الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في دلالة غيض الأرحام

د. عبد الجواد الصاوي*

 

ملخص البحث:

يتناول هذا البحث تحرير معنى غيض الأرحام عند علماء اللغة ومفسري القرآن الكريم, ثم مطابقة هذا المعنى مع حقائق علم الأجنة الحديث, وقد توصل البحث إلى أن غيض الأرحام هو السقط الناقص للأجنة قبل تمام خلقها, أو هو ما تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض – أو هو هلاك الحمل أو تضاؤله أو اضمحلاله – وهذا المعنى يتوافق مع الإسقاط التلقائي المبكر للأجنة حينما تهلك ويلفظها الرحم, أو تغور وتختفي تمامًا من داخله. كما أظهر البحث وجه الإعجاز العلمي في هذا الموضوع. قال الله تعالى: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار،عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} (سورة الرعد, الآيتان 8 ـ 9).

أولا: تحرير معنى الغيض:

يطلق الغيض في اللغة على: النقص, والغور, والذهاب, والنضوب. وقد جاء في المعاجم اللغوية: (غاض الماء غيضًا ومغاضًا): قل ونقص. أو غار فذهب. أو قل ونضب. أو نزل في الأرض وغاب فيها. (…)
وفى المفردات في غريب القرآن: {وغيض الماء}، (سورة هود: آية 44).ـ وما تغيض الأرحام) أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض, والغيضة المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه (المفردات في غريب القرآن ص 368). ومعنى الغيض فيها: الغياب, والذهاب والنضوب…

1 – الغيض هو السقط:

… قال الضحاك: (وما تغيض الأرحام) أن تسقط المرأة الولد, (وما تزداد) تضعه لمدة كاملة تامة…. وقال صاحب تفسير المنار: “وما تغيض الأرحام من نقص الحمل أو فساده بعد العلوق”…

2 – الغيض هو نزول الدم على الحامل:

عزا أبو حيان هذا الرأي إلى الجمهور فقال: قال الجمهور: غيض الرحم: الدم على الحمل. قال مجاهد: (وما تغيض الأرحام): الدم تراه المرأة في حملها, … فالدم الذي ينزل من المرأة الحامل مبكرا لا يعدو إلا أن يكون راجعا لأحد احتمالات خمسة: دم بسيط يعرف بإدماء الانغراس, أو دماء تسبق الإسقاط وتسمى إسقاطًا منذرًا, أو دماء تصاحب الإسقاط التلقائي للجنين المبكر- وهذا يختلط عند المرأة مع الحيض- أو دماء تنزل في حالات الحمل الكاذب, ومتلازمة التوأم المتلاشي. بناء عليه فالدم الذي تراه المرأة مصحوبا ببقاء الحمل لا يمكن أن يكون دم حيض, ولا علاقة له ببقاء الجنين فترة أطول في الرحم, بل ربما يؤثر في نقص عمر الجنين أو وزنه, فالجنين الذي يبقى عادة مع الإجهاض المنذر ينزل دون التسعة أشهر, أو ينزل دون الوزن الطبيعي….

هل الغيض مطلق السقط أم السقط المبكر؟

إن الفترة الزمنية التي يمكن أن يكون الإسقاط التلقائي فيها معبرا عن الغيض المذكور في القرآن والسنة, تقع في مرحلة التخليق؛ وتبدأ من تكون النطفة الأمشاج, مرورا بطوري العلقة والمضغة, حتى وقت نفخ الروح في الجنين.
والدليل: سؤال الملك الموكل بالرحم ربه؛ عن مستقبل ومصير كل طور من أطوار الجنين الأولى والتي تقع في زمن التخليق, هل ستتخلق أم لا؟
– روى البخاري ومسلم بسنديهما عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها, قال: أي رب أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه.
إن أسئلة الملك؛ أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ هي أسئلة عن مستقبل تخلق هذه المرحلة؛ ومن ثم عن غيض الأرحام بها من عدمه! وفحوى أسئلته عندما يرى نطفتي الرجل والمرأة متقاربتين؛ يا رب أيحدث التلقيح وتتكون النطفة الأمشاج وتغرس في جدار الرحم أم تسقط؟ وهل ستتخلق بعد ذلك إلى العلقة ـ وما فيها من مجموعات الخلايا الأساسية لأعضاء الجسم ـ أم تهلك وتسقط؟
وربما يسأل الملك سؤالاً واحدًا شاملاً من البداية. هل هذه النطفة مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن كانت مخلقة سأل عن صفتها, وإن كانت غير مخلقة مجتها الرحم دمًا؛ وذلك في الحديث المرفوع الذي رواه ابن جرير الطبري, بسنده عن ابن مسعود(إسناد صحيح – كما قال الحافظ ابن حجر – وهو موقوف لفظًا على عبد الله بن مسعود, قال: «إذا وقعت النطفة في الرحم, بعث الله ملكًا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة؛ مجتها الأرحام دمًا, وإن قال: مخلقة, قال: يا رب فما صفة هذه النطفة أذكرًا أم أنثى؟ ما رزقها؟ وما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة, فينطلق الملك فينسخها, فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها. وهذا الحديث يشير بوضوح إلى أن زمن حدوث الغيض أو الإسقاط التلقائي يكون في فترة تخليق الأجنة في الأسابيع الستة الأولى.

