الشيخوخة: أسرارها الطبية وأهدافها الروحية

إعداد: سعد عواد الحلبوسي*

 

قال تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (سورة الحج:5).

        أرذل العمر أو الشيخوخة هي المرحلة الأخيرة من حياة الإنسان الذي قدر له أن يطول عمره ويتخطى مرحلة القوة والشدة والنضوج، وقد حدد القرآن المرحلة التقريبية التي يصل فيها الإنسان إلى ذروة قوته وفعاليته، حيث قال تعالى في سورة الأحقاف: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} (الاحقاف:15).

يشعر الذين تخطوا سني عمرهم الخمسين أو فوق، أن كل شيء فيهم يتغير ويهبط، ويتمرد عليهم النظام الذي كان يسري في أجسامهم قبل ذلك، ونرى بصمات السنين قد تركت آثارها على ظاهرهم وباطنهم، فبشرة الجلد الغضة اللينة أصبحت متجعدة ومتهدلة ، وتحولت سوداء الشعر إلى بيضاء، وبرزت عروق الأطراف، وضعف البصر وزاغ، وانخفضت كفاءة السمع، ونقصت معدلات الإستقلاب العامة. (1)

        ولقد وجد العلماء أن معدل هذا التدهور يتراوح بين ( 0،5 ، ـ 3، 1% ) في كل عام. وكمثال، فإن القلب يقوم في الدقيقة الواحدة ( 70 ـ 80 ) عملية انقباض واسترخاء، وفي اليوم أكثر من مائة ألف انقباض، وفي العام أكثر من (36) مليون انقباض واسترخاء، فلنتصور ذلك العبء الذي يقوم به على مر السنين، إن كفاءته ستنخفض حتماً وبالتالي سينخفض معدل ورود الدم إلى الأنسجة الأخرى، ومنها الكلية التي تفرز مادة الرينين لتزيد ضغط الدم في محاولة منها لرفع معدل ورود الدم إليها وهكذا يدخل الجسم في حلقة مغلقة تؤدي لإصابة الإنسان بارتفاع الضغط عندما يتقدم في السن. إن هبوط كفاءة أي عضو هو انعكاس لهبوط كفاءة الوحدات التي تكونه، والوحدات الحيوية الوظيفية في أي عضو هي الخلايا، فماذا وجد العلماء وهم يبحثون عن أسباب الشيخوخة على مستوى الخلية ؟

الواقع أن ملخص ما وصلوا إليه أن الخلايا لا تستطيع أن تتخلص تماماً من جميع النفايات وجميع بقايا التفاعلات التي تجري بداخلها، فتتجمع تلك النفايات على شكل جزيئات، قد تكون نشيطة أحياناً فتتحد بوحدات الخلية الحيوية كمصانع الخلية ( الشبكة السيتوبلاسمية ) … ويؤدي هذا الاتحاد إلى نقص فعالية هذه الوحدات وبالتالي فعالية الخلية ككل، وتسير هذه العملية ببطء شديد، فلا تظهر آثارها إلا على مدى سنوات طويلة … وهكذا يدخل الجسم في مرحلة الضعف ببطء بعد أن ترك تلك المرحلة حيث كان طفلاً، ثم دخل في مرحلة القوة والشباب، حتى أن زاوية الفك السفلي تكون منفرجة عند الأطفال، ثم تصبح قائمة أو حادة عند الشباب، ثم تعود لتصبح منفرجة عند الكهولة كما كانت وقت الطفولة، وصدق الله إذ يقول: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} (الروم:54).

        وهناك شيء آخر، هو أن خلايا الجسم تكون في حالة تجدد مستمر، عن طريق عمليات الهدم والبناء فتتغلب عمليات البناء أو التعمير في النصف الأول من حياة الإنسان ثم تتوازى عمليات البناء مع عمليات الهدم، وفي النصف الأخير من الحياة تتغلب عمليات الهدم أو التنكس على عمليات التعمير وهذا ما يفسر لنا سرعة التئام الكسور والجروح عند الصغار، و بطئها عند المسنين(2)، وهكذا تتضح لنا روعة هذه الآية القرآنية: { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} (يّـس:68).

وهي تبين لنا حقيقة علمية ثابتة. وسنة حيوية تقوم عليها كل عمليات الكائنات الحية على الإطلاق. أما بالنسبة للخلايا العصبية والعضلية فإنها لا تتجدد، وكل خلية تموت يفقدها الجسم ويشغل النسيج الليفي مكانها.

        وإذا نظرنا بالمجهر الإلكتروني إلى داخل الخلايا  الهرمة، فإنه سيرينا ترسبات أطلق عليها بعض العلماء اسم أصباغ الشيخوخة، وهي مواد كيميائية تتجمع في خلايا المخ والعضلات وتكسبها لوناً خاصاً، وهي عبارة عن بروتينات وأشباه بروتينات ودهون متأكسدة هذه المواد تتشابك أحياناً لتشكل شبكة على مر الأيام وكأنها خيوط العنكبوت التي تكبل الخلية وتسير بها إلى النهاية التي لا مفر منها، ألا وهي الموت. (3)

        وإذا ما خرجنا من الخلية إلى رحب الحياة الواسع، نجد أن موت الكائنات هو ضرورة لابد منها، لتتالي الأجيال، وإلا فلو تصورنا استمرار الحياة في الكائنات الموجودة حالياً، لانعدمت عناصر الحياة، ولما أتيح للأجيال اللاحقة فرصة الحياة والوجود وقد أشار القرآن الكريم إلى حتمية الموت في مواضع عدة منها قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران:185). ويقول مخاطباُ الرسول محمد عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الانبياء:34).

        ويسخر الله من الذين يبحثون عن مهرب من الموت أو عن منجى منه بقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (النساء:78).

        إذن فحكمة الله سبحانه في حتمية الشيخوخة والموت، هي أن الإنسان مهما عمَّر من عمر، سيشعر بالتقهقر، حيث يقول تعالى في سورة فاطر: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، أي الشيب، وأن الموت ليس نهاية المطاف بل سينتقل بعدها إلى الدار الآخرة مخلفا وراءه كل ما جمعه من حطام الدنيا، والموفق من استعد لما سيأتي.

_______________________________

* باحث وأكاديمي عراقي متخصص في الإعجاز القرآني. (والشكر للأستاذ حسن محمد المصري أمين مكتبة جامعة الجنان في طرابلس لبنان لإرساله المقال إلى مجلة الإعجاز).

اعتمدنا في نقل المعلومات العلمية على المصادر التالية :

(1) راجع : تفسير الآيات الكونية في القران الكريم , الدكتور زغلول النجار , مكتبة الشرق الأوسط , ط2 – 2010 . 2/167 – 172 .

(2) مقال للدكتور عبد المحسن صالح  ـ مجلة الفيصل العدد 15 .

(3) مقال للدكتور أحمد حسين القفل ـ مجلة الوعي الإسلامي ـ عدد  185.