جوانب من الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في مجالي التطهير والتعدين

د. محمد بن الهادي الشيخ*

قال الله تعالى في كتابه العزيز: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} (الآية17 من سورة الرعد).

مقدمة

تمثل هذه الدراسة محاولة لإعطاء تفسير علمي لهذه الآية مع مراعاة ضوابط تفسير القرآن الكريم بعيداً عن التأويل أو تحميل النص ما لا يطيق. وقد كشفت النقاب عن بعض جوانب الإعجاز العلمي في مجالي التطهير والتعدين.

في المقطع الأول تحدثت الآية الكريمة عن عملية سيلان الأودية إثر نزول المطر. وفي هذا إشارة إلى ظاهرة بيئية لم يكتشفها العلماء إلا في السنوات الأخيرة وهي ظاهرة التطهير الذاتي للمسطحات المائية. وهي عبارة عن مجموعة من الأساليب الهيدرولوجية والفيريوكيمائية والبيولوجية تتفاعل مع بعضها البعض لتقوم بتصفية المياه من ملوثاتها العضوية.

فينتج عن هذه العملية ماءً صافياً صالحاً للشراب ينفع الناس. وزبد يعلوه يطرح ويلقى لأنه لا فائدة فيه. وقد اقتبس العلماء هذه الظاهرة الطبيعية وطوروا أساليبها تكنولوجيا وطبقوها ميدانيا في شكل محطات لتطهير المياه المستعملة.

في المقطع الثاني من الآية الكريمة وفي نفس السياق تحدث القرآن عن عملية التعدين التي تبدو في ظاهرها عملية فيزيائية بحتة وهي المعاملة الحرارية لاستخراج المعادن. وينتج أيضًا عن هذه العملية معادن صافية يستفاد بها للحلية والمتاع من ناحية وزبد يطرح ويلقى من ناحية أخرى. لكن في الآن نفسه ركزت الآية الكريمة على مثلية الزبد (زبد مثله) الناتج عن كلا العمليتين: التطهير والتعدين في حين أن الأساليب المستعملة مختلفة تماماً في المعاملة الأولى والثانية. وبالتالي لا يمكن مماثلة الزبد إلا من حيت أنه خبث يطرح ويلقى. إلا أن سياق الحديث في الآية ودقة القرآن في لفظ “مثله” يأبى هذه المماثلة الضعيفة. فجاءت الاكتشافات العلمية الحديثة في مجال هندسة الأساليب والتعدين لتؤكد إمكانية استخراج المعادن بأساليب هيدرولوجية وفيزيولوكيمائية وبيولوجية ينتج عنها زبد يشبه تماماً الزبد الذي ينتج عن عملية التطهير الذاتي التي تحدثت عنها الآية في المقطع الأول.

وهذا يمثل قمة في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، فمن أعلم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منذ 14 قرنًا بهذه الأساليب في مجالي التطهير والتعدين التي لم يكتشفها العلم الحديث إلا في السنوات الأخيرة.

حقاً إنه القرآن الكريم وإنه الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى وصدق الله العظيم.

مفهوم الآية في كتب التفسير

قوله تعالى أنزل من السماء ماء يعني: المطر فسالت أودية وهي جمع واد، وهو منفرج بين جبلين يجتمع إليه ماء المطر فيسيل بقدره أي: بمبلغ ما تحمل، فإن صغر الوادي، قل الماء، و إن هو اتسع، كثر، وقرأ الحسن وابن جبير، وأبو العالية، وأيوب، وابن يعمر، وأبو حاتم عن يعقوب: ” بقدرها” بإسكان الدال. وقوله: ” فسالت أودية توسع في الكلام والمعنى: سالت مياهها، فحذف المضاف، وكذلك قوله: “بقدرها” أي بقدر مياهها فاحتمل السيل زبداً رابياً أي، عالياً فوق الماء، فهذا مثل ضربه الله.

