معجزة جهاز المناعة

أ. هارون يحيى*

 

مقدمة:

يجب على أية دولة في العالم إن أرادت الاستمرار في الوجود أن تهتم بقضية الدفاع وتوليها أهمية بالغة. كما يجب على كل الأمم أخذ الحيطة والحذر من كل أشكال التهديد الداخلي والخارجي من هجمات وأخطار حروب وعمليات إرهابية. لذلك تقوم الدول برصد قسط كبير من ميزانياتها للدفاع. ويتم تسليح الجيوش بطائرات وبوارج حربية وأسلحة جد متطورة، وتوضع باستمرار قوات الدفاع على أعلى مستوى من الاستعداد.

وبالطريقة نفسها، يهدد جسم الإنسان أعداء كثيرون ويتعرض لتهديدات عديدة. وتتجسد هذه الأخطار في البكتيريا والفيروسات والأجسام الميكروسكوبية المماثلة والتي توجد في كل مكان: في الهواء الذي نستنشقه، وفي الماء الذي نشربه، وفي الطعام الذي نأكله، وفي المحيط الذي نعيش فيه.

لكن ما يجهله عامة الناس هو أن لدى جسم الإنسان جيشًا متميزًا، ألا وهو جهاز المناعة، والذي يقوم بمحاربة الأعداء. ويتعلق الأمر هنا بجيوش حقيقية مشكلة من “جنود” عدة و”أصحاب مهام رسمية” أسندت لهم مهام مختلفة وهم مدربون بشكل خاص ويستعملون تكنولوجيا متطورة ويحاربون بأسلحة تقليدية وكيميائية.

وفي كل يوم، أو بالأحرى في كل دقيقة، تنشب وبشكل مسترسل حروب بين هذه الجيوش والقوات المعادية، لكننا لا نعي ذلك. وقد تقع هذه الحروب على شكل مناوشات داخلية بسيطة، وكذلك قد تشمل المعارك الجسد بأكمله وتنذره بالخطر. وتسمى هذه المعارك “أمراضًا”.

وفي غالب الأحيان لا تتغير الطريقة العامة التي تنشب من خلالها هذه الحرب. فقد يحاول العدو خداع خصمه عن طريق التمويه وهو يشق طريقه عنوة داخل الجسد. ويُسند الدفاع إلى قوات مدربة تقوم بمهمة تقصّي الحقائق لتحديد هوية الأعداء. ويتم التعرف على الأعداء وتحضير الأسلحة المناسبة للقضاء عليهم. وعلى هذا النحو يتم الاحتكاك المباشر وينتج عنه اندحار العدو وإعلان وقف إطلاق النار وإخلاء ساحة المعركة. وأخيرًا يتم تخزين كل أنواع المعلومات عن العدو كنوع من الاحتياط لمجابهة هجوم محتمل في المستقبل.

دعونا الآن نحلل عن قرب هذه الحرب المثيرة.

الجسم البشري: قلعة محاصرة

يمكن تشبيه جسم الإنسان بقلعة محاصرة من قِبَل الأعداء. ويبحث هؤلاء الأعداء عن شتى الطرق بقصد الهجوم على القلعة واقتحامها. ويشكل جلدُ الإنسان جدار تلك القلعة. وتعد مادة القرتين الموجودة في خلايا الجسم البشري حاجزًا مانعًا للبكتيريا والفطريات. ولا تتمكن المواد الدخيلة التي تصل إلى الجلد من شق طريقها داخل هذا الجدار. ومع أن الطبقة الخارجية للجلد، والتي تحتوي على مادة القرتين، تنمحي باستمرار إلا أنها تتجدد حيث يتكون الجلد من تحتها. وبذلك يتم طرد كل الزوار غير المرغوب بهم الذين شقوا طريقهم داخل الجلد من الجسم مع الجلد الميت، وذلك خلال مرحلة نمو الجلد من الداخل إلى الخارج. ولا يمكن للعدو الآن أن يقتحم الجسم سوى عن طريق جرح ما قد يصيب الجلد.

