آزر أبو إبراهيم

د. ناصر المنشاوي*

 

نصّت التوراة على اسم أبي سيدنا إبراهيم عليه السلام، فسمته «تَارَحْ» أو «تِيرَحْ» خلافاً للقرآن الكريم الذي سمّاه «آزَرَ» بالنص الصريح في قولهِ تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَر) {الأنعام:74}.

وقد حار مفسرو القرآن في «آزَرَ» [1] لمخالفتها الصريحة لما هو معلوم عند أهل الكتاب من التوراة. وطنطن بها المستشرقون الذين وَهِمُوا أن «آزَرَ» من أفدحِ أخطاء القرآن في اقتباسه من التوراة .

ونقولُ: وما كان أغنى القرآن عنها، على علمه المحيط بدقائق المكتوب في التوراة! وهل ينتقصُ شيئاً من جلالِ القرآن أن يسكت عن اسم أبي إبراهيم فلا يُسميَّه؟ قد تناول القرآن جدال إبراهيم لأبيه في أكثر من آيةِ فلم يُسَمِّهِ، فلماذا النصُ على اسم أبي إبراهيم في هذه الآية وحدها من سورة الأنعام؟

هل جَهِلَ القرآن اسم أبي إبراهيم في التوراة؟ ولماذا يَزُجُّ بنفسهِ في المزالق فيخترع من عنده اسماً لأبي إبراهيم، غيرَ عابئ بما يسمعه من أهل الكتاب في مكة ويثرب ونجران؟ (تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا).

وإذا كان مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يفتري القرآن من عنده كما يَدَّعون، فلماذا لم يستوثق من رجال كورقة بن نوفل عم زوجه خديجة وهو من حنفاء إحدى الملتين، كما يقولُ أصحاب السِيَّرِ، ويقرأ من الكتاب العبراني ؟ ولماذا لم يُصَحِحَهُ له أمثالُ الحَبْرِ اليهودي ابن سلام وكيف أسلم بين يدي هذا النبي الذي «يُخْطِئُ» في اسم أبي إبراهيم؟ أفَلم يَرَ ابنُ سلام في هذه وحدها دليلاً كافياً على «كَذِبِ» هذا النبي (لا سمح الله)؟

ولماذا لم «يُسْقِط» المسلمون من بعد النبي صلى الله عليه وسلم «آزَرَ» هذه من القرآن تنقية للقرآن من خطأ لا تجوز المماحكة فيه؟

نستخلِصُ من هذا أن القرآن أعظم وأجَلُّ من أن يُفْتَرَى من دون الله تعالى، ونستخلصُ منه أيضاً أن القرآن عند الذين آمنوا به أعظمُ وأجَلُّ من أن يُكذَّبَ بالتوراة أو يُصَحَّحَ بما في التوراة، ونستخلِصُ منه كذلك أن القرآن في المصحف الذي بين أيدينا قد عصمه الله سبحانه وتعالى من التغيير والتبديل، ولو بقصد «التصويب» و«الاستدراك»، فهو إلى قيام الساعة محفوظ بحفظ الله تعالى على الحَرْفِ الذي به نَزَل. ونستخلِصُ منه أخيراً أن القرآن ـ وكان أيسر عليه استبقاء اسم «تَارَحْ» في القرآن على أصلها في التوراة ـ إنما أراد عامداً متعمداً تَحَدي المتقولين عليه أصحاب دعوى النقل والاقتباس، فجَابَهَهُم بما يَنْقُضُ دعواهم. والقرآنُ ها هنا يريد المخالفة للتوضيح، ولا يريد منها تأصيلُ منهج أو إثبات عقيدة، وإنما يأتي بها للدلالة على إعجازه فحسب .

نعم، «آزَرَ» في القرآن من دلائل إعجازه . كما سنرى بإذن الله على التَّوِ معاً …

من بين ما يستوقفنا في القرآن ـ والذى يستوقف في القرآن كثيرُ ـ أنه لا يذكر قط اسم نبي من الأنبياء على النسب لأبيه، كأن يقول مثلاً: موسى بن عمران، وإنما يقولُ موسى فقط، أو هوداً فحسب، لا ينسب هذا أو ذاك، لأن النبي أشهرُ من أن يُعْرَفَ بأبيهِ، ولأن القرآن لا يهتم أصلاً بالنسب، خِلافاً لما نقرأ في العهد القديم، إلا أن نعلم من القرآن اسم الأب في سياق الحديث عن إبنٍ نبي لأبٍ نبي، كما في داوود وسليمان، وكما في إبراهيم وبنيه، عليهم السلام. إلا إن كان القرآنُ الكريم يريد الإدلال بعلمه وإعجازه، فيسمي لنا «آزَرَ» أبا إبراهيم، ولو أسقطه من سياق الآية لجاز، ولما اختلَّ وزن أو نظم، ولكنه أراد إعلام أهل الكتاب بما لم يعلموه، أو يُفسِّرُ لهم بها «تَارَحْ» اسم أبي إبراهيم في سِفْرِ التكوين. ومن هذا أيضاً قوله: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ) {التحريم:12}، لا يريد إلا الإدلال بعلمه وإعجازه، يُسَمِّي لهم أبا مريم ـ جَدَّ المسيح عليه السلام ـ غير المذكور بالاسم في الأناجيل.