ثم ضرب مثلاً آخر، فقال ومما يوقدون عليه النار قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن يعمر. وقرأ أبن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ” توقدون عليه” بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء. قال أبو علي: من قرأ بالتاء، فلما قبله من الخطاب، وهو قوله: “أفاتخذتم ” و يجوز أن يكون خطابًا عاماً للكافة، ومن قرأ بالياء فلأن ذكر الغيبة قد تقدم في قوله: ” أم جعلوا لله شركاء”. ويعني بقوله ” و مما يوقدون ما يدخل إلى النار فيذاب من الجواهر ” ابتغاء حلية ” يعني : الذهب والفضة ” أو متاع ” يعني الحديد والصفر والنحاس والرصاص تتخذ منه الأواني والأشياء التي ينتفع بها، ” زبد مثله ” أي له زبد إذا أذيب مثل زبد السيل، فهذا مثل آخر. وفيما ضرب له هذان المثلان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن: شبه نزوله من السماء بالماء. وشبه قلوب العباد بالأودية تحمل منه على قدر اليقين والشك، والعقل والجهل، فيسكن فيها، فينتفع المؤمن بما في قلبه كانتفاع الأرض التي يستقر فيها المطر، ولا ينتفع الكافر بالقرآن الكريم لمكان شكه وكفره، فيكون ما حصل عنده من القرآن كالزبد وكخبث الحديد لا ينتفع به. والثاني: أنه الحق والباطل، فالحق شبه بالماء الباقي الصافي، والباطل المشبه بالزبد الذاهب، فهو وإن علا على الماء فإنه سيمحق كذلك الباطل، وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال فإن الله سيبطله. والثالث: أنه مثل ضربه الله للمؤمن واعتقاده وعمله كالماء المنتفع به، ومثلا الكافر واعتقاده وعمله كالزبد.

قوله تعالى ” كذلك ” أي: كما ذكر هذا يضرب الله مثل الحق والباطل، وقال أبو عبيدة: كذلك يمثل الله الحق ويمثل الباطل. فأما الجفاء، فقال ابن قتيبة : هو ما رمى به الوادي إلى جنباته، يقال : أجفأت القدر بزبدها إذا ألقته عنها. قال ابن فارس: ما نفاه السيل، ومنه اشتقاق الجفاء. وقال ابن الأنباري: ” جفاءً ” أي: باليا مفرقا قال ابن عباس: إذا مسّ الزبد لم يكن شيئا.

وقوله تعالى : ” وأما ما ينفع الناس ” من الماء والجواهر التي زال زبدها ” فيمكث في الأرض ” فينتفع به كذلك يبقى الحق لأهله.

المدلولات العلمية للآية ومظاهر الإعجاز بها

تحدثت هذه الآية في المقطع الأول عن ظاهرة طبيعية عادية ومألوفة ومشاهدة: وهي سقوط المطر وجريان الأودية على إثره وامتلائها بالماء على اختلاف أحجامها وسعتها. فنتج عن عملية السيلان هذه احتمال السيل للزبد أي ظهور الزبد جاء كنتيجة لعملية السيلان. والزبد هو الغثاء والرغوة التي تطفو على الماء الجاري. لقد تطرقت الآية إلى عوامل فيزيائية وكيماوية صارت في وقتنا الحاضر علومًا مستقلة بذاتها مثل الهيدرولوجيا والهيدروديناميك وعلم الترسبات وعلوم التربة والتفاعلات الكيماوية في المحاليل المائية. كما أن الغوص في أعماق هذه الآية يقودنا إلى الأخبار عن عامل بيولوجي جد هام لم يكتشف إلا مؤخرًا وهي ظاهرة بيولوجية تسمى التطهير الذاتي للمسطحات المائية مثل الأودية والأنهار والبرك والبحيرات بصفة عامة والمجاري المائية بصفة خاصة بواسطة الكائنات المجهرية مثل البكتيريا والفطريات. لقد أثبت العلم الحديث أن مياه الأودية تحتوي أعداداً هائلة من هذه الكائنات التي تقوم بأكسدة المواد العضوية الملوثة باستعمال الأكسجين الهوائي الذي يتحول إلى فقاعات هوائية صغيرة من خلال حركة السيلان القوية حيث يمتزج الماء بالهواء الذي يحتوي الأكسجين الهوائي في شكل غاز ثم يصير سائلاً في الماء قابلا ً للاستعمال من طرف الكائنات الحية التي تحتويها مياه السيل والتي تقوم بأكسدة المواد العضوية الملوثة التي احتملتها مياه الأمطار إلى أحواض ومجاري الأودية. وتنتج عملية الأكسدة هذه تحول الملوثات إلى غاز ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء في شكل فقاعات هوائية تتبخر في الجو: الرغوة الطافية أي الزبد.