الخطوط الأمامية:

يعتبر الهواء أحد الطرق التي تتمكن من خلالها الفيروسات من ولوج جسم الإنسان، حيث يشق العدو طريقه إلى الجسم عن طريق الهواء الذي يستنشقه الإنسان. لكن هناك إفرازات خاصة توجد داخل غشاء الأنف المخاطي وأجزاء دفاعية تبلع الخلايا داخل الرئة (البلعم وهي عبارة عن خلية تبتلع الأجسام الغريبة وتقضي عليها) تواجه هؤلاء الأعداء لتسيطر على الوضع قبل أن يستفحل الخطر. وتتمكن الأنزيمات الهضمية الموجودة في حامض المعدة والأمعاء الصغيرة من إقصاء عدد كبير من الميكروبات التي تحاول ولوج جسم الإنسان عن طريق الأكل.

صراع الأعداء:

هناك عدد من الميكروبات التي تتمكن من الاستقرار داخل جسم الإنسان، كتلك التي تستقر في الجلد وفي طياته وفي الفم والأنف والعين وقنوات التنفس العليا وقناة الهضم والأعضاء التناسلية، غير أنها لا تتسبب في المرض.

عندما يدخل ميكروب خارجي جسد الإنسان فإن الميكروبات الداخلية تخشى على مواطنها من التهديد وبذلك تقوم بالقتال الشرس، ويمكن تسمية هذه الميكروبات بالجنود المحترفين. وتحاول هذه الميكروبات، ولغاياتها الخاصة، الدفاع عن وطنها. لذا فإن جيوش جسم الإنسان المعقدة تركيبًا تُدَعَّم بهذه الدفاعات المجهرية.

خطوات ثابتة نحو الحرب الشاملة:

عندما يتمكن عنصر ميكروسكوبي دخيل من ولوج الجسم وتحدي عناصر الدفاع اليقظة والبكتيريا التي تقوم بدور الجنود فإنها تشعل نار الحرب. ويؤدي ذلك إلى قيام الجسم بجيشه المنظم بحرب هجومية ودفاعية محكمة ضد الجيش الأجنبي.

وتتكون الحرب التي يخوضها النظام الدفاعي من أربعة أجزاء:

1. تحديد هوية العدو.

2. تحصين الدفاعات وإعداد الأسلحة الهجومية.

3. الهجوم والمحاربة.

4. العودة إلى الحالة الطبيعية.

وتسمى الخلايا التي تبادر إلى مجابهة الوحدات المعادية “الخلايا البلعمية”، وهي التي تقوم بمحاصرة العدو. ولهذه الخلايا احتكاك مباشر بالعدو حيث تشتبك معه بتلاحم في المعركة. ويمكن وصفها بجنود المشاة الذين يستخدمون “الحربة” كسلاح ضد وحدات العدو ويقاتلون في الخطوط الأمامية للجيش.

إضافة إلى ذلك فإن البلاعم تقوم بوظيفة وحدات الاستخبارات أو المصالح السرية للجيش، بحيث يحتفظون بجزء من العدو الذي تمكنوا من القضاء عليه. ويستخدم هذا الجزء للتعرف على هوية العدو وتحديد ملامحه. وتقوم البلاعم بتسليم هذا الجزء إلى وحدة استخباراتية أو ما يسمى بمرسال خلايا “ت”.

إنذار عام بالخطر:

عندما تندلع حرب في بلد ما يتم الإعلان عن التعبئة الشاملة. ويتم صرف معظم المصادر الطبيعية والميزانية في خدمة الحرب. كما تتم إعادة هيكلة الاقتصاد بناء على هذه الوضعية الاستثنائية ويدخل البلد بأكمله في تعبئة عامة. وبالطريقة نفسها، فإن الحرب التي يخوضها النظام الدفاعي للجسم بصفة عامة تشهد أيضًا إعلانًا عن التعبئة. فهل تعرف كيف يتم ذلك؟

إذا كانت قوة العدو تفوق قدرتهم، فإن موكب الفرسان (بلاعم الماكروفيتجز) الذي يشن الهجوم يقوم بإفراز مادة خاصة. وتسمى هذه المادة “المحمة” وهي عبارة عن وسيلة للإنذار. وبعد أن تسافر طويلا تصل “المحمة” إلى المخ لتقوم بعملية التنبيه والتحفيز في وسطه حيث تنمو الحمى. وعقب هذا التنبيه يقوم المخ بإنذار كافة الجسم وتتولد عن ذلك حمى شديدة لدى الشخص. ومن الطبيعي أن يحتاج المريض الذي يعاني من الحمى الشديدة إلى الراحة. لذا، فإن الطاقة التي يحتاجها الجيش الدفاعي لا تصرف في أماكن أخرى. ويلاحظ هنا وجود وتفاعل خطط وتصاميم جد معقدة.

