خلق الأرض

الدكتور منصور العبادي*

 

أجمعت الكتب السماوية السابقة على أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وجاء القرآن الكريم فأكد هذه الحقيقة في آيات كثيرة منها قوله تعالى {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثمّ استوى على العرش ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع أفلا تتذكّرون} [السجدة 4]. ولكن القرآن الكريم لم يكتف بذكر هذه الحقيقة الكونية بل جاء بحقائق إضافية عن تفصيل هذه الأيام وكذلك عن الحال الذي كان عليه الكون عند بداية خلقه والحال التي سيؤول إليها. ومن أهم الحقائق التي تفرد بذكرها القرآن دون غيره من الكتب السماوية هي حقيقة أن السموات والأرض قد خلقهما الله في يومين اثنين ولم يستغرق خلقها ستة أيام كما جاء في قوله تعالى {قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} [فصلت 9-12].

وكما هو واضح من هذه الآية المليئة بالحقائق المتعلقة بالأحداث التي مر بها خلق الكون، فإن الله قد خلق الأرض في يومين وكذلك خلق السموات في يومين، بينما تنص آيات أخرى كثيرة على أن مجموع أيام خلق السموات والأرض هي ستة أيام.

هذه الآية وغيرها من الأيات القرآنية المتعلقة بالحقائق الكونية يمكن تفسيرها فقط على ضوء الحقائق العلمية المكتشفة. وسنشرح في ما يلي بعض الحقائق العلمية الأساسية التي اكتشفها العلماء المعاصرون للكيفية التي تم بها خلق هذا الكون والمراحل التي مر بها حتى أصبح على هذه الهيئة ثم نقوم بتفسير الآية القرآنية الآنفة الذكر على ضوء هذا الشرح.

وفق النظريات العلمية الحديثة نشأ هذا الكون نتيجة لانفجار كوني عظيم انبثقت منه جميع مادة هذا الكون، حيث كان الكون عند ساعة الصفر على شكل نقطة مادية غاية في الصغر لها درجة حرارة وكثافة غاية في الكبر وقد أطلق العلماء على هذا الانفجار اسم “الانفجار العظيم”. ولا يعرف العلماء على وجه التحديد ماهية المادة الأولية التي انبثق منها هذا الكون ولا من أين جاءت، ولماذا اختارت هذا الوقت بالتحديد لكي تنفجر ولا يعرفون كذلك أيّ شيء عن حالة الكون قبل الانفجار وصدق الله العظيم القائل {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا} [الكهف51].

ويغلب على ظن العلماء أن مادة الكون كانت عند بداية الانفجار مادة صرفة ذات طبيعة واحدة وتحكمها قوة طبيعية واحدة. لقد بدأت هذه المادة المجهولة الهوية بالتمدد بشكل رهيب وبسرعات غاية في الكبر نتيجة لهذا الانفجار لتملأ الفضاء من حولها هذا إذا كان هناك ثمة فضاء، حيث يعتقد بعض العلماء أن المكان والزمان قد ظهرا مع ظهور هذا الانفجار. لقد كان الكون الأولي على شكل كرة نارية متجانسة تملؤها سحابة من المادة الصرفة، وظلت هذه الكرة تتمدد وتتسع بصورة مذهلة إلى أن وصلت درجة حرارتها إلى ثلاثة آلاف درجة بعد مرور ما يقرب من مائة ألف سنة. وعند درجة الحرارة هذه بدأت الجسيمات الأولية البسيطة كالكواركات واللبتونات والفوتونات بالتشكل من هذه المادة الصرفة (…).

