القرار المكين

د. عبد الحميد دياب، د. أحمد قرقوز*

قال تعالى: { ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكينٍ إلى قدرٍ معلوم فقدرنا فنعم القادرين ويلٌ يومئذ للمكذبين }. (المرسلات 20 ـ 24)
بهذا الأسلوب المعجز يشير تعالى إلى حقيقتين علميتين ثابتتين ليس في علم الأجنة فقط، وإنما في علم التشريح (…) أيضاً:

الحقيقة الأولى: هي وصف الآيات للرحم بالقرار المكين.

والحقيقة الثانية: إشارة إلى عمر الحمل الثابت تقريباً، أو ما أسماه القرآن: القدر المعلوم(…).

الرحم و مما يتكون ؟ (1)

الرحم عضو تناسلي لدى الأنثى وهو المهد الذى ينشأ فية الجنين حيث يمده بالغذاء والأكسوجين طوال فترة الحمل ليضمن له الاستمرار في الحياة وهو أيضا المسئول عن عملية الولادة والوضع. والرحم عضو مجوف ذو جدار عضلي سميك يقع في اسفل منطقة البطن (تجويف الحوض ) عند المرأة بين المستقيم والمثانة وفي حالة عدم وجود حمل يكون الرحم ايضا مصدر الدورة الشهرية. ويشبه الرحم ثمرة الكمثرى (الإجاص) المقلوبة في الشكل والحجم وتتصل من أعلى بقناة فالوب ومن الاسفل بالمهبل.

يختلف حجم الرحم الطبيعي مع إختلاف المرحلة السنية أو العمر وأيضا فى حالة حدوث حمل (يزيد متوسط الحجم الطبيعى بعد الحمل). أبعاد الرحم الطبيعية للمرأة البالغة (فى المتوسط) هى حوالى 8 سم فى الطول, 5سم فى العرض و 2.5 سم فى الثمك و يبلغ وزن الرحم الطبيعي حوالي 180 جراما. ويتمدد الرحم خلال فترة الحمل و يتضاعف 22 مرة من 50 جراماً قبل الحمل و حتى 1100 جرام عند الولادة ليستع للجنين الذي ينمو بداخله. بعد إنقطاع الطمث (الدورة الشهرية) يصغر حجم الرحم ويعود لحجم ما قبل ظهور الدورة الشهرية.

يتكون الرحم من :
– جدار عضلي: و منه يتكون أغلب الرحم (الخلايا العضلية تسمى ألياف عضلية).
– بطانة الرحم: وهي غشاء ناعم وطري ومسؤول عن استقبال الجنين. بطانة الرحم تمنع الإلتصاقات بين الجدار الداخلي للرحم وبالتالي يظل مجوفاً.
– غشاء خارجي: وهو غشاء رفيع يغطي الجدار العضلي للرحم من الخارج.

القرار المكين:

قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}(المؤمنون 12 ـ 13)
نطفة، نطفة ضعيفة لا ترى إلا بعد تكبيرها مئات المرات، جعلها الله في هذا القرار، فتكاثرت وتخلقت حتى أعطت هذا البناء العظيم، وخلال هذه المرحلة كانت تنعم بكل ما تتطلبه من الغذاء والماء والأوكسجين، في مسكن أمين ومنيع ومريح، وتحت حماية مشددة من أي طارئ داخلي أو خارجي. حقاً إن هذا الرحم لقرار مكين.
القصة شيقة وممتعة لا يملك من يطالعها إلا أن يسبح الخالق العظيم، وهو يرى تعاضد الآليات المختلفة: التشريحية، والهرمونية، والميكانيكية، وتبادلها في كل مرحلة من مراحل تطور الجنين، لتجعل من الرحم دائماً قراراً مكيناً.
فتشريحياً:
1 ـ يقع الرحم في الحوض بين المثانة من الأمام والمستقيم من الخلف، وتتألف من ثلاثة أقسام تشريحية هي: الجسم والعنق والمنطقة الواصلة بينهما وتسمى المضيق.
2 ـ يحيط بالرحم جدار عظمي قوي جداً، يسمى الحوض، ويتألف الحوض من مجموعة عظام سميكة هي العجز والعصعص من الخلف، والعظمين الحرقفين من الجانبين ويمتدان ليلتحما في الأمام على شكل عظم العانة، هذا البناء العظمي المتين لا يقوم بحماية الرحم من الرضوض والضغط الخارجي من الجوانب كافة فحسب، وإنما يطلب منه أن يكون بناءًا و ترتيبًا تشريحيًا يرضى عنه الجنين، بحيث يكون ملائماً لنموه، متناسباً مع حجمه وشكله، وأن يسمح له عندما يكتمل نموه ويكبر آلاف المرات بالخروج والمرور عبر الفتحة السفلية إلى عالم النور، وبشكل سهل فأي اضطراب في شكل الحوض أو حجمه قد يجعل الولادة صعبة أو مستحيلة، وعندها يلزم شق البطن لاستخراج الوليد بعملية جراحية تسمى القيصرية.
3 ـ أربطة الرحم: هناك أربطة تمتد من أجزاء الرحم المختلفة لترتبط بعظام الحوض أو جدار البطن تسمى الأربطة الرحمية تقوم بحمل الرحم، وتحافظ على وضعيته الخاصة الملائمة للحمل والوضع، حيث يكون كهرم مقلوب، قاعدته في الأعلى وقمته في الأسفل، وينثني جسمه على عنقه بزاوية خفيفة إلى الأمام، كما تمنع الرحم من الانقلاب إلى الخلف أو الأمام، ومن الهبوط للأسفل بعد أن يزيد وزنه آلاف المرات.
هذه الأربطة هي: الرباطان المدوران، والرباطان العرضيان، وأربطة العنق الأمامية والخلفية ولندرك أهمية هذه الأربطة، يكفي أن نعلم أنها تحمل الرحم الذي يزداد وزنه من (50)غ قبل الحمل إلى (5325)غ مع ما تحويه من محصول الحمل وأن انقلاب الرحم إلى الخلف قبل الحمل قد يؤدي للعقم لعدم إمكان النطاف من المرور إلى الرحم، وإذا حصل الانقلاب بعد بدء الحمل فقد يؤدي للإسقاط.
وهرمونياً: يكون الجنين في حماية من تقلصات الرحم القوية، التي يمكن أن تؤدي لموته، أو لفظه خارجاً، و ذلك بارتفاع عتبة التقلص لألياف العضلة الرحمية بسبب ارتفاع نسبة هرمون البروجسترون الذي هو أحد أعضاء لجنة التوازن الهرموني أثناء الحمل و التي تتألف من:
1 ـ المنميات التناسلية: كمشرف.
2 ـ هرمون الجريبين كعضو يقوم بالعمل المباشر.
3 ـ هرمون البروجسترون كعضو يقوم بالعمل مباشرة تتعاون هذه اللجنة وتتشاور لتؤمن للجنين الأمن والاستقرار في حصنه المنيع، فلنستمع إلى قصتها بإيجاز:
ما إن تعشعش البيضة في الرحم حتى ترسل الزغابات الكوريونية إلى الجسم الأصغر في المبيض رسولاً يدعى المنميات التناسلية تخبره بأن البيضة بدأت التعشيش، وتطلب منه أن يوعز للرحم أن يقوم بما عليه من حسن الضيافة. وفعلاً يقوم الهرمون بالتأثير المباشر على الدم ليقوم بتأمين متطلبات محصول الحمل، كما أن للهرمون واللوتئين ( البروجسترون )، كما ذكرنا، الفضل في رفع عتبة تقلص العضلات الرحمية، فلا تتقلص إلا تقلصات خفيفة تفيد في تعديل وضعية الجنين داخل الرحم وفي الشهر الثالث يبدأ الجسم الأصفر يعلن عن اعتذاره عن الاستمرار في تقديم هذه الهرمونات، ويميل للضمور، وفي هذا الوقت تأخذ المشيمة ـ التي تكون قد تكونت ـ على عاتقها أمر تزويد الحمل بمتطلباته المتزايدة من الهرمونات حتى نهاية الحمل. وهكذا نجد لغة التفاهم والتعاون ظاهرة في هذه اللجنة الهرمونية والجهات التي تصدر عنها.

قال تعالى: { ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكينٍ إلى قدرٍ معلوم فقدرنا فنعم القادرين ويلٌ يومئذ للمكذبين }. (المرسلات 20 ـ 24)

 ________________________

* المرجع: مع الطب في القرآن الكريم تأليف الدكتور عبد الحميد دياب الدكتور أحمد قرقوز مؤسسة علوم القرآن دمشق. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.quran-m.com

(1) د. سمير عبد الغفار:  http://www.samirabdelghaffar.com/uterus_menstruation_ar.html