تتم هذه العملية طيلة سيلان المياه وتبدأ الكائنات الحية عملها من بداية الوادي حيث تكون المياه جد ملوثة ومحملة بالمواد العضوية التي احتملتها مياه الأمطار من الأراضي القريبة. وفي نهاية الوادي حيث المصب تكون المياه قد تطهرت من هذا التلوث العضوي فتصبح صالحة للاستعمال البشري وتنفع الناس. وقد أكدت التحاليل المخبرية نجاعة ظاهرة التطهير الذاتي للأودية والمجاري المائية وأصبحت مقاييس(oxygen chemical demande) DCOوDBO (oxygen biological demand) في عينات مياه المجاري عملية روتينية لتصنيف المياه الملوثة أو النقية. إذن عملية التطهير الذاتي في الأودية هي نتاج مجموعة عوامل فيزيائية (السيلان وتخليط المياه وتحول الغاز إلى سائل) وبيولوجية (دور الكائنات المجهرية) وكيمائية (التفاعلات الكيمائية والأكسدة). وبضدها تتضح الأشياء، فالمياه الراكدة تكون ملوثة ومتعفنة ذات روائح كريهة وتتسبب في انتشار الأمراض والأوبئة, وعلى العكس تكون ضارة للناس وغير نافعة. ومن هنا اقتبس العلماء ظاهرة التطهير الذاتي الطبيعية وطوروها وأخضعوها إلى تكنولوجيا العصر. فأوجدوا محطات التطهير للمياه المستعملة والتي تعتمد على نفس المبادئ والعوامل الفيزيائية والكيمائية والبيولوجية التي تقوم عليها ظاهرة التطهير الذاتي الطبيعية. كما أن النتيجة واحدة: زبد يطفو ويذهب جفاءً وما ينفع الناس هو الماء لسقي المسطحات الخضراء والمنتزهات وأيضًا الأوحال أو مخلفات محطات التطهير التي تستعمل كأسمدة نافعة للتربة فتقويها وتزيد من غناها والرفع من أنتاجها وهذا ما ذكرته الآية الكريمة : ” فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” صدق الله العظيم. فالزبد أو الرغوة يذهب في الجو ويتبخر بالرغم من انتفاخه وعلوه على مياه السيل. مثله مثل الباطل في علوه على الحق ثم أفوله مثل النجم الآفل. وأما ما ينفع الناس فهو الماء الذي مر بعملية التطهير فصار صالحًا للاستعمال البشري كالشرب والسقي وتخلص من ملوثاته العضوية. ثم مكث في الأرض وتسرب إلى باطنها فصار يغذي المائدة والآبار، وهو قي نفعه ودوامه واستمراره مثل الحق في ثباته وصموده تجاه الباطل. وأيضا ما ينفع الناس فهو الطين والدبال والأملاح المعدنية التي تمتزج فيما بينها فتعطي تربة جد خصبة تنفع للاستعمال الفلاحي لأنها تمتاز بخاصيات كيميائية وفيزيائية جيدة مثل القوام (texture) و (structure) غناها بالمعادن مثل الحديد والمنغنيز والفسفور. وهذا يعود أساسًا إلى تكون ما يعبر عنه (complexe argilo humique) وهو أن الطين يلتحم بالدبال (ذات شحنة سالبة) بواسطة المعادن مثل الحديد ذات الشحنة الموجبة (Fe2+)، والذي قال عنه القرآن الكريم: ” فيه منافع للناس” وهذا إعجاز آخر أيضًا، وإشارة جد هامة إلى علم الترسبات sedimentology)) وعلم الأرض (pedology).

وبصفة عامة مثلا في الصحاري والمناطق الجافة نلاحظ أن المجمعات السكنية والواحات والأنشطة الفلاحية تتمركز حول الوديان لغناء التربة بها ووفرة المياه وقربها من سطح الأرض.

