أسرار حول الكعبة والحجرة النبوية الشريفة

إعداد فراج إسماعيل*

أسرار حول الكعبة

تختزن الكعبة في داخلها وحولها أسرارًا لا يوجد مثلها في الأرض. لا يزيد حجمها عن حجرة مكعبة، ما أن تبلغها حتى يخر القلب خاشعاً متضرعاً، يلفه السكون، فتكاد لا تسمع خفقاته. تتحول العين إلى نبع للدموع فأنت حينئذ في أحب مكان إلى الله ينزل إليه سبعون ألفًا من الملائكة يطوفون حولها كل يوم وليلة.

كبير سدنة بيت الله الحرام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الشيبي هو الذي يوجد لديه مفتاح الكعبة، يقول ابنه نزار الشيبي يقال عنا أيضًا (الحجبي) أي الذي يحجب البيت، فقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون للكعبة المشرفة سدنة، أي من هم مسؤولون عنها، وأن يكون لها مفتاح وقد تسلمناه نحن آل الشيبي، وتأتي السدانة بعدة معان في معجم اللغة العربية مثل الأمين والخادم والحاجب… الخ.

وسدانة الكعبة ترجع إلى تاريخ بنائها وتعني القيام بجميع أمورها من فتحها وأغلاقها وتنظيفها وغسلها وكسوتها وإصلاح هذه الكسوة إذا تمزقت واستقبال زوارها وكل ما يتعلق بذلك، فقد كان يقوم بأمر السدانة إسماعيل عليه السلام ثم من بعده ذريته، إلى أن كان عهد قصي بن كلاب فأخذ قصي سدانة الكعبة من خزاعة التي كانت قد استولت على السدانة بالقوة مدة ليست بالطويلة وهي قبيلة هاجرت من اليمن بعد انفجار سد مأرب واتجهت إلى مكة وأقامت بها.

وقد ولد لقصي عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي، وبعد وفاة قصي انحصرت السدانة في عبد الدار وأبنائه حتى كان منهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وابن عمه شيبه بن عثمان بن أبي طلحة .

وينتهي نسب سدانة الكعبة المشرفة الحاليين إلى شيبه بن عثمان بن أبي طلحة وقد اسلم عام الفتح على أصح الروايات وله صحبة ورواية عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وجميع آل الشيبي الموجودون في هذا العصر هم من أبناء الشيخ محمد بن زين العابدين رحمه الله تعالى، وينقسمون إلى أبناء الشيخ عبد القادر بن علي وهم عائلة عبد الله، وحسن آل الشيبي، وأبناء عبد الرحمن بن عبد الله الشيبي، وهم محل احترام وإكرام كما دلت على ذلك الأخبار الواردة في حقهم، ولا يزالون في موضع الإكرام والرعاية عند عموم حكام المسلمين وبالأخص عند كل من تولى خدمة الحرمين الشريفين، ولا يزال وجودهم من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اخبر أمته بها بقوله صلى الله عليه وسلم :”خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم” .

قصة انتقال مفتاح الكعبة

يقول نزار الشيبي وهو من سدنة بيت الله الحرام: آلت إلينا السدانة منذ أيام جدنا (قصي) وانتقلت بين أبناء ابنه عبد الدار الذي كان له خمسة أولاد، وكان لا يخرج في رحلة الشتاء والصيف فيعايره إخوانه بسبب ذلك، فسمعهم أبوه قصي فقال: والله لأشرفنك عليهم، فأعطاه سقاية الكعبة والسدانة والرئاسة والندوة والرفادة ولواء الحرب، وعندما جاء إخوانه، قالوا له انك أخذت كل الشرف، وما تركت لنا شيئا، فقال: خذوها كلها إلا السدانة والرئاسة حيث كان هو رئيس قريش.

ويقول إن الكعبة المشرفة تفتح مرتين في السنة لغسلها، ويسمح بدخولها حينئذ لبعض كبار ضيوف الدولة وبعض العلماء والمشايخ، وأيضا القائمون بغسلها.

 

 صورة لمفتاح الكعبة المشرفة

ويضيف: تعلق في داخل الكعبة الهدايا التي قدمت لها، وبعض الموجودات بداخلها ربما تعود إلى ما بعد أن ضربها الحجاج بن يوسف الثقفي بالمنجنيق، يعني تقريبًا تعود إلى 1200 سنة، لكن هناك بلا شك أشياء تعود إلى عصور لاحقة، وأشياء أخرى حديثة.

ثلاثة أسرار حول الكعبة

من أسرار الكعبة – كما يقول الكاتب الصحفي السعودي عمر المضواحي المهتم بالكتابة عن تاريخ الأماكن المقدسة – أنها صرة الأرض وموصولة بالبيت المعمور في السماء السابعة، وأول بيت وضع للناس بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وليس هناك في الكون بقعة أكثر مهابة وقدسية من هذه الحجرة المكعبة. لم تعبد في تاريخها من دون الله قط، فقد كان العرب يعبدون الأصنام والأوثان حولها ولم يخصوها أبدا بالعبادة، حج إليها كل الأنبياء، ومجرد النظر إليها عبادة تعادل أجر عابد في غير مكة.