وقبل أن نكمل المراحل الأخرى لنشوء الكون نتوقف قليلاً لكي نقارن الحقائق المذكورة في الآية القرآنية مع ما توصل إليه العلماء. فقد ذكرت الآية القرآنية التي هي عنوان هذا الباب أن الكون كان على شكل مادة دخانية في مرحلة نشوئه الأولى وذلك في قوله تعالى {ثم استوى إلى السماء وهي دخان}. والمقصود بالسماء في هذه الآية هو الفضاء الذي امتلأ بالدخان الناتج عن الانفجار الكوني العظيم، وليست السماء التي ستتكون من هذا الدخان لاحقًا فلم يكن ثمة سماء قبل ذلك. وقد أطلق العلماء على هذه السحابة من الجسيمات الأولية اسم الغبار الكوني بينما سماها القرآن الدخان والتسمية القرآنية أدق من تسمية العلماء فالجسيمات الأولية أصغر من أن تكون غباراً وحتى دخانًا ولكن الدخان هو أصغر وأخف شيء يمكن أن تراه أعين البشر. ولا بد هنا من أن نسأل الذين لا يؤمنون بالله أو الذين لا يصدقون بأن هذا القرآن منزل من عند الله السؤال التالي وهو من أين جاء هذا النبي الأمي الذي عاش في أمة أمية بهذه الحقيقة الكبرى عن حال الكون عند بداية خلقه والتي ظلت مجهولة إلى أن كشفها الله على أيدي خلقه في هذا الزمان فقط. إن هذه الحقيقة العلمية لم تذكرها الكتب المقدسة التي سبقت القرآن ممّا يؤكد على صدق هذا القرآن وصدق من أنزل عليه وأنه منزل من لدن عليم خبير مطلع على جميع أسرار هذا الكون وكيف لا وهو خالقه {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك 14].

ولقد أشار القران الكريم بشكل واضح في ثلاث آيات قرآنية إلى حقيقة الانفجار الكوني العظيم، وإلى حقيقة التوسع الكوني وكذلك إلى حقيقة انهيار هذا الكون في النهاية. فقد أشار القرآن الكريم إلى أن السموات وما تحويه من أجرام كانت كتلة واحدة ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة التي ملأت الكون بمادة دخانية وذلك مصداقًا لقوله تعالى {أولم يرى الذين كفروا أنّ السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ أفلا يؤمنون} [الأنبياء 30]. (…).

أما المرحلة الثانية من مراحل خلق الكون فهي مرحلة تكون المجرات والنجوم من هذا الدخان الذي أصبح يتكون من البروتونات والنيوترونات والإلكترونات والفوتونات. فبعد أن برد الكون المتمدد إلى ما دون ثلاثة آلاف درجة كلفن بدأت الإلكترونات بالارتباط بالبروتونات نتيجة لتأثير القوة الكهرومغناطيسية مشكلة بذلك ذرات الهيدروجين والتي تتكون من بروتون واحد وإلكترون واحد. ومع اتحاد البروتونات مع الإلكترونات أصبحت جميع مكونات الكون متعادلة كهربائيًا معطية المجال لقوة الجاذبية لكي تقوم بدورها في بناء أجرام هذا الكون رغم ضعفها الشديد مقارنة مع قوى الطبيعة الأخرى. لقد بقي الكون حتى هذه اللحظة متجانسًا أيّ أن المادة الدخانية المكونة من ذرات الهيدروجين والنيوترونات موزعة على جميع أنحاء الكون بالتساوي وبنفس الكثافة. ولكن في لحظة ما بدأت كثافة مادة الكون بالاختلال لسبب لم يجد العلماء له تفسيراً قاطعاً وتكونت نتيجة لهذا الاختلال مراكز جذب موزعة في جميع أنحاء الكون وبدأت قوة الجاذبية تلعب دورها في غياب تأثير القوة الكهرومغناطيسية وذلك من خلال جذب مزيد من الهيدروجين المحيط بهذه المراكز إليها منشئة بذلك كتل ضخمة من الهيدروجين.