ويقول الله تعالى بعد أن ذكر هذه الظاهرة”: ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله”هنا انتقل سياق الآية إلى ميدان آخر في ظاهرة بعيد كل البعد عن هذه الظاهرة الطبيعية. فهي تتحدث عن ميدان الميتالورجيا “علم المعادن والتعدين” وهو ميدان بعيد عن الهيدرولوجيا التي تحدث عنه المقطع السابق من الآية. والسؤال الذي يطرح هنا : ما هو وجه المقارنة بين هذين المجالين وهذين المقطعين من الآية. فنقول إن العلاقة بينهما عبارة “زبد مثله”. فمماثلة الزبد هو الرابط بين المقطعين. في ظاهر الأمر تبدو العلاقة كما يلي: ففي الطريقة العادية أو الكلاسيكية التي تتم بها في القديم فصل المعادن هي الطريقة الحرارية (pyrometallurgy) أي التسخين إلى درجة حرارية معينة لإذابة المعدن الذي نريد استخلاصه ثم تنقيته من الشوائب وإزالة الخبث الذي يطفو عليه وهو أيضًا يشبه الزبد الناتج عن عملية السيلان الذي تحدثت عنه الآية سابقًا من حيث أنه يطرح ولا ينتفع به.

لكن يبدو أن مجال المقارنة بعيد وأن الزبد الناتج عن المعاملة الأولى (التطهير الذاتي التي ترتكز على العوامل الهيدرولوجية والفيزيائية والبيولوجية والكيميائية) والمعاملة الثانية (الحرارية وهي فيزيائية بحتة) لا يتشابهان تمامًا في حين أن القرآن الكريم قال : “زبد مثله” وأركز على كلمة مثله، ففي ذكر كلمة مثله إشارة إلى نفس التقنية أو المعاملة وهي المعاملة الهيدرولوجية والكيميائية والبيولوجية في نفس الوقت، في حين أنه آنذاك لا يوجد طريقة أخرى لاستخراج المعادن غير الطريقة الحرارية التي أشارت إليها الآية الكريمة.

لكنه “لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى” إذن كيف يمكن الجمع بين الأمرين المتناقضين ظاهريًا. فالله سبحانه وتعالى الذي خلق الكون هو أدرى به وأعلم بكل صغيرة وكبيرة فيه، وان كان العقل البشري قاصرًا على فهم هذه الأشياء. “وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا”. وكما هي العادة تأتي الاكتشافات العلمية والحقائق المعرفية لتؤكد وتؤيد ما قاله الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم على لسان رسوله الأمين الصادق المصدوق محمد عليه أفضل الصلاة والسلام منذ 14 قرنًا. فقد أثبت العلم الحديث أنه من الممكن استخلاص المعادن بطرق مختلفة عن الطريقة الحرارية العادية وهذه الطرق الجديدة تعتمد على العوامل الهيدرولوجية والكيميائية والبيولوجية كما هو الحال في المعاملة الأولى التي ذكرتها الآية الكريمة وهي التطهير الذاتي. فمع تطور علم الكيمياء والتفاعلات الكيميائية واختراع الحوامض مثل الحامض الفسفوري والكلوريدري اكتشف العلماء أنه يمكن إذابة المعادن في المحاليل التي تكون نسبة الحموضة فيها مرتفعة. ومن ثم أمكن استخراج المعادن بالمناجم بالطريقة الهيدرولوجيا (hydrometallurgy)عوضًا عن الطريقة الحرارية(pyrometallurgy) وهذه الطريقة تسمى (chemical leaching) لأنها تعتمد على المواد الكيمائية مثل الحوامض لإذابة المعادن في المحاليل ومن ثم استخراج المعادن من هذه المحاليل بطرق شتى مثل Electrodialyse) (Electrodéposition- وطبقت هذه الطريقة في كهوف المناجم وتم اعتمادها كطريقة أساسية لاستخراج المعادن بالمناجم.

وسرعان ما ظهرت مشكلة بيئية وهي ما يعبر عنها بمشكلة (MAD : drainage acide des minerais) وهي سيول حمراء اللون حامضة يطفو فوقها زبد مثل زبد السيول العادية وتسبب هذه السيول تلوث التربة والمجاري المائية بالمعادن الثقيلة لأن هذه السيول تحتوي كميات كبيرة من المعادن بسبب حموضتها العالية كما أنها تتسبب في حموضة المياه السطحية وبالتالي الإضرار بالكائنات الحية المائية والتوازن البيئي.