ثانيا: تحرير الحقيقة العلمية:

1 – ما هو الإسقاط التلقائي المبكر؟

يطلق الإسقاط التلقائي (Spontaneous abortion) على كل حالة يسقط فيها الحمل تلقائيا قبل الأسبوع العشرين من عمره, أو عندما يكون وزن الجنين أقل من 500 جم. ومعظم حالات الإسقاط التلقائي تحدث خلال الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل. …

2 ـ الأدلة العلمية على أن المراد بالسقط هو السقط المبكر:

الدليل الأول:

ذكر الغيض قبل الزيادة والمطابقة بينهما في قول الله تعالى: { وما تغيض الأرحام وما تزداد}. ذكرت الآية الكريمة الزيادة بعد الغيض؛ ومعروف علميًا أنه خلال الأسابيع الثمانية الأولى من عمر الجنين لا يزداد الرحم عن حجمه الطبيعي زيادة ملحوظة تذكر؛ وأن التغييرات التي تطرأ عليه هي تبدلات وظيفية في أنسجته, وتحدث تحت تأثير هرمونات الحمل. لكن الازدياد الحقيقي للرحم يبدأ بعد مرحلة التخليق في بداية الأسبوع التاسع؛ وهو المتعلق بنمو الجنين, ويستمر إلى نهاية الحمل (شكل1). وبناء عليه فلا يكون الغيض المطابق للازدياد في الآية الكريمة إلا في مرحلة التخليق (الأسابيع الثمانية الأولى) (شكل2).

 

الدليل الثاني:
        لا تغور الأجنة ولا تنضب إلا في مرحلة التخليق: حيث وجد أن الأجنة الهالكة لا تغيب آثارها وتختفي من داخل الرحم إلا في خلال مرحلة التخليق. .. أما عندما يموت الجنين في الأشهر الثلاثة التالية؛ فلا يندثر ويغيب من الرحم, بل يضغط وينكمش حتى يصير رقيقا كالورقة, ويسمى الجنين الورقي, …

ثالثا: توافق معنى الغيض مع السقط التلقائي المبكر:

إن دلالات الغيض اللغوية تتوافق وظاهرة الإسقاط التلقائي المبكر بحالتيها حسب الاصطلاح الطبي: الأجنة التي تلفظها الأرحام, والأجنة المندثرة فيها. دلالة الغيض على الغور والذهاب والنضوب: تتوافق مع ما يحدث لبعض الأجنة, من التحلل والاختفاء تماما من أو مع حويصلة الحمل, حيث لا يبقى للجنين أي أثر داخل الرحم كما في الحالات والصور التالية:

 

أ- حالات البييضة المعيبة (Blighted ova) أو كيس الحمل الفارغ: حيث يتحلل الجنين وتمتص مكوناته, ولا يكون له أثر داخل كيس الحمل, …

ب ـ حالات التوائم المتلاشية: أكدت عدة دراسات حديثة شيوع هذه الظاهرة؛ إذ بلغت نسبتها حوالي 50% من حمل التوائم. ويقول أحد المراجع الطبية: يغور وينضب ويختفي أحد التوأمين تماما من داخل الرحم في الفترة المبكرة من الحمل.