وعندما وصل حجم هذه الكتل الهيدروجينية إلى حجم معين ونتيجة للضغط الهائل على الهيدروجين الموجود في مراكز هذه الكتل ارتفعت درجة حرارته إلى الحد الذي بدأت فيه عملية الاندماج النووي بين ذرات الهيدروجين منتجة ذرات الهيليوم بالإضافة إلى كميات كبيرة من الطاقة فتكونت بذلك النجوم(…)، والنجوم التي هي بحجم شمسنا لا يمكنها أن تحرق إلا الهيدروجين في باطنها وذلك بسبب صغر حجمها النسبي وبالتالي قلة درجة حرارة جوفها ولذلك فهي لا تصنع إلا عنصر الهيليوم في داخلها. ولكي يمكن تصنيع عناصر أثقل من الهيليوم قدّر الله وجود نجوم أكبر حجما وأعلى درجة حرارة من الشمس وبداخل مثل هذه النجوم العملاقة بدأت عمليات اندماج نووية أكثر تعقيدا بين ذرات الهيليوم منتجة بذلك ذرات عناصر الليثيوم والكربون والنيتروجين والأكسجين وانتهاء بالعناصر الثقيلة كالحديد والرصاص واليورانيوم وبقية العناصر الطبيعية التي يزيد عددها عن مائة عنصر.

وكما أن الاختلال الذي حصل في كثافة مادة الكون قد أدى إلى تكون النجوم بشكل منتظم في أرجاء الكون فإن اختلال آخر قد حصل في كثافة هذه النجوم بحيث أن النجوم المتجاورة بدأت بالانجذاب نحو مراكز ثقلها وبدأت بالدوران حول هذه المراكز مكونة المجرات. وممّا أثار دهشة العلماء أيضًا هذا التوزيع المنتظم للمجرات في مختلف أرجاء الكون والذي لم يكن ليحدث إلا إذا حدثت جميع هذه الاختلالات في نفس الوقت وبنفس الكثافة في كل مكان في هذا الكون. وكما أن هنالك تفاوتًا في أحجام النجوم فقد وجد العلماء أن المجرات تتفاوت في أشكالها وأحجامها حيث يبلغ متوسط عدد النجوم في المجرة الواحدة مائة بليون نجم من مختلف الأشكال والأحجام. ويقدّر علماء عدد المجرات في ما يسمى بالكون المشاهد بما يزيد عن ألف بليون مجرة.

إن كل ما نشاهده من مجرات ونجوم وكواكب إنّما هي موجودة في الفراغ الذي تحيط به السماء الدنيا وهي أقرب السموات السبع إلينا أيّ أن ما في السماء الدنيا أو الأولى من أجرام هي ما يسميه العلماء الكون المشاهد وربما أن ما يشاهده العلماء من خلال مراصدهم ما هو إلا جزء صغير من هذه السماء الدنيا وصدق الله العظيم القائل {وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} [فصلت 12].

وتمكن علماء الفيزياء من وضع نظرية جديدة معدلة لنظرية “الانفجار العظيم” أطلق عليها اسم نظرية “الكون المنتفخ” وذلك بسبب فشل النظرية الأولى في تفسير بعض الظواهر الفيزيائية في لحظات الانفجار الأولى إلا أنهما تتفقان في تفسير الأحداث الكونية فيما بعد ذلك. فعندما قام العلماء بإعادة حل المعادلات الفيزيائية التي حكمت تفاعلات مادة وقوى الكون في اللحظات الأولى لنشوئه وبالتحديد في الثانية الأولى اكتشفوا حقائق عجيبة تدعم الصورة التي رسمتها الكتب السماوية وخاصة القرآن الكريم عن تركيب هذا الكون. وملخص هذه النظرية أنه في خلال الثانية الأولى من الانفجار العظيم ونتيجة لحدوث ظاهرة فيزيائية غريبة يطلق عليها اسم التأثير النفقي بدأ الكون بالتمدد بمعدلات أكبر بكثير من المعدلات التي نصت عليها نظرية الانفجار العظيم. وقد نتج عن هذا التمدد المفاجئ للكون في لحظاته الأولى ظهور عدة مناطق مادية على شكل فقاعات متلاحقة يفصل بينها حواجز قوية وشكلت كل فقاعة من هذه الفقاعات كونًا خاصًا بها. وتؤكد النظرية بالنص على أن هذا الكون العظيم المترامي الأطراف الذي نشاهده أو ما يسمى بالكون المشاهد لا يشكل إلا جزءاً يسيراً من هذه الأكوان التي لم تستطع النظرية تحديد عددها.