يضيف المضواحي متحدثا عن ما سجله قلمه عن هذه البقعة التي توصف بأنها قدس الأقداس الإسلامية: حول الكعبة ثلاثة أسرار لا يوجد مثيل لها في الأرض، الحجر الأسود, ومقام إبراهيم, وهما ياقوتاتان من يواقيت الجنة, وبئر زمزم وهو نهر من أنهار الجنة ينبع عينه المتدفق من تحت أعتاب الحجر الأسود.

على يسار باب الكعبة المهيب وبين الملتزم والحجر الأسود إلى الداخل منها يقع مكان (حطيم السيئات) حيث يتم فيه التضرع بالدعوات، والى اليمين من باب الكعبة على بعد أقل من مترين يرتفع صندوق من الرخام النادر تحفظ فيه أدوات خدمة البيت وحوائج غسيل الكعبة من دهون الطيب كالعود والورد والعنبر ولفائف من قماش قطني معد للغسيل.

في منتصف الكعبة ترتفع ثلاثة أعمدة محاطة بأفخر أنواع الخشب المزخرف, وهي المعروفة بأعمدة الصحابي عبد الله ابن الزبير حين رأى في زمن حكمه مكة أن يسند سقف الكعبة بها خشية انهياره عندما قام بترميم بناء الكعبة.

في الجهة الشمالية من الكعبة، على يمين الداخل باب صغير يعرف بباب “التوبة” وهو آية في الصنعة والإتقان، يمتاز بمقاساته العادية وهو بنسبة قياس واحد إلى ثمانية مقارنة بباب الكعبة الخارجي الوافر البهاء والضخامة، ويؤدي باب التوبة المصنوع من أندر قطع الأخشاب المكسوة بصفائح الذهب والفضة المشغولة، إلى درج حلزوني من الزجاج السميك يصل إلى سطح الكعبة.

وفي الجدار الغربي المواجه لباب الكعبة علقت تسعة ألواح أثرية من الرخام منقوش عليها أسماء الولاة والخلفاء تؤرخ لأعمال تجديد وترميم الكعبة, وكلها مكتوبة بعد القرن السادس للهجرة.

وفي الحائط الشرقي وبين باب الكعبة المشرفة وباب التوبة وضعت وثيقة تؤرخ لقيام خادم

الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز بشرف ترميم وتجديد الكعبة المشرفة الذي دشنه خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز في عام 1419هـ وكان حينها وليا للعهد. وكان آخر ترميم شامل للكعبة في زمن السلطان مراد الرابع من سلاطين آل عثمان سنة 1040 من الهجرة النبوية.

جوانب الكعبة الأربعة محاطة بالرخام الأبيض، بارتفاع نحو مترين وبرخام ملون ومزركش بنقوش هندسية إسلامية. وما يعلوها مغطى بستارة خاصة من الحرير الأحمر الوردي مشغولة بالنسيج الأبيض على هيئة الشهادتين وبعض أسماء الله الحسنى على شكل رقمي ثمانية و سبعة متكررة بخط الثلث العربي البديع، وهي إهداء من الملك فهد بن عبد العزيز إلى الكعبة، ويقوم بصناعتها يدويا مصنع كسوة الكعبة المشرفة في مكة المكرمة.

وبين الأعمدة الثلاثة يمتد عمود معدني يكتسي بالفضة الخالصة له خطافات صغيرة معلق فيها هدايا الكعبة من أباريق وشمعدانات وأوان أثرية من الذهب والفضة تعود بتاريخها إلى ماضٍ بعيد أهداها ملوك وخلفاء وسلاطين.

ويسن قبل التشرف بدخول الكعبة الطواف سبعاً حولها, واستلام الحجر الأسود “يمين الله في الأرض” , والركن اليماني إقتداء بالسنة النبوية. كما يسن أيضا الصلاة فوق لوح من الرخام المنقوش بعلامة ظاهرة إشارة إلى المكان الذي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيه، وهو باتجاه الحائط الجنوبي بالقرب من الركن اليماني إلى الداخل من جدار الكعبة. والصلاة في الكعبة ثمان ركعات وهي من سنن الدخول إلى الكعبة، ركعتان في اتجاه كل حائط من جدرانها الأربعة حيث لا قبلة في جوف القبلة.

تغيير كسوة الكعبة

وأثناء فريضة الحج وبعد أن يتوجه الحجاج إلى صعيد عرفة، يتوافد أهل مكة إلى المسجد الحرام للطواف والصلاة ومتابعة تولي سدنة البيت الحرام تغيير كسوة الكعبة المشرفة القديمة واستبدالها بالثوب الجديد استعدادًا لاستقبال الحجاج في صباح اليوم التالي الذي يوافق عيد الأضحى.