الجيش المنظم ينتقل إلى المعركة:

وعقب هذه التعبئة تصبح المعركة بين العناصر المجهرية الدخيلة وجهاز المناعة أكثر تعقيدًا، وتؤدي بالإنسان إلى المرض والفراش. وفي هذه المرحلة تبدو جنود المشاة (بلاعم الفاكوسايتس) والخيالة (بلاعم الماكروفيتجز) غير كافية، ويصبح كل الجسم منذرا بالخطر وتزداد الحرب تأججًا. وفي هذه المرحلة تتدخل الكريفاوات (خلايا “ت” و “ب”).

تقوم الخيالة (بلاعم الماكروفيتجز) بتزويد الخلايا “ت المساعدة” بالمعلومات عن العدو. وتقوم هذه الخلايا بدعوة سام الخلايا وخلايا “ب” إلى ساحة المعركة والتي تعد من أكثر محاربي جهاز المناعة فعالية.

إنتاج الأسلحة:

ولحظة حصول خلايا “ب” على المعلومات المتعلقة بالعدو تقوم بصناعة الأسلحة. وكما هو الشأن بالنسبة للأسلحة الباليستية، فإن هذه الأسلحة تصنع فقط لضرب العدو الذي تتوفر عنه معلومات. وتمتاز هذه الصناعة بالإتقان الجيد لدرجة أن البنية الثلاثية للعنصر المجهري الدخيل والبنية الثلاثية للسلاح تتلاءمان جدًا. وهذا التلاؤم شبيه بتلاؤم المفتاح والقفل.

وتتقدم المضادات الحيوية في اتجاه العدو لتنقض عليه بإحكام تام. وبعد هذه المرحلة يتم القضاء على العدو كما يُفعَل بالدبابة التي دُمِّرت عجلاتها ومدفعها وسلاحها. وبعد ذلك تأتي أعضاء أخرى من جهاز المناعة لتقضي نهائيًا على العدو المندحر.

وهنا يجب التوقف عند نقطة هامة جدًا قصد التمعن فيها. هناك أنواع من العدو تعد بالملايين والتي يواجهها جهاز المناعة. ومهما يكن شكل العدو فإن خلايا “ت” قادرة على إنتاج السلاح المناسب للأعداء كافة. ويعني هذا أن جهاز المناعة يتوفر ضمنيًا على المعرفة والقدرة اللازمتين لإنتاج المفاتيح المناسبة للملايين من الأقفال. وتتوفر هذه الخلايا اللاواعية على قدرة لإنتاج الملايين من الأجسام المضادة، والقدرة على استعمالها بأفضل الطرق دليل واضح على وجود خليقة من صنع خالق عظيم ينفرد بقدرة خارقة.

بالإضافة إلى ذلك يعتبر النظام غاية في التطور. فبمجرد أن تدمر خلايا “ب” العدو بالأسلحة الباليستية، يدخل أيضا سام الخلايا “ت” في حرب شرسة ضد العدو. وعندما تدخل بعض الفيروسات في خلية ما فإنها تتمكن من الاختفاء عن الأسلحة التي تنتجها خلايا “ب”. غير أن سام الخلايا “ت” يقوم بالانقضاض على الخلايا المريضة التي يختفي فيها هذا العدو المموه ويقضي بذلك عليها.