 

ج – الإجهاض المخفي: يحدث في بعض صور الإجهاض المخفي أن يغور الجنين ويرتشف, ولا يكون له أي أثر داخل كيس الحمل. فيصير الجنين مع الرحم كالماء الذي حبسته الأرض وابتلعته. وهي إحدى دلالات الغيض اللغوية. انظر شكل(5). …
2- كما أن دلالة الغيض على النضوب والذهاب:

تتوافق أيضا مع ما يحدث في التجاويف العديدة الممتلئة بالسوائل والدماء التي تحيط بالجنين؛ كتجويف السلي, والتجويف الكريوني, والتجمعات الدموية في المسافات البينية للزغابات, والتي تجعل الجنين يحيا في محيط مائي, أشبه بالبرك أو البحيرات المقفلة, حيث يحدث عند هلاك الجنين توقف التحكم الهرموني لبطانة الرحم ـ وما فيه من أوعية دموية وغدد وأنسجة ـ فتنضب إفرازات الغدد, وتقفل الأوعية الدموية للأم, وتتخثر الدماء في الفجوات وبين الزغابات, فتجف وتذهب وتنضب هذه البحيرات داخل بطانة الرحم وفي تجويفه حول الجنين. وبهذا يكون إسناد الغيض للأرحام إسناداً حقيقيًّا انظر شكل (7.6).

 

3- دلالة الغيض على الاحتباس مع النقص:

تتوافق مع ما يحدث لبعض الأجنة حين تهلك ولا تسقط بل تحبس داخل بطانة الرحم ـ…

علماء الإسلام يقررون هذه الحقيقة قبل اكتشاف الأجهزة الحديثة:
        أشار ابن عطية الأندلسي ـ منذ عدة قرون ـ إلى الأجنة المتلاشية في الأرحام فقال مفسرًا الغيض: بأنه زوال شيء من الرحم وذهابه. كما أن صاحب كتاب المفردات في غريب القرآن وصفه بوضوح في قوله: الذي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض. ولله در الشيخ السعدي الذي فسر الغيض بالسقط بصورتيه وكأنه طالع أحوال الأجنة الهالكة في أحدث المراجع العلمية. قال: (وما تغيض الأرحام) أي تنقص مما فيها؛ إما أن يهلك الحمل (السقط الذي يلفظه الرحم), أو يتضاءل (الإجهاض المخفي حيث ينكمش الجنين ويتضاءل), أو يضمحل (الأجنة التي تتلاشى في الرحم).

الإعجاز في دلالة الغيض

        إن دلالة غيض الأرحام على الإسقاط التلقائي المبكر بصورتيه: غور الأجنة وإسقاطها, وما يصاحبه من نقصان ونضوب لبرك السوائل والدماء المحيطة بالأجنة, لهو إعجاز علمي واضح, سبق به القرآن الكريم علم الأجنة بقرون, فالعرب رغم أنهم يعرفون معنى لفظ الغيض لغة إلا أنهم لم ينطقوا بجملة غيض الأرحام أبدا قبل نزول القرآن الكريم. ولقد اتضح بيقين ـ في هذا الزمان ـ بعد تقدم علم الأجنة الوصفي والتجريبي دقة لفظ الغيض, ودلالته الشاملة لكل الأحداث التي تمر بها الأجنة الهالكة في مرحلة التخليق؛ فبعضها تسقطه الأرحام, ويمكن أن يشاهد وتدرك آثاره, والبعض الآخر يتلاشى ويختفي ولا تدرك آثاره؛ ويصدق عليها أن الأرحام قد ابتلعتها كما ابتلعت الأرض الماء. وهذه الحقيقة لم تعرف إلا في هذا القرن, بعد تقدم أجهزة البحث والرصد والتحاليل الدقيقة, ولم تحدد بدقة إلا بعد استخدام أجهزة الموجات فوق الصوتية  المكتشفة حديثًا. وهكذا أثبت العلم بيقين دقة هذا التعبير وشموليته؛ وبهذا يتحقق السبق القرآني في الإشارة إلى حقائق علمية دقيقة, لم يكتشف معظمها إلا في النصف الثاني من هذا القرن, تحقيقا لقول الله تعالى: { إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين}(ص: 87 ـ88).

(…)

______________________________________________________________________

* وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع  www.eajaz.org  (الصور موقع www.forum.wahati.com)