وفي سنة 1947 قام العالم كولمار بأبحاث معمقة حول هذه MAD واكتشف نوع من البكتيريا سماها (Tf) Thiobacillus ferrooxidans وقام بعزلها في مناجم النحاس والزنك وتقوم هذه البكتيرية بالتعاون مع أصناف بكتيرية أخرى مثل(Tt) Thiobacillus thiooxidans و(Lf) Leptospirillum ferrooxidans بأكسدة المعادن الكبريتية الموجودة بالمناجم إلى معادن كتيونية في ظروف من الحموضة المرتفعة مع وجود تهوئة أو أكسجين. ومنذ ذلك الحين طور العلماء استعمال هذه الأصناف في مجال البيوتكنولوجيا وصار تطبيقه رائجًا جدًا في مناجم الذهب والنحاس والزنك لأنها تقنية سهلة غير مكلفة ولا تضر بالبيئة خاصة في المناجم الفقيرة التي تكون نسبة المعادن فيها ضعيفة. وأخذت هذه الطريقة البيولوجية تعوض شيئًا فشيئًا الطريقة الكيميائية الكلاسيكية التي تستهلك كميات كبيرة من الحوامض والتي تؤدي إلى تلوث البيئة بالحموضة والمعادن الثقيلة. وحسب التقديرات الحالية فان ربع كمية النحاس والزنك المستخرجة من المناجم تعتمد على هذه التقنية البيولوجية الجديدة. والبحث العلمي في هذا المجال متواصل لتطوير هذه التقنية والإحاطة بكل إيجابياتها الاقتصادية والبيئية.

ومن العجيب أن هذه الطريقة الهيدروبيولوجية لاستخراج المعادن تشبه تمامًا طريقة التطهير الذاتي للأودية، ففي المناجم التي تعتمد هذه الطريقة يتم تكديس تربة المناجم في الهواء الطلق ثم تسقى هذه الأكداس بمحلول يحتوي على خليط من البكتيريا، بطريقة كنزول المطر، ثم تتم عملية الأكسدة. وتعمل البكتيريا لتحليل المعادن في شكل سائل حامض غني بالمعادن يشبه تمامًا سيل الوادي ويعلوه زبد وخبث يشبه تمامًا زبد السيل.

ثم يتم تجميع هذا السائل واستخراج المعادن التي تنفع الناس بوسائل عدة مثل الإلكتروديبوزيسيون (electrodeposition). أما ذلك الخبث والزبد فيطرح ويذهب جفاء. وهذا مصداقًا لقوله “زبد مثله” أي نتاج عملية السيلان والأكسدة مثل زبد السيل. وأيضًا مصداقًا لقوله “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض أي ذلك السائل الغني بالمعادن. ومن العجيب أيضًا أن ذلك السائل يكون لونه بنيًا تمامًا مثل سيل الوادي ويحتوي على معدن الحديد الذي يعطي هذا اللون الأحمر. وهو نتاج أكسدة الحديد بواسطة البكتيريا. فقد قال الله تعالى عن الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس. والملاحظ أيضا أن تلك البكتيريا تعتمد على الحديد بشكل أساسي.

كما أن هذه الطريقة تستعمل في مناجم الذهب (الحلية) والنحاس والزنك (متاع) كما ذكر في الآية (ابتغاء حلية أو متاع). ففي كندا مثلاً والولايات المتحدة يوجد نوع من المناجم التي لا يمكن استخراج الذهـب إلا بــهـذه الــطريقة مــــــــثل (minerais aurifères réfractaires arsenicaux) وفي حال استعمال الطرق الأخرى تكون جد مكلفة وملوثة للبيئة.

وإضافة إلى مجال التعدين، فإن العلماء قد طوروا هذه الطريقة وطبقوها في ميدان التطهير فصارت من أهم الأساليب البيولوجية المعتمدة لتطهير المواد الصلبة الملوثة بالمعادن الثقيلة مثل التربة والتربة المائية والأوحال ومخلفات محطات التطهير والمركبات الصناعية. وقد أثبتت الأبحاث في مجال البيوتكنولوجيا مدى نجاعة هذه البكتيريا في تطهير هذه المواد من ملوثاتها المعدنية بواسطة أسلوب (Bioleaching) وسهولة هذه الطريقة وزهادة كلفتها. قام العلماء المختصون بتصميم مفاعلات بيولوجية (Bioreactor) خاصة بهذا الغرض البيئي حيث تتوفر جميع الظروف الملائمة للبكتيريا للقيام بواجبها على أحسن وجه.

