الإعجاز النبوي في تدابير الوقاية الصحية

د. رجاء محمود ملياني*

 

        قال الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم) :”اتقوا اللاعنين “قالوا :” وما اللاعنان يا رسول الله؟” قال :” الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم “. (صحيح البخاري
وقال عليه الصلاة والسلام):” لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ,ثم يغتسل فيه”(صحيح البخاري. وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه نهى أن يبال في الماء الراكد (صحيح البخاري ،كما قال عليه الصلاة والسلام):” إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده “(صحيح البخاري. ثم قوله عليه الصلاة والسلام ):” إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ,وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه, ولا يتمسح بيمينه”(متفق عليه. (…).

إذا نظرنا بعين مجهرية أو بعين ميكروبيولوجية إلى الفوائد الجمة التي نجنيها، وتعود علينا باتباعنا التعاليم السابقة، فإننا نجد الحكمة من وراء هذه الأحاديث؛ فقد أثبت العلم أسرار هذه التعاليم النبوية من خلال الاكتشافات العلمية التي أثبتت العلاقة بين الأحاديث الشريفة المذكورة وبين العديد من الميكروبات الممرضة؛ فنحن نعلم الآن أن الكتلة البرازية للإنسان السليم والمريض تحتوي على العديد من الميكروبات المختلفة , وبأعداد هائلة قد يؤدي بعضها إلى أمراض متعددة عند مخالفة تعاليم نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام, ومن ضمن هذه الميكروبات ملايين من البكتريا المختلفة والفيروسات والطفيليات الأولية والفطريات، منها الممرض ومنها ما يسبب المرض تحت ظروف معينة.

أما بكتيريا الإشريكية القولونية الموجودة في الأمعاء و البراز قد تحتوي أيضًا على الديدان الممرضة والأطوار المختلفة لها. ومن البديهي أن العديد من الميكروبات الممرضة وغير الممرضة تخرج مع البراز الذي قد يؤدي إلى تلوث البيئة المحيطة والغذاء والماء، خاصة وأن الكتلة البرازية هي بؤرة للميكروبات، كما أن تلوث الأيدي ببعض من هذا البراز المحمل بالميكروبات الممرضة التي لا ترى بالعين المجردة قد ينقل العدوى من شخص لآخر؛ ويتفشى المرض من خلال ذلك. ويكفي أن نشير هنا إلى بعض الأمراض الخطرة التي تنتقل عن طريق ابتلاع طعام أو ماء ملوث بالبراز (faecal oral rout)، فعلى سبيل المثال لا الحصر “حمى التيفود” و”داء الكوليرا” و “الديزينتاريا”،و “التهاب الكبد الوبائي”(A)، و”شلل الأطفال”، وما يعرف بالنزلات المعوية التي تظهر على هيئة إسهال حاد وقيء.

وإذا تحدثنا عن ميكروب واحد من الميكروبات السابقة نذكر بكتريا “سالمونيللا التيفود”   Salmonella typhi   التي تسبب “حمى التيفود”  typhoid fever أو ما يعرف بـ”الحمى المعوية” Enteric fever ؛ حيث تتم العدوى عند ابتلاع طعام أو شراب ملوث بالبكتريا. وعادة ما تكون الجرعة المعدية infectious dose  في عدد من البكتريا الذي يسبب أو يحدث المرض كبيرة نظرًا لحساسية “سالمونيللا التيفود”، وقد يحدث المرض بعد(9) أيام؛ أي إن فترة الحضانة تطول أو تقصر حسب عدد البكتريا المبتلعة، إضافة إلى عوامل أخرى ,مثل: سلالة الـ”سالمونيللا المعدية” ومناعة الإنسان المصاب وحالته الصحية العامة. وعمومًا فإن فترة الحضانة تتراوح ما بين(5)أيام قد تطول إلى (21) يومًا؛ وبعد ابتلاع هذا العدد من هذه البكتريا مع الطعام الملوث بها فإنها تمر على المعدة حتى تصل إلى الأمعاء الدقيقة حيث تلتصق بخلايا الأمعاء الطلائية ,ثم تخترق الغشاء المبطن للأمعاء حيث تبتلع بواسطة الخلايا البالعة التي لا تتمكن عادة من قتل البكتريا بل تتمكن هذه البكتريا من التكاثر بداخلها، وتعتبر هذه الخاصية من أهم العوامل الإمراضية لـ”سالمونيللا التيفود”، وبعد تمكّن البكتريا من الخلايا البالعة فإنها تصل من خلال الغدد الليمفاوية إلى مجرى الدم مسببة “بكتيريميا “(سيران البكتريا في الدم) ,ومن ثم تنتشر إلى الكبد والحوصلة المرارية والطحال, والكلى والنخاع العظمي ، وخلال هذه المرحلة يحدث ارتفاع في درجة الحرارة ,وتظهر أعراض حمى التيفود ,مثل: الصداع والشعور بالخمول مع كحة خفيفة بعض الأحيان , وأرق وألم في البطن وإسهال, و أحيانًا إمساك وغالبًا ما يظهر طفح جلدي على شكل بقع صغيرة وردية اللون  rose spot على البطن.

