الحبة السوداء… شفاء من كل داء

د. عبد الجواد الصاوي*

 

      تلقى المسلمون أحاديث الحبة السوداء بالقبول واختلف العلماء في شرحها: فمن قائل بأن عموم الشفاء لكل الأمراض والذي يفهم من ظاهر الأحاديث ليس مراداً، وإنما المراد أن فيها شفاء لبعض الأمراض، فهو من قبيل العام الذي يراد منه الخصوص، ومن قائل: أن الأصل حمل العام على عمومه ما لم تكن هناك قرينة قوية صارفة، ولذلك رجحوا وجود خاصية الشفاء بها لكل الأمراض وأثبتت الأبحاث الحديثة أن جهاز المناعة يملك تقديم العلاج الدقيق المتخصص لكل داء يمكن أن يصيب الجسم، من خلال تنشيط المناعة النوعية متمثلة في الخلايا الليمفاوية المنتجة للأجسام المضادة، والخلايا القاتلة المفصلة والمخصصة لكل داء. وأن للحبة السوداء تأثيراً منشطاً ومقوياً لهذه المناعة، فيمكن بذلك أن يكون في الحبة السوداء شفاء من كل داء، وبالتالي يمكن حمل ظاهر النصوص على عمومها.(…)

أولاً: النصوص الواردة وشرحها

ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام” (1) والسام: الموت. كما روى البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: “إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا من السام”. قلت وما السام؟ قال: “الموت”(2). وفي رواية المسلم: “ما من داء إلا في الحبة السوداء منه شفاء”(3).

شرح العلماء السابقين للأحاديث

اختلف علماء المسلمين الأوائل في تفسير هذه الأحاديث بناء على معلومات عصرهم، فقال فريق منهم: أن العموم غير مراد وإنما يراد به الخصوص. فقال المناوي فإن فيها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة ولكن لا تستعمل في داء صرف بل تارة تستعمل مفردة وتارة مركبة حسب ما يقتضيه المرض وقال ابن حجر العسقلاني مثل الكلام السابق وزاد في كل داء تقديره يقبل العلاج بها فإنها تنفع من الأمراض الباردة وأما الحارة فلا.

وقال الخطابي: هو من العام الذي يراد به الخاص لأنه ليس من طبع شيء من النبات ما يجمع جميع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلتها، وإنما المراد إنها شفاء من كل داء يحدث بسبب الرطوبة. وقال أبو بكر بن العربي: العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء لكل داء من الحبة السوداء، فإن كان المراد بقوله العسل فيه شفاء للناس إنما يراد به الأكثر الأغلب، فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى. وأما صاحب كتاب تحفة الأحوذي الذي حمل الأحاديث على عمومها فقال وأما أحاديث الباب فحملها على العموم متعين لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها إلا السام كقوله تعالى:{ والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ثم قال: قال أبو محمد بن أبي جمرة تكلم الناس في هذا الحديث وخصوا عمومه وردوده إلى قوله أهل الطب والتجربة ولا خفاء بغلط قائل ذلك، لأنا إذا صدقنا أهل الطب ومدار علمهم غالباً على التجربة التي بناؤها ظن غالب، فتصديق من لا ينطق عن الهوى أولى من كلامهم.. أ..هـ

ثانياً: الجانب العلمي

1ـ الجهاز المناعي(7،5)

يتعرض الإنسان طبيعياً لأنواع مختلفة من البكتريا والفيروسات والفطريات والطفيليات التي تغزونا عن طريق الجلد، أو مجاري التنفس، أو عن طريق القناة الهضمية، أو عن طريق الأغشية المبطنة للعين، أو عن طريق الجهاز البولي وتسبب عدة أمراض خطيرة فيما لو نفذت إلى الأنسجة العميقة في الجسم بالإضافة إلى الأعداد التي تحيا طبيعياً في أجسامنا. ولكن من رحمة الله بنا أن جعل لأجسامنا نظاماً خاصة للدفاع عنه ضد الغزو الخارجي لهذه الكائنات الدقيقة وسمومها التي تفرزها في الجسم، وهذا الجهاز يسمى جهاز المناعة. ويقوم الجهاز بوظيفتين متكاملتين لمنع المرض والتخلص من مسببه الغازي للجسم، إما بتحطيمه بواسطة عملية البلعمة، أو بإنتاج أجسام مضادة وخلايا متخصصة متوافقة مع تركيب كل كائن يغزو الجسم، وذلك لضمان القضاء عليه بشكل نهائي. وعليه فالمناعة التي يقدمها هذا الجهاز للجسم يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين:

أولاً: مناعة فطرية أو طبيعية(Natural immunity) :

وتعتبر خط دفاع أولي للجسم إذ تعمل على منع دخول الغازي، أو إبادته قبل تمكنه من احتلال الأنسجة وتكاثره فيها وتسببه للمرض، وهي مناعة غير نوعية (Non specific) حيث أنها توجد لصد جميع الغزاة من الكائنات الدقيقة والعوامل الخارجية الضارة بكيفية واحدة.(…)