أما المسيح عليه السلام فهو استثناء وحيد من كل هذا الذي قلناه: قَلمَا يجئ به القرآن منسوباً إلى والدتهِ، وما ذاك إلا لتشريف مريم عليها السلام، التي صَدَّقت بكلماتِ ربها، وتذكيراً بإعجاز مولد عيسى: أنه ابن مريم ولا أب له .

وردت «آزَرَ» مرة واحدة في القرآن اسماً لأبي إبراهيم وهو في التوراة «تَارَحْ» وقد تَوَقَّف فيها مفسرو القرآن لما يعلمونه من مخالفتها الصريحة لاسم أبي إبراهيم في التوراة، وعَالَجَ بعضهم التصدي لها محاولين التوفيق بين «آزَرَ» و«تَارَحْ» بإسقاط أحد طرفي التناقض: منهم من قال أن «آزَرَ» في القرآن ليس هو أبا إبراهيم، وإنما هو عَمُّه والعرب تُسمي العمَّ أباً. وليس بشيء، لأن المعنى في القرآن هو أبو إبراهيم، لا عَمُّه. وقال الآخرون إن «تَارَحْ» كان له اسمان، أحدُهُما «آزَرَ» وهو ضعيف، لأنه لا دليل عليه من القرآن أو الحديث، ولا مقنع به لأصحاب التوراة الذين لا يعلمون لأبي إبراهيم اسماً آخر، أو كُنيَّة تَكَنَّى بها. وتَصَدَّى لآزَرَ أيضاً باحثون كبار، كان منهم في هذا العصر الأستاذ عباس العقاد رَحِمهُ الله، في كتابه «إبراهيم أبو الأنبياء» الذي قال ما معناه أن «آزَرَ» ليست تعريباً لـ «تَارَحْ» وإنما هي تصويب قرآني لنطق «تَارَحْ» على أصلها في لغة صاحب هذا الاسم «وكأنه يقصد البابلية أو الآشورية»، وليس هذا بقوي رغم ضخامة الجهد ونُبْلِ القَصد، وأقرب ما يُرَدُّ به على هذا أن العبرانيين لم يقرأوا اسم أبي جَدهم إبراهيم في صحيفة أو نقش، وإنما سَمِعوه من إبراهيم شفاهة، وهم قد سمِعوها «تَارَحْ» ولم يسمعوها «آزَرَ».

أفتكون «آزَرَ» في القرآن ترجمة لـ «تَارَحْ» في التوراة؟ أم العكس؟

يقتضي أولاً تأصيل لفظة «تَارَحْ» في اللسان العبراني، ومعناه واشتقاقه في اللسان الآرامي، لغة إبراهيم «الآرامي» الوافِد على فلسطين من حاران في شمالي سورية كما يقول سِفْر التكوين .

إذا علمت أن تَارَحْ أبا إبراهيم وُلِدَ في أور الكلدانيين ببابلِ حوالي مطلع القرن العشرين قبل الميلاد حسبما تستخلص من حسابات سِفْرِ التكوين ـ بعد انقضاء حوالي ألف سنة على تَوَّطن أسلافه الساميين في بابل ـ فقد عَلِمتَ يقيناً أن لغة تَارَحْ هذا وآبائه كانت هي بالقطع تلك اللغة السامية البابلية التي تأثَرت بمخارج ألفاظ السومريين على مدى ألف سنة سبقت، فهي لا تجد حَرَجاً على سبيل المثال في وضع «التاء» موضِع «الطاء» نطقاً وكتابة.

من هنا نقول إن تَارَحْ ـ اسم أبي إبراهيم في التوراة ـ إما هو على أصلهِ بالتاء وإما يكون أصله بطاءٍ تَحَوَّرت في البابلية إلى تاء، فيكون مشتقاً من الجِذِر السامى «طَرَحْ» الذي يفيد في العربية الهَمَّ والحَزَّن وأيضاً قِلة الخير، إن صَدَّقنا التوراة في «تَارَحْ» تصديقنا القرآن في «آزَرَ» فلا سبيل أمامنا لتفسير معنى «تَارَحْ» إلا بأحد هذين الفرضين لا ثالث لهما.

