيات الاولى من سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}.

الحج مستمر إلى ما شاء الله علمه من علمه وجهله من جهله، والحجاج والتائبون بالملايين والذين ينتظرون دورهم أكثر، ومن ذاق عرف، ومن حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: ” إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتُصَافِحُ رُكَّابَ الْحُجَّاجِ، وَتَعْتَنِقُ الْمُشَاةَ “[9]، ولن يتضرر الحج من غياب بعض المتلجلجين، ولن تهتز تجارة أهل مكة والمدينة جرّاء عزوفه، والمحروم من حرم نفسه، {والعصر إن الانسان لفي خسر}، وهنيئاً لمن حج فيصح فيه دعاء سيدنا إبراهيم: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}[10]، أي حباً ولهفة وشوقاً، ويسّر الله تعالى حج الراغبين وجبر خواطرهم وتقبل منهم.



[1]  عن أبي هريرة أخرجه مسلم وأحمد وابن حبان والبيهقي والترمذي.

[2]  عن أبي هريرة أخرجه ابن حبان والطبراني والبيهقي.

[3]  الإمام أحمد والإمام البيهقي عن أبي هريرة.

[4]  عن الحارث بن سويد عن علي، أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/ 617).

[5]  (أخبار مكة للفاكهي (1/ 362)) عن الحارث بن سويد. وفي لفظ آخر عن أبي هريرة: ” ثُمَّ تَأْتِي الْحَبَشُ، فَيُخَرِّبُونَهُ خَرَابًا لَا يَعْمُرُ بَعْدَهُ أَبَدًا “.( أخبار مكة للفاكهي (1/ 364)

[6]  إبن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط والبيهقي في السنن الكبرى، عن أبي سعيد الخدري.

[7]  أحمد وابن ماجه والطبراني والحاكم وأبو داود والدارمي والبيهقي عن ابن عباس.

[8]  ابن ماجه وأحمد وابن حبان والطبراني والبيهقي والنسائي عن عمر وعن عبد الله بن مسعود وعن ابن عباس.

[9]  عن عروة بن الزبير عن عائشة أخرجه البيهقي في شعب الإيمان.

[10]  سورة إبراهيم -37.