وقبل هذا الوقت وفي منتصف شهر ذي القعدة تقريباً يتسلم كبير السدنة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الشيبي في حفل سنوي الثوب الجديد من الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بقاعة المناسبات الرئيسية في مصنع كسوة الكعبة المشرفة بضاحية أم الجود بمكة. وبعد إحضار الثوب الجديد تبدأ عقب صلاة العصر مراسم تغيير الكسوة حيث يقوم المشاركون في عملية استبدال الكسوة عبر سلم كهربائي بتثبيت قطع الثوب الجديد على واجهات الكعبة الأربعة على التوالي فوق الثوب القديم.

وتثبت القطع في عرى معدنية خاصة (47 عروة) مثبتة في سطح الكعبة، ليتم فك حبال الثوب القديم ليقع تحت الثوب الجديد نظرا لكراهية ترك واجهات الكعبة مكشوفة بلا ساتر.

ويتولى الفنيون في مصنع الكسوة عملية تشبيك قطع الثوب جانبًا مع الآخر, إضافة الى تثبيت قطع الحزام فوق الكسوة (16 قطعة جميع أطوالها نحو 27 مترا) و 6 قطع تحت الحزام , وقطعة مكتوب عليها عبارات تؤرخ إهداء خادم الحرمين الشريفين لثوب الكعبة وسنة الصنع، ومن ثم تثبت 4 قطع صمدية (قل هو الله أحد الله الصمد) توضع على الأركان, و11 قطعة على شكل قناديل مكتوب عليها آيات قرآنية توضع بين أضلاع الكعبة الأربعة.

وآخر قطعة يتم تركيبها هي ستارة باب الكعبة المشرفة وهي أصعب مراحل عملية تغير الكسوة، وبعد الانتهاء منها تتم عملية رفع ثوب الكعبة المبطن بقطع متينة من القماش الأبيض، وبارتفاع نحو مترين من شاذروان (القاعدة الرخامية للكعبة) والمعروفة بعملية (إحرام الكعبة).

ويرفع ثوب الكعبة لكي لا يقوم بعض الحجاج والمعتمرين بقطع الثوب بالأمواس والمقصات الحادة للحصول على قطع صغيرة طلبا للبركة والذكرى. ويتم تسليم الثوب القديم بجميع متعلقاته للحكومة السعودية التي تتولى عملية تقسيمه كقطع صغيرة وفق اعتبارات معينة لتقديمه كإهداء لكبار الضيوف والمسؤولين وعدد من المؤسسات الدينية والهيئات العالمية والسفارات السعودية في الخارج.

ويستهلك الثوب الواحد للكعبة نحو 670 كيلو جراما من الحرير الطبيعي و150 كيلو جرامًا من سلك الذهب والفضة، ويبلغ مسطحه الإجمالي 658 مترًا مربعًا ويتكون من 47 لفة، طول الواحدة 14 مترًا وبعرض 95 سنتيمترًا. ويكلف الثوب الواحد نحو 17 مليون ريال سعودي.

ويعود إنشاء المصنع إلى بداية العهد السعودي حين أمر الملك عبد العزيز آل سعود في غرة شهر محرم عام 1357 هـ بإنشاء المصنع بجوار البيت العتيق ليكون أول مصنع بالتاريخ لكسوة الكعبة المشرفة يقام في مكة المكرمة وتديره أيد سعودية مدربة.

 وهذه الصورة النادرة للكعبة من الداخل

 

 وهذه صورة التقطتها الصحافة لحظة خروج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز واخوانه قادة العالم الاسلامي من الكعبة المشرفة ويظهر في الصور جدار الكعبة من الداخل ولونه اخضر وكذلك احد الاعمدة وبعض الفوانيس المعلقة.

أسرار حول الحجرة النبوية الشريفة

رغم الكثير من الوصف الذي ورد عنها في كتب المؤرخين القدماء فقد ظلت في نظر الكثير من الناس سرًا من الأسرار التي يستحيل معرفتها، ما أن تسمع رواية أو وصفًا حتى تكتشف أن هناك المزيد والمزيد وأنك مهما حاولت واجتهدت فلن تنال من المعرفة عنها سوى أقل القليل.

يقول الكاتب الصحفي عمر المضواحي، المهتم بالكتابة عن الحرمين الشريفين والأماكن المغروسة في وجدان المسلمين: شاهدت قناديل معلقة بسقف الحجرة النبوية، رأيت مثلها في جوف الكعبة المشرفة، هدايا قديمة مصاغة من الذهب والفضة، تعكس مراحل ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي، واختلست نظرات لحجرة السيدة فاطمة الزهراء، ومتعت عيني في بقعة ضمت الشطر الأكبر من حياة الرسول الكريم؛ أنوار تتجلى في ذات المكان، وهديل حمائم جاورت، كما جاورت غار ