د. هند فوّاز

المدّ والجزر حركة توافقية متلازمة ومنتظمة، تتجلى في ارتفاع سطح المياه في المحيطات وبعض البحار (مدّ)، ثم انخفاضها (جزر). وحدث أن هذه الظاهرة استوقفت كثيرًا من المفكرين منذ تاريخ موغل في القدم. فراح هؤلاء يبحثون في أسبابها، حتى توصلوا، عن طريق مداومة الملاحظة، إلى تزامن حدوث أعلى مدّ مع وجود القمر في منازل معينة في السماء، وفي مراحل معينة من عمره. وأوّل من لاحظ هذا التزامن بحار من مدينة مرسيليا على البحر الأبيض المتوسط، يدعى PYTHEAS في القرن السادس قبل الميلاد. ثم ظهر عالم آخر هو PLINE L’ANCIEN (23– 79 م) وأشار إلى وجود علاقة لكوكبي الشمس والقمر في إحداث المدّ والجزر. غير أن هذا الرجل ذاته صادف حالات شاذة لا تتطابق مع نظريته، كأن يحدث المدّ في بعض المناطق سبع مرات في النهار وسبع مرات في الليل، ثم يتوقف عن الحدوث ثلاثة أيام في الشهر هي السابع والثامن والتاسع من عمر القمر، وأن مناطق يحدث فيها المدّ مرات بالتزامن مع حدوثه في المحيط، ومرات في أوقات مغايرة[1].  

وبما أن المسلمين لم يكونوا ليقصروا في إثراء شتى أنواع العلوم بمباحثهم، فقد تطرق بعضهم إلى البحث في أسباب ظاهرة المدّ والجزر. من هؤلاء نذكر الرحالة ناصر الدين خسرو (452هـ/1090م) والجغرافي زكريا بن محمد القزويني (682هـ/1283م) وشمس الدين الدمشقي (727هـ/1326م). وقد استوقفنا تحليل الدمشقي لظاهرة المدّ والجزر بقوله “والذي هو أقرب إلى الصحيح أن طبيعة المحيطات اقتضت ذلك على ما هو عليه من المدّ والجزر، كما يربو جوف الإنسان بالنفس ويضمر عودًا إلى حاله الأولى أبدًا ما دام حيًّا وكما يمد سواد عين القط ويجزر”[2]. وقبله أعزى القزويني المدّ والجزر إلى عامل الحراة المنبعثة من الشمس، ويعظم تأثيرها عندما يكون القمر في أحد الأفقين، الشرقي أو الغربي، أي في مواجهة الشمس (منتصف الشهر أو مجتمعًا إليها أوّل الشهر)، شارحًا أن تلك الحرارة تصل إلى الصخور في أعماق البحار، فتعمل على رفع درجة حرارتها وكذلك حراة المياه فتتمدد وتتدافع حتى تملأ مكانًا أوسع. ومتى زال القمر عن أحد موضعيه (المشرق أو المغرب) ووصل فوق وتد الأرض، بردت تلك الأجزاء، وعادت إلى حجمها الأوّل[3].

وبعد مضي حوالى ثلاثمائة سنة على نظريات الجغرافيين المسلمين عادت ظاهرة المدّ والجزر تستقطب جهود علماء غربيين من أمثال  JOHANNES KEPLER ( 1571 -1630)، غير أن هذا الفلكي رفض تمامًا فكرة أن يكون للقمر أي تأثير في إحداث المدّ، على اعتبار أن مداره صغير جدًا، لذا يستبعد أن يكون له أي تأثير على الأرض[4]. أما الفيزيائي والفلكي الإيطالي Galilee (1564 – 1642)،  فأعزى الظاهرة إلى دوران الأرض حول نفسها[5]. إلا أن ظهور قانون نيوتن للجاذبية سنة 1687 بمعادلته  F = G   mm /d²   وضع حدًا لكل الأقاويل، إذ أثبت من خلال هذه المعادلة أن قوة الجذب بين جسمين تتناسب مع كتلتيهما بالنسبة لمربع المسافة الفاصلة بينهما، بسبب أنه لكل جسم قوة جذبه الخاصة[6].

وفي الواقع لنا على هذه المعادلة ملاحظة تكمن في كيفية حدوث الاختلاف الزمني والكمي لحدوث المد فوق منطقة جغرافية واحدة؛ مثلاً في الإمارات العربية المتحدة، عند ميناء زايد الواقع على خطي 24,3833 شمالاً و 54,3833 شرقًا، وبتاريخ 21/1/2000 الساعة 8,41 اكتمل القمر بدرًا، وفي الساعة 12,56 بدأء المدّ وبلغ ارتفاع المياه 2,18 م ، أي بعد مضي أربع ساعات على اكتمال القمر بدرًا فوق ذلك الميناء. وعند الفجيرة في الإمارات العربية أيضًا، والواقعة على خطي 25,1333 شمالاً، و 56,3500 شرقًا، وفي اليوم ذاته (21/1/2000) وفي الساعة ذاتها (8,41) بلغ القمر منزلة البدر، غير أن المدّ حدث عند الساعة 9,47، أي قبل حدوثه في ميناء زايد بحوالى ثلاث ساعات، وبلغ ارتفاع المدّ 2،48م، أي بزيادة 30سنتم عن المدّ في ميناء زايد. يمكن الرجوع إلى هذه المعلومات عبر الأنترنيت على الموقع التالي htt://tbone.biol.sc.edu/tide/tideshow.cgi . وهذا مثل واحد من عشرات الأمثلة على المغالطات التي جمعناها في كتابنا “خواطر حول ظاهرة المدّ والجزر”. والذي يطّلع على تلك المغالطات لا يسعه سوى دحض النظريات العلمية حول ظاهرة المدّ والجزر دحضًا مبرمًا.

وبالإضافة إلى ذلك يذكر أن العلماء توصلوا إلى أن قوة تأثير جاذبية القمر للأرض لا تتجاوز 35 سنتم، وأن قوة جاذبية الشمس لا تزيد على 16 سنتم، أي أن مجموع قوة جاذبية هذين الكوكبين هي 51 سنتم. فما الذي يجعل المياه في بعض المناطق الفرنسية (في سان ميشال) ترتفع إلى16 مترًا، وفي خليج فوندي في كندا إلى 19 مترًا، في حين لا يزيد ارتفاع المياه في خليج السويس في مصر  على المترين ونصف المتر في حالات المدّ العظمى، ومثلها تقريبًا في معظم مناطق الخليج العربي والبحر الأحمر[7].

والجدير ذكره أيضًا أنه أثناء المدّ كثيرًا ما تكون وجهة سير المياه أثناء ارتفاعها في اتجاه معاكس لوجهة سير القمر. فلو كان المدّ يحدث بفعل جاذبية القمر لكانت وجهات مدّ المياه ملازمة لوجهة سير القمر في فلكه وهي من الشرق إلى الغرب، في حين أن المدّ يكون من الشمال إلى الجنوب، وبالعكس أثناء الجزر.

ولكن يلاحظ أن حالات المدّ القصوى تحدث عندما يكون القمر في منازل معينة في السماء، وعندما يكون في عمر معين أيضًا، وهي أوّل الشهر القمري (يكون القمر مجتمعًا إلى الشمس – من حيث الموقع الأفقي وليس من حيث المسافة-)، وعند التربيعين الأوّل والأخير، أي عند تتمة الأسبوع الأوّل من عمر القمر وبداية الأسبوع الأخير من عمره، ومنتصف الشهر القمري ( القمر مواجهًا للشمس)، ويكون في أحد الأفقين الشرقي أو الغربي.

وفي الواقع عندما تناولت موضوع المدّ والجزر قمت بنقد النظرية العلمية الحديثة التي تسلّم بتأثير جاذبية القمر والشمس بشكل مطلق. وبالمقابل طرحت فرضيات بديلة ركّزت فيها على ثلاثة عوامل مجتمعة؛ هي: عامل حرارة باطن الأرض، وعامل الريح الشمسية. وقد اثبتت وجودهما البحوث العلمية تأثير هذين العاملين.

بالنسبة للعامل الأوّل أو الفرضية الأولى (حرارة الأرض)، فقد ثبت علميًا أن حرارة باطن الأرض هي بين 1200 إلى 1800 درجة مئوية، وأنّه على عمق 50 كلم وما بعد ترتفع درجة حرارة باطن الأرض إلى درجة تؤدي إلى ذوبان الصخور[8]. من جهة أخرى أحصى العلماء 3000 جسم معدني يدخلون في تركيب القشرة الأرضية، ووجدوا أن هذه الأجسام العدنية مكونة من امتزاج مادتين إلى أكثر من 92 مادة مع بعضها لتعطي مادة، أو جسمًا معدنيًا جديدًا. فالمنطق يفرض أن هذه المواد المعدنية عندما تتفاعل تولد طاقات مغناطيسية وربما حرارية تتسبب في ارتفاع درجة حرارة الأرض، وبالتالي تمددها. كما يمكن لهذه الحرارة أن تنخفض بفعل دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، ومن الضروري أيضًا أن تتأثر المياه بالتقلبات الحرارية، فتتمدد على السخونة، وتتقلص على البرودة.

وأما الفرضية الثانية التي أدخلنا فيها عامل الريح الشمسية فمفادها أن الريح المنبعثة من الشمس والتي تنهمر في الفضاء، وتخترق مدار الكرة الأرضية، وتتعداه إلى خارج حدود المنظومة الشمسية، فإنها تحدث في طريقها تجويفات في المجال المغناطيسي للأرض[9]، فمن المحتمل أن يكون دور القمر في إحداث المدّ يبدأ من هنا، بأن تحجب كتلة هذا الكوكب جزء من الريح الشمسية عن بعض البقع على سطح الأرض. وتتغير آثار هذا الحجب في منازل معينة للقمر في السماء، وتتجلى آثارها ليس فقط في حالات المدّ والجزر المتنوعة، وإنما أيضًا في إحداث ما هو أخطر بكثير من هذه الظاهرة، كما سنوضح بعد قليل.

وفيما لو تصورنا حركة ابتعاد القمر عن الأرض، ثم اقترابه منها، ألا يحملنا ذلك على الرجوع إلى المؤرخ والجغرافي العربي شمس الدين الدمشقي حين يقول: “…إن طبيعة المحيط اقتضت ذلك على ما هو عليه من المدّ والجزر كما يربو جوف الإنسان بالنفس ويضمر عودًا إلى حاله الأولى أبدًا ما دام حيًا، وكما يمد سواد عين القط ويجزر”؟ وهذا القول أيضا نفترض أنه ليس بالضرورة أن يكون تجاوب كل مناطق المسطحات المائية متساوية مع دورة تنفس الأرض، وهذا ما يفسر أسباب ارتفاع المدّ في مناطق إلى 19 مترًا، وفي مناطق أخرى إلى ما دون الثلاثة أمتار. وبناء على تجربة شخصية قمت بها سنة 1999، تبين أنه أثناء المد العالي لايزيد ارتفاع المياه على الساحل اللبناني عن 45 سنتم.

وهنالك ظواهر بيئية، وعوارض بشرية كثيرة تحدث أيضًا بالتزامن مع وجود القمر في مراحل ومنازل معينة، خصوصًا عندما يكون بدراً أي مكتملاً. فالعوارض البشرية نبّهنا إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأن أوصى المسلمين أن يصوموا الأيام البيض الثلاثة من كل شهر، وهي 13 و14 و15 من الشهر القمري. ربما لأنه أثناء امتناع الإنسان عن الطعام والشراب سواء في هذه الأيام أو غيرها، تقل نسبة تضخم العروق والخلايا في جسم الإنسان، أو لنقل كي لا يزيد ارتفاع ضغط الدم عنده، أو لنقل كي لا يشتد اضطرابه، بمعنى أن يقل تأثره بالعوامل الخارجية وأن يخف أثره السلبي في أدائه وفي محيطه الخارجي. ولكن ما المسبب لهذه الاضطرابات؟ ومن أين مصدرها؟ وإلى أين يمكن أن تصل؟

ذكر لي أحد أقاربي وكان يقيم في سويسرا أنه أثناء وجوده في إحدى المستشفيات كان يسمع صراخًا شديدًا من غرفة الأطفال الحديثي الولادة، وكان إبنه المولود حديثًا من بين هؤلاء الأطفال. فراح هذا الأب يصول ويجول في المستشفى، إذ ظن أن خطأً ما في نظام التهوئة أو التدفئة قد لحق بقسم الأطفال. غير أن العاملين في المستشفى هدّأوا من روعه، وأخبروه أن هذا يحصل دائما للأطفال بالتزامن مع مرور القمر فوق المنطقة. وفي سويسرا أيضًا ذُكر أنّه في إحدى السنوات لوحظ انتفاخ في منطقة جغرافية بلغ قطرها 9 كلم، ووصل ارتفاعه إلى 30سنتم، وكان ذلك بالتزامن مع مرور القمر بدرًا أيضًا فوق تلك المنطقة[10].

والملاحظ أيضًا أن الهزّات والزلازل الأرضية تحدث مع وجود القمر في المنازل الرئيسية المشار إليها (أوّل الشهر القمري، وأثناء التربيعين، ومنتصف الشهر)، حيث تم لنا إحصاء عدد من الهزات والزلازل في كتابنا “خواطر حول ظاهرة المد والجزر”، مع ترافق الكثير من تلك الهزّات بحالات مدّ قصوى، وأذكر هذه الحادثة على سبيل المثال:

 نشرت وسائل الإعلام خبراً مفاده أنه بتاريخ 15 ربيع الأول 1421/ 17 حزيران 2000 أفاد قائد طائرة إيطالية عن احصول اضطراب لسير طائرته في الجو، فوجّه نداء استغاثة إلى أحد المطارات قائلاً إن الطائرة كأنما تكبلت في الفضاء. ومن حسن حظه أن هذه الطائرة عادت لسيرها الطبيعي بعد قليل، مع بقاء الأسباب مجهولة.

ناهيك عن عرف بات بمثابة تعليمات لدى الشرطة الأسترالية وغيرها عن رفع حالة الجهوز مرة في الشهر عند اكتمال القمر مما يؤدي إلى زيادة ملحوظة في عدد حوادث السير وعدد الجرائم وكثرة الاضطرابات وأعمال العنف في الشوارع.

أغتنم هذا العرض لحالتي المد والجزر وآثارهما لأستنتج أن لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة علوماً جمة لا يزال العلماء على ساحلها ولم تخض بحورها بعد فتبارك الله الخلاق العليم.