وقد كان الأضبط ـ والأثبت ـ التماس معنى «تَارَحْ» البابلية هذه في المعجم البابلي نفسه، ولكن المعجم البابلي للأسف معجم أبتر، يقتصر على مفردات قليلة ليس من بينها «تَارَحْ» أو «طَارَحْ» .

«تَارَحْ» إذن ـ أو بالأحرى «طَارَحْ» ـ اسم أبي إبراهيم في التوراة، هو من العَلَم الأعجمى الذي فَسَرَّه القرآن بالترجمة (فرده إلى أصله البابلي)، فجاء به على «آزَرَ». جَهِل أحبارُ العبرية معنى «تَارَحْ» وحَقَّقَهُ القرآن كما سنرى، فأي إعجاز وأي عِلْم!

وَزَرَ، يَزِرُ، وَزْراً فهو وازِر «راجع معجمك العربي مادة وَزَرَ» يعني حَمَلَ ما يُثقِلُ ظهره، ومنه في القرآن: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) {الإسراء:15} أي لا تحمل نفس عن نفس شيئاً، بل كُلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة. ومنه «الوِزْر» أي الحِمْلُ الثقيل كما في قولهِ تعالى: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) {مُحَمَّدٌ:4} أي أثقالها من سلاح وعَتَاد .

أما «الوِزْر» على أصل معناه في العربية، أي الحمل الثقيل فهو في العبرية ـ الآرامية «طورَح» أخذاً من الجِذِر العبري ـ الآرامي «طَرَحْ» أي حَمَلَ ما يُثقِلُ ظهره. ولا تستعمل عبرية التوراة من الجِذِر «طَرَحْ» إلا «طورح» بمعنى الحمل الثقيل، أي الوِزْر «طارح» إذن أي «تَارَحْ»، إن اشتققتها من الجِذِر العبري ـ الآرامي «طَرَحْ» معناها «الوازِر» على التطابق لا على المجاز بمعنى الحَمول المُحَمَّل.

«الأزْرُ» عربياً ليس أصل معناها «القوة» كما وَهِمت بعض المعاجم [2]، وإنما أصل معناها «الظهر» . والظهر يُكَنَّى به عن القوة، لا العكس. والإزارُ منه، لأنه يُشَدَّ به على الظهر، أي على «الأزْر».

أما أن «الأزْر» معناها «الظهر» لا القوة، فهذا يتضح لك من قولهِ تعالى على لسان موسى: (وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) {طه:29 ـ 31} والمعنى «اشدد به ظهري» لا اشدد به قوتي كما وقع في بعض التفاسير، وكما وقع في المعجم الوسيط استشهاداً على معنى «الأزر» بأنه القوة. وليس بشيء .

وقد فَسَّرَ القرطبي رحمه الله «الأزْر» بمعنى «الظهر» في تفسيره للآية 31 من سورة طه، فارجع إليه .

والوزر من «الأزر» قريب، لا في مادته فحسب ولكن لأن «الوِزْر» بمعنى الحمل الثقيل لا يكون إلا على «الظهر» أي على «الأزْر» . تجد هذا فصيحاً بيناً في قولهِ تعالى يُسَلِّي بهِ نبيه : (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) {الشرح:2 ـ 3} .

وقد عَدَلَ القرآن عن «وازِر» إلى «آزَرَ» دفعاً لشبهة فهمها بمعنى الآثم الخاطئ ولا سبيل أمامك إلى تفسير معنى «تَارَحْ» البابلية اسم أبي إبراهيم في التوراة إلا بِرَّدِها إلى «طاَرَحْ» العبرية ـ الآرامية أبدلَ البابليون من طائها تاء.

ولا ترجمة إلى العربية لهذا الاسم البابلى أدَقَّ من «آزَرَ» التى في القرآن بمعنى «الوازِر» على أصلها، لا مجازها.

قد أصاب القرآن إذن في «آزَرَ» وسَفِهَ خصومهُ . فهل رَغِمَتْ أنوف ؟

جَهِلَ خصوم القرآن معنى اسم أبيهم «تَارَحْ»، وما زالوا يجهلونه، وعَلِمَهُ القرآن . فأي إعجاز وأي عِلم !!

كان أولى بالذين طعنوا على القرآن في «آزَرَ» أن يتعلموا منه، ولكنهم لم يفعلوا. وصَدَقَ سبحانه إذ يقول في تقريعهم : (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) {آل عمران:66} .

___________________________

* باحث وكاتب إسلامي. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.quran-m.com

[1] أنظر تفسير القرطبى للآية 74 من سورة الأنعام .

[2] منها ” المعجم الوسيط ” الذي سَكَتَ عن تعريف ” الأَزْر ” بأنه ” الظهر “، وعَرَّف ” الأزر ” بأنه ” القوة” مستدلاً بالقرآن ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) { طه : 31 } وهى على الضد من قولهِ .