وهذا بالضبط ما قد أجمعت عليه جميع الكتب السماوية من وجود أكوان أخرى غير الكون الذي نراه بأعيننا أو تصل إليه مراصدنا وقد أطلقت الكتب السماوية على هذه الأكوان اسم السموات السبع كما جاء ذلك في قوله تعالى {فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم}. ولقد كشف القرآن الكريم في آيات أخرى عن بعض الخصائص المتعلقة بطبيعة هذه السموات فذكر أولاً أنها على شكل طبقات حيث تطبق كل سماء على السماء التي دونها ولا يكون ذلك إلا إذا كانت هذه السموات على شكل كرات مجوفة كل واحدة تحيط بالأخرى بحيث يكون مركز هذه الكرات هو المكان الذي حدث فيه الانفجار الكوني العظيم مصداقا لقوله تعالى {الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك 3].

ولقد أتى القرآن الكريم أيضًا على ذكر أجرام قد خلقها الله في هذا الكون وهي أكبر من السموات السبع وما فيهن ككرسي الرحمن الذي يحوي في داخله هذه السموات السبع مصداقًا لقوله تعالى {وسع كرسيه السموات والأرض} [البقرة 255]. إن حجم هذا الكرسي وما يحويه من السموات السبع لا تكاد تذكر مع حجم العرش الذي استوى عليه الرحمن سبحانه وتعالى فقال عز من قائل {قل من ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم} [المؤمنون 86] والقائل سبحانه {الله لا إله إلاّ هو ربّ العرش العظيم} [النمل 26].(…).

أما المرحلة الثالثة من مراحل تكون هذا الكون، فهي مرحلة تكون الكواكب وخاصة كواكب المجموعة الشمسية وبالذات كوكب الأرض الذي تفرد بظهور الكائنات الحية على سطحه. ولم يجمع العلماء على رأي واحد حول الكيفية التي تكونت بها الكواكب حول نجومها أو الأقمار حول كواكبها بل تم طرح عدة نظريات لتفسير طريقة تكون الكواكب حول النجوم. ﺇن أشهر هذه النظريات تلك التي تقول أن المواد الخام المكونة لكواكب المجموعة الشمسية قد جاءت من خارج هذه المجموعة وتستند هذه النظرية إلى حقيقة مهمة وهي أن عدد وكمية العناصر الطبيعية الموجودة في الكواكب وخاصة الأرض لا يمكن للشمس أن تنتجها. ويرجح العلماء فكرة أن مادة الكواكب قد جاءت نتيجة انفجار عدد كبير من النجوم الضخمة بعد نضوب وقودها من الهيدروجين وغيرها من العناصر الخفيفة وتحولها إلى العناصر الطبيعية المختلفة. وقد وقعت المواد المتطايرة من هذه النجوم في أسر جاذبية الشمس فأخذت تدور حولها مكونة الكواكب المختلفة وذلك نتيجة لقوى الجذب بين المواد المتطايرة الغنية بمختلف العناصر الطبيعية.