ثانياً ـ المناعة النوعية(Specific Immunity):

هي قدرة الجسم على إنشاء مناعة خاصة قوية وتامة ضد جميع العوامل الغازية للجسم كل على حدة، وتسمى أيضاً المناعة المكتسبة (Acquired Immunity) وهي المناعة التي يكتسبها الجسم نتيجة لتفاعل الجهاز المناعي مع عامل خارجي اخترق دفاعات الجسم واحتل الأنسجة وربما سبب مرضاً ظاهراً مثل الميكروبات الفتاكة والفيروسات والسموم، والأنسجة الغريبة من الحيوانات الأخرى.(…)

تمثل الخلايا الليمفاوية السلاح الأكثر تخصصا، والمعد لكل نوع من أنواع الغزاة بخصائصه المميزة أو سمومه الفتاكة، وتعتبر السلاح الدفاعي الحاسم في حلبة الصراع (…).هناك نوعان من الخلايا اللمفاوية المتخصصة: الخلايا البائية، والخلايا التائية

1ـ الخلايا البائية: (B. Lymphocytes) تتكون الخلايا البائية في نخاع العظام وتبقى فيه إلى أن يكتمل نموها وتصبح خلايا فعالة ثم تنتشر في أجزاء الجسم المختلفة، وتتركز في الدم والطحال واللوزتين والعقد الليمفاوية لتشارك بعد إثارتها في مهاجمة الأجسام الغريبة وذلك بإنتاج الأجسام المضادة والتي تعرف بالأجسام المناعية.

2ـ الخلايا التائية: (T. Lymphocytes) تتكون الخلايا التائية في نخاع العظام ثم تتركه قبل أن يكتمل نموها وتتجه إلى الغدد الصعترية  ـ بواسطة مواد جاذبة معينة تفرزها هذه الغدة ـ وتبقى فيها حيث يتم انقسامها ويكتمل نموها، ومن ثم تتركها وتنتشر في أجزاء الجسم المختلفة لتشارك في عمليات جهاز المناعة. (…)

تتعاون وتتفاعل خلايا جهاز المناعة بأنواعها المختلفة بعضها مع بعض لمواجهة ومحاربة الأجسام الغريبة التي تحاول دخول جسم الإنسان.(…)

2ـ الأبحاث العلمية:

ينتمي نبات النيجيللا ساتيفا Nigella sativa لفصيلة النباتات الشقيقية ومن الأسماء المتواترة لهذا النبات: الحبة السوداء، الكراوية السوداء، الكمون الأسود، شونيز، كالااجاجي كالدودة، جيراكا، كاز، كارزنا. وقد استعملت الحبة السوداء في كثير من دول الشرقين ـ الأوسط والأقصى ـ علاجا طبيعياً منذ أكثر من ألفي عام وتم استخلاص مركب النيجيللون من زيت الحبة السوداء عام 1959م على يد الدخاخني وزملاؤه، وتحتوي بذور الحبة السوداء على 40% من وزنها زيتاً ثابتاًو 1.4% زيوتاً طيارة، وتحتوي على خمسة عشر حمضاً أمينياً، وبروتين وكالسيوم وحديد وصوديوم وبوتاسيوم، وأهم مركباتها الفعالة هي: الثيموكينون، والدايثيموكينون، والثيموهيدروكينون، والثيمول.

لم يتضح دور الحبة السوداء في المناعة الطبيعية حتى عام 1986م إلا بالأبحاث التي أجراها الدكتور القاضي وزملاؤه في الولايات المتحدة الأمريكية. ثم توالت بعد ذلك الأبحاث في شتى الأقطار وفي مجالات عديدة حول هذا النبات (…).

الحبة السوداء وجهاز المناعة

أجرى الدكتور أحمد القاضي وزملاؤه بالولايات المتحدة الأمريكية(4) بحثاً عن تأثير الحبة السوداء على جهاز المناعة في الإنسان وقد أجري البحث في دراستين كانت نتائج الدراسة الأولى: زيادة في نسبة الخلايا اللمفاوية التائية المساعدة  إلى الخلايا الكابحة  بنسبة 55% وزيادة متوسطة في نشاط خلايا القاتل الطبيعي بنسبة 30% وقد أعيدت الدارسة مرة أخرى على مجموعة ثانية من المتطوعين، وذلك لوقوع معظم المتطوعين في الدراسة الأولى تحت ضغوط مؤثرة شخصية ومالية، وضغوط متعلقة بالعمل خلال فترة الدراسة، وذلك لتفادي عامل الضغوط (الإجهاد) على جهاز المناعة. وقد أجريت الدراسة الثانية على ثمانية عشر متطوعاً ممن تبدو عليهم أمارات الصحة، وقد قسم المتطوعون إلى مجموعتين: مجموعة تناولت الحبة السوداء بواقع جرام واحد مرتين يومياً، ومجموعة ضابطة تناولت الفحم المنشط بدلاً منها لمدة أربعة أسابيع، وقد غلفت عبوات بذور الحبة السوداء في كبسولات متشابهة تماماً مع عبوات الفحم، وقد ثبت من خلال هذا البحث أن للحبة السوداء أثراً مقوياً لوظائف المناعة (…). وقد جاءت نتائج بعض الدراسات الحديثة مؤكدة لنتائج أبحاث القاضي. (…).