مرحلة ما بعد الانتصار:

وعندما يندحر العدو تدخل الخلايا القامعة “ت” ساحة العمليات. وتأمر هذه الخلايا جيش الدفاع بوقف إطلاق النار كما تتحكم في سام الخلايا “ت” وخلايا “ب” كي تحد من أنشطتها. لهذا فإن الجسم لا يستمر في وضعية تعبئة غير مجدية. وبعد أن تضع الحرب أوزارها تكون معظم خلايا “ت” و “ب”، والتي أنتجت خصيصا للحرب، قد أكملت دورة حياتها لتموت بعد ذلك. غير أن هذه الحرب الضروس يجب ألا تُنسى. لقد مرت مدة وجيزة قبل الحرب حتى تم اكتشاف العدو وتمت الاستعدادات اللازمة لأجل ذلك. وإذا ما عاد العدو فإن الجسم يكون على استعداد أفضل. وتبقى مجموعة خلايا الذاكرة التي تمكنت من التعرف على ملامح العدو رهن إشارة جهاز المناعة لتخدمه باستمرار. وفي حالة وقوع هجوم آخر يكون جهاز المناعة قد توفر عن طريق المعلومات المخزنة في خلايا الذاكرة على الوسائل الناجعة للرد قبل أن يتمكن العدو من جمع قوته. ويكمن مثلا سبب عدم تعرضنا لمرضي التهاب الغدة النكفية والحصبة مرة ثانية بعد أن تعرض لهما جسمنا سابقا في وجود ذاكرة جهازنا المناعي.

من خلق هذا النظام؟

بعد أن استعرضنا كل هذه المعلومات يجب علينا أخذ الوقت الكافي للتفكير في كيفية خلق هذا الجهاز المناعي الدقيق والذي يعتمد عليه وجودنا. ومن دون شك هناك خطة خارقة وخالية من أي عيب أو نقص تتحكم في الأمر. كل ما يعتبر ضروريًا لعمل هذا المخطط متوفر ولا يعتريه أي نقصان: بلاعم المايكروفيتجز ومادة المحمة ووسط المخ حيث تنمو الحمى وآليات الجسم حيث تنمو الحمى وخلايا “ب” وخلايا “ت” الخ. إذا كيف جاء هذا النظام المحكم إلى الوجود؟

لا غرابة أن تكون نظرية التطور التي تزعم بأن الكائنات الحية قدمت إلى الوجود عن طريق الصدفة عاجزة عن تفسير كيفية وجود هذا النظام المعقد. وتزعُمُ نظرية التطور بأن الكائنات الحية والنظم الوجودية خرجت إلى الوجود تدريجيًا بفعل صدف صغيرة. غير أنه لا يمكن لجهاز المناعة بأي شكل من الأشكال أن يكون مصدره التدرج. والسبب في ذلك أنه في حالة حصول خلل أو غياب في إحدى العناصر المشكلة لهذا الجهاز فإن هذا الجهاز يتعطل تمامًا ولا يمكن للشخص أن يبقى على قيد الحياة بعد ذلك. لذا، فإن النظام قد جاء إلى الوجود كاملاً شاملاً بعناصره ومن دون عيب أو نقص. وهذه الحقيقة تفند فكرة الصدفة والتي لا قيمة لها.

إذا، من صنع هذا النظام؟ من يعرف بأن حمى جسم الإنسان يجب أن ترتفع وأن بهذه الطريقة فقط لا تصرف الطاقة التي يحتاجها جيش الدفاع في مكان آخر؟ هل هي بلاعم الماكروفيتجز؟ بلاعم الماكروفيتجز هي مجرد خلايا صغيرة جدًا لا تتوفر لديها ملكة التفكير. فهي مجرد كائنات حية تطيع أوامر صادرة عن نظام مميز ومضبوط وهي تقوم بواجباتها فقط.

هل هو الإنسان؟ أبدا! هذا غير ممكن لكون الإنسان لا يدري حتى بأن هناك نظامًا محكمًا يشتغل داخل جسده، والغريب أن هذا الجهاز الذي لا نعي بوجوده هو الذي يحمينا من الموت المؤكد.

من البديهي أن الذي خلق جهاز المناعة والذي خلق جسم الإنسان بأكمله يجب أن يكون خالقًا ذا علم وقوة مجيدين وخارقين. لاشك، هذا الخالق هو الله سبحانه وتعالى الذي خلق جسم الإنسان من “ماء دافق”.

__________________________________

* للراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع harunyahya.com