وقد كانت الأرض عند بداية تكونها كرة ملتهبة من العناصر المختلفة نتيجة التصادمات العنيفة بينها وبين الشهب التي تقع عليها من هذا الحطام المتناثر ومع تضاؤل كمية هذا الحطام وتوزعه على كواكب المجموعة الشمسية بدأت الكميات التي تقع منه على الأرض تقل بشكل تدريجي. وبدأ سطح الكرة الأرضية يبرد شيئًا فشيئًا نتيجة الإشعاع الحراري للفضاء الخارجي ولكن لا زال باطنها يغلي ويفور بالمواد المنصهرة والتي كانت الأرض تقذف بها على شكل براكين رهيبة إلى خارج سطحها. ولكن سطح الأرض شبه السائل لم يكن ليقوى على حمل الكتل الضخمة من المواد المنبعثة من هذه البراكين حيث سرعان ما تغوص إلى داخل الأرض. ولكن مع تواصل الإشعاع الحراري من سطح الأرض الملتهب بدأ سطحها يبرد شيئًا فشيئًا إلى أن بدأ بالتجمد مكونًا قشرة صلبة ولكنها رقيقة نسبيًا ولكن سمك هذه القشرة بدأ بالازدياد مع مرور الزمن إلى أن وصل لعدة عشرات من الكيلومترات في الوقت الراهن. وبمقارنة هذا السمك مع نصف قطر الأرض البالغ ستة آلاف وأربعمائة كيلومتر نجد أن هذه القشرة في غاية الرقة ولولا أن الله قد ثبتها بالجبال المغروسة في وشاح الأرض شبه السائل كالأوتاد لكانت دائمة الانزلاق وصدق الله العظيم القائل {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [لقمان 10].

وعلى ضوء هذه الحقائق العلمية يمكن لنا الآن أن نفهم ما المقصود باليومين الذين خلق الله فيهما الأرض كما جاء في قوله تعالى {قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين}. فالمدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ذات سطح شبه سائل تمثل اليومين اللذين خلق الله فيهما هذه الأرض الأولية. ولقد حدد الله علامة بارزة لنهاية يومي خلق الأرض الأولية وبداية الأيام الأربعة التي أكمل الله فيها تجهيز الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها وهذه العلامة هي بداية تكون الجبال. فلقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن أول الأحداث في الأيام الأربعة التالية من أيام الخلق الستة هو تشكل الجبال فوق سطحها مصداقًا لقوله تعالى {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين}. ومن الطبيعي أن تكون الجبال أول ما ظهر على سطح الأرض، وبالتالي أول أحداث تهيئة الأرض فالأرض كانت قبل ذلك كما ذكرنا سابقًا كرة ملساء، وسطحها حار جداً وشبه سائل وهي تغلي وتفور بسبب الحرارة الشديدة التي في باطنها. واستمرت الأرض على هذا الحال إلى أن بدأت القشرة الأرضية الصلبة بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي. وعندما أصبح سمك القشرة الأرضية بالقدر الكافي بدأت المواد التي تقذف بها البراكين من جوف الأرض بالتراكم فوقه ليبدأ بذلك تكون الجبال. ولا زال مشهد تكون الجبال من البراكين قائمًا إلى يومنا هذا ولكن بمعدل لا يكاد يذكر مع الحال الذي كانت عليه الأرض في بداية تكونها.

وكما هو واضح من هذه الآية فإن عملية تجهيز الأرض بعد أن استقرت في مدارها حول الشمس لتكون صالحة لظهور الحياة عليها استغرق أربعة أيام من أيام الله وهي من مثل الأيام التي خلق الله بها السموات والأرض بشكلها الأولي. وفي هذه الأيام الأربعة تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي. وبعد أن وفر الله كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها، ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات، ومن ثم خلق الله الإنسان في آخر ساعة من ساعات اليوم السادس من أيام الخلق كما جاء ذلك في الأحاديث النبوية الشريفة. إن توفر جميع الشروط اللازمة لظهور الحياة على هذه الأرض من الكثرة والتعقيد بحيث أن خللاً بسيطاً في أحد هذه الشروط قادر على إنهاء جميع أشكال الحياة على هذه الأرض كما سنبين تفصيل ذلك في باب قوله تعالى {وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام} (…).