خاتمة

لقد كشفت هذه الدراسة عن بعض جوانب الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في مجالي التطهير والتعدين. وأعطت تفسيرًا علميًا للآية 17 من سورة الرعد معتمدة في ذلك على حقائق علمية تم اكتشافها مؤخرًا و أثبت البحث العلمي مدى صحتها و نجاعتها في الواقع.

و قد تبين من خلال هذه الدراسة أن القرآن الكريم أشار إلى ظاهرة التطهير الذاتي للمسطحات المائية التي اكتشفها العلماء مؤخرًا. وهي مجموعة أساليب هيدرولوجية، فيزيوكيمائية وبيولوجية لتنقية المياه الملوثة عضويًا. وينتج عن هذه العملية ماء صافٍ ينتفع به الناس وزبد يطرح لا فائدة فيه. وفي اقرار الآية مماثلة الزبد الناتج عن عملية التطهير (زبد مثله) للزبد الناتج عن عملية التعدين، جوانب هامة من الإعجاز العلمي للقرآن. فهذه المماثلة في الزبد تقتضي ضمنيًا مماثلة الأساليب التي ينتج عنها هذا الزبد، في حين أنه آنذاك لم يكن العقل البشري يدرك إلا المعاملة الحرارية لاستخراج المعادن وهي عملية فيزيائية بحتة. ولقد بينت هذه الدراسة أنه فعلاً في العقود الأخيرة اكتشف العلماء أساليب هيدرولوجية وفيزيوكيميائية وبيولوجية في مجال التعدين تشبه تلك التي تستخدم في مجال التطهير و تنتج بدورها زبدًا يشبه تمامًا الزبد الذي تنتجه عملية التطهير. حقًا إن القرآن معجز لا تنضب عجائبه ولا تنتهي مظاهر إعجازه في شتى الميادين العلمية.

___________________________

* وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.quran-m.com

المراجع:

1- القرآن الكريم

2- تفسير الجلالين الجلال الدين السيوطي

3- تفسير إبن كثير: للإمام ابن كثير

4- صفوة التفاسير : الصابوني

5- زاد المسير في علم التفاسير للأمام غبن الجوزي

Barrett, J., Hughes, M. N., Karavaiko, G. I. and Spencer, P. A.: 1993, Metal Extraction by Bacterial Oxidation of Minerals, Eillis Horwood, Chichester.

E. Torma and J. A. Brierley (eds), Metallurgical Application of Bacterial Leaching and Related Microbiology Phenomena, Academic Press, New York, pp. 232–250.

Tyagi, R. D. and Couillard, D.: 1987, ‘Bacterial leaaching of metal from digested sewage sludge’, Process Biochemistry 22, 114–117.

Wong, L. and Henry, J. G.: 1988, ‘Bacterial Leaching of Heavy Metals from Anaerobically Digested Sludge’, in D. L. Wise (ed.), Biotreatment Systems, Vol. II, CRC Press, Boca Raton, FL, U.S.A., pp. 125–169.

Xiang, L., Chan, L. C. and Wong, J. W. C.: 2000, ‘Removal of heavy metals from anaerobically digested sewage sludge by isolated indigenous iron-oxidizing bacteria’, Chemosphere 41, 283–287.

Tyagi, R. D. and Tran, F. T.: 1991, ‘Microbial leaching of metals from digested sewage sludge in continuous system’, Environmental Technology 12(4), 303–312.

Blais, J. F., Tyagi, R. D. and Auclair, J. C.: 1992a, ‘Bioleaching of metals from sewage sludge by sulfur-oxidizing bacteria’, Journal of Environmental Engineering 118, 690–707.

M. Salim Oncen, Mahir Ince, Mahmut Bayramoglu, leaching of silver from solid waste using ultrasound assisted thiourea method. Ultrasonic Sonochemistry 12 (2005) 237-242.

Silverman P, Lindgren DG. Studies on chemoautotrauphic iron bacterium ferrobacillus ferrooxidans.J bact 1969; 77:642-7

Gormely S, Duncan DW, Brassion RMR, Pinder KL. Continuous culture of Thiobacillus ferrooxidanson zinc sulphate concentrate. Biotech Bioeng 1975; 17:31-