ثالثاً: وجه الإعجاز

أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن في الحبة السوداء شفاء لكل داء، ووردت كلمة شفاء في صيغ الأحاديث كلها غير معرفة بالألف واللام، وجاءت في سياق الإثبات فهي لذلك نكرة تعم في الغالب، وبالتالي يمكن أن نقول أن في الحبة السوداء نسبة من الشفاء في كل داء.

وقد ثبت من خلال وصف الجهاز المناعة أنه النظام الوحيد والفريد الذي يمتلك السلاح المتخصص للقضاء على كل داء، (…) وهذا الجهاز هو مثل بقية الأجهزة ينتابه العطب والخلل والمرض، فقد يعمل بكامل طاقته وكفاءته أو بأقل حسب صحته وصحة مكوناته، فمادام هذا الجهاز سليماً معافى في الجسم يستطيع القضاء على كل داء (يطلق الداء إما على المرض أو على مسبب المرض).

وحيث أن هناك مواد خلقها الله سبحانه وتعالى تنشط هذا الجهاز وتقوية، أو تعالج وتصلح ما فيه، فيمكن أن توصف بما يوصف به هذا الجهاز نفسه. وبما أنه قد ثبت أن الحبة السوداء تنشط المناعة النوعية أو المكتسبة برفعها نسبة الخلايا المساعدة والخلايا الكابحة وخلايا القاتل الطبيعي ـ وكلها خلايا ليمفاوية في غاية التخصص والدقة ـ لما يقرب من 75% في بحث القاضي، وبما أكدته الأبحاث المنشورة في الدوريات العلمية لهذه الحقيقة، حيث تحسنت الخلايا الليمفاوية المساعدة وخلايا البلعمة، وازداد مركب الإنترفيرون، وتحسنت المناعة الخلوية، وانعكس ذلك التحسن في جهاز المناعة على التأثير المدمر لمستخلص الحبة السوداء على الخلايا السرطانية وبعض الفيروسات، وتحسن آثار الإصابة بديدان البلهارسيا.

لذلك يمكن أن نقرر أن في الحبة السوداء شفاء من كل داء لإصلاحها وتقويتها لجهاز المناعة وهو الجهاز الذي فيه شفاء من كل داء، ويتعامل مع كل مسببات الأمراض، ويملك تقديم الشفاء الكامل أو بعضه لكل الأمراض، كما أن ورود كلمة شفاء في الأحاديث بصيغة النكرة يدعم هذا الاستنتاج، حيث تتفاوت درجات الشفاء تبعاً لحالة جهاز المناعة ونوع المرض وأسبابه ومراحله.

وبهذا يفسر العموم الوارد في الحديث ويتوافق مع الأقوال السابقة لشرح الحديث، وهكذا تجلت الحقيقة العلمية في هذه الأحاديث الشريفة والتي ما كان لأحد من البشر أن يدركها فضلاً عن أن يقولها ويحدث الناس بها منذ أربعة عشر قرناً إلا نبي مرسل من الله، يتلقى معلوماته من العليم بأسرار خلقه. وصدق الله القائل:{ وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحي} (النجم آية 3 ـ 4).

تنبيهات مهمة: يفيد منطوق ومفهوم نصوص الحبة السوداء أن فيها شفاء من الأمراض، فلا ينبغي أن يتناولها الإنسان إلا عند إصابته بالمرض. وألا يدفع الحماس للسنة أن يتناول الأصحاء كميات هائلة منها أو من زيوتها بلا ضابط طلباً للوقاية والحماية، مما قد يؤدي إلى عواقب لا تحمد عقباها. ويجب أن يعرف المريض الجرعة الملائمة لمرضه، وأقصى كمية يمكن أن يتناولها يومياً، وكيفية تناولها، وأن يعرف أفضل طريقة للاستفادة منها، مفردة أو مركبة مجروشة أو صحيحة وذلك بإشراف طبيب.(…)

                                             

* الباحث في الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.nooran.org

الهوامش والمراجع:

( 1 ) أخرجه البخاري(10/121) في الطب: باب الحبة السوداء. ومسلم (2215) في السلام: باب التداوي بالحبة السوداء.

( 2 ) فتح الباري (10/143ح5687).

( 3 ) صحيح مسلم (4/1736ح89).

( 4 ) أحمد القاضي وأسامة فنديل ـ الحبة السوداء شفاء من كل داء، ط2 1421 هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ـ رابطة العالم الإسلامي.

( 5 ) مجلة العلوم والتقنية. العدد 37 محرم 1917هـ مقالات في جهاز المناعة للدكتور خالد أبو الخير والدكتورة فاتن الزامل والدكتور هاشم عروة.

( 6 ) مجلة العلوم الأمريكية المترجمة(1999 الكويت).