وما يهمنا معرفته خلال هذه المراحل أن بكتريا “سالمونيللا التيفود” تخرج مع البراز بأعداد كبيرة جدًّا ,كما تخرج أيضًا مع البول. ومن المعروف أن هناك نسبة من المرضى تظل تحمل هذه البكتريا بعد الشفاء لسنوات طوال  chronic carriers؛ حيث تبقى موجودة في موضعين: الأول في الحويصلة المرارية وهو الغالب ؛ وبهذا تسري البكتريا من الحويصلة المرارية إلى الأمعاء ومن ثم تخرج مع البراز, والموضع الثاني في بؤرة في الكلى تخرج منها مع البول؛ ومن هنا جاءت أحاديث النبي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) قمة في العلم والمعرفة ؛فهو الذي نهانا عن التخلي(التبرز) في الطريق ,ونهانا عن التبول في الماء الراكد؛ حيث إن براز المريض وحامل الميكروب يلوث التربة بـ”سالمونيللا التيفود”, كما أن البول المحمل بها يلوث الماء والتربة خاصة أن “سالمونيللا التيفود” تستطيع البقاء حية في التربة مع البراز لمدة(6) أسابيع وفي الماء لأربعة أسابيع على الأقل.

كما أمرنا (عليه الصلاة والسلام) بغسل الأيدي وعدم التمسح باليمين؛ ومن المثبت علميًّا الآن أن معظم حالات التسمم الغذائي وحالات “التيفود” و”الديزينتاريا” يكون سببها متداولي الأطعمة الحاملين للميكروبات الممرضة والذين لا يتوخون النظافة وإتباع السنة. ولعل أشهر حاملة ميكروب هي الطاهية “ميري”  Miary   في الولايات المتحدة التي اكتشفت أنها تحمل بكتريا “سالمونيللا التيفود”, وتخرجها مع البراز؛ وقد تسببت في تفشي العدوى بـ”حمى التيفود” لأفراد المنازل التي عملت بها, بل وفي المستشفيات أيضًا, وقد كان يتبعها آنذاك ضابط صحة عامة قد لاحظ ارتباط وجودها طاهية في أماكن تفشي حالات “حمى التيفود”؛ فطلب منها إجراء الفحوصات والتحاليل الطبية اللازمة إلا أنها رفضت وهربت من المنطقة؛ وظهرت بعد ذلك حالات أخرى من “حمى التيفود” في مستشفى عام فذهب ضابط الصحة نفسه لتلك المستشفى لدراسة مصدر العدوى, وفوجيء برؤية الطاهية “ميري” في مطبخ المستشفى والتي اتضح أنها تعمل هناك باسم مختلف عن اسمها (اتخذت اسمًا مستعارًا) ,وانتهت القصة برفع قضية إلى المحكمة التي حكمت على الطاهية “ميري” بالتوقف عن العمل كطاهية, وإجراء الفحوصات اللازمة؛ ومنذ ذلك الحين سميت هذه الطاهية بـ”ميري التيفود” Typhoid Miary
أما وباء “حمى التيفود” الذي حدث في مدينة “ابرين” في عام (1964)Aberdeen  في بريطانيا وكان مثارًا للدهشة والعجب لأنه كان نتيجة لاستهلاك معلبات غذائية مستوردة وملوثة أصلاً من مصدر استيرادها؛ حيث وجد أن هذه المعلبات وضعت بعد تعقيمها في نهر قريب من المصنع بغرض تبريدها. وعللت التقارير آنذاك أن النهر كان ملوثًا بمياه المجاري, وأن بكتيريا “سالمونيللا التيفود “دخلت في المعلبات من خلال مفاصل في المعلبة لم يتم تلحيمها بشكل جيد.

(سبحان الله )!!! نهر جارٍ لوّث معلبات وضعت فيه للتبريد؛ فكيف بماء راكد؟! نعم , صدق الحبيب المصطفى (عليه الصلاة والسلام) ؛ فهو حقـًّا نبي الأمة ,وهو حقـًّا لا ينطق عن الهوى.

___________________________

*  وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع  www.eajaz.org