أما القرآن الكريم فقد حدد المدة الكاملة التي خلق الله بها السموات والأرض بستة أيام من أيامه سبحانه، وحدد كذلك المدة التي خلق الله بها السموات والأرض الأولية بيومين والمدة التي هيأ بها الأرض بأربعة أيام. وكما ذكرنا فيما سبق أن أيام الله كما أكد على ذلك القرآن الكريم ليست كأيام البشر فالله لا يحده زمان ولا مكان ويقدّر زمن الأحداث والوقائع بما شاء من مقادير فقد يكون طول بعض أيامه ألف سنة من أيامنا التي نعدها كما في قوله تعالى {وإنّ يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون} [الحج 47]. وقد يكون طول بعض أيامه خمسين ألف سنة كما في قوله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج 4]. وقد يكون طول بعضها ملايين أو ربما بلايين السنين كما هو الحال مع طول الأيام التي خلق الله بها هذا الكون. ومن الجدير بالذكر أن القرآن الكريم هو أول من تحدث عن نسبية الزمان والمكان فإذا كانت مدة الخمسين ألف سنة يراها البشر زمنًا طويلاً، فإنها عند الله زمن قصير، وعندما يسأل الله البشر يوم القيامة عن مدة مكثهم في الأرض يكون جوابهم أنه يوم أو بعض يوم وذلك بعد أن يتحرر البشر من أسر أطر المكان والزمان التي كانوا يعيشون فيها على الأرض كما جاء ذلك في قوله تعالى {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادّين قال إن لبثتم إلاّ قليلا لو أنّكم كنتم تعلمون} [المؤمنون 112-113]. (…).

ويمكننا الآن أن نستعين بالمعلومات الواردة في الآية القرآنية المتعلقة بخلق الكون وبعض التقديرات الدقيقة لبعض الأحداث التي مر بها الكون للحصول على رقم تقريبي لعمر هذا الكون. فقد حددت هذه الآية أن الجبال قد بدأت بالتكون في بداية الأيام الأربعة الأخيرة من أيام الخلق الستة ولو تمكنا من معرفة عمر أقدم جبال الأرض تكونًا فمن السهل علينا حساب عمر الكون وهذا على افتراض أننا نعيش في اللحظات الأخيرة من أيام الخلق الستة كما أكدت على ذلك كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.(…). إن أكثر الطرق دقة في تحديد أعمار الجبال هي تلك التي تعتمد على التحلل الإشعاعي لبعض العناصر المشعة كاليورانيوم والثوريوم والبوتاسيوم فمن خلال قياس نسبة الرصاص إلى اليورانيوم في عينة مأخوذة من جبل ما وبمعرفة العمر النصفي لليورانيوم يمكن تحديد عمر هذه العينة وبالتالي زمن تكون هذا الجبل. لقد وجد العلماء أن عمر أقدم جبال الأرض والموجود في الدرع الكندي يبلغ أربعة بلايين سنة تقريبا. وبما أن هذه المدة تساوي أربعة أيام من أيام الخلق الستة فإن طول كل يوم من أيام الخلق سيكون بليون سنة تقريبًا وعليه فإن عمر الكون سيكون ستة بلايين سنة، وهذا على افتراض أن عمر أقدم الجبال صحيحًا. ولكن يبقى علم هذا الأمر عند عالم الغيب والشهادة خالق السموات والأرض القائل سبحانه {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو ويعلم ما في البرّ والبحر وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين} [الأنعام 59 ] وقوله سبحانه {إليه يردّ علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلاّ بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا ءاذنّاك ما منّا من شهيد} [فصلت 47].

______________________________________________

* الأستاذ الدكتور منصور إبراهيم أبو شريعة العبادي. قسم الهندسة الكهربائية-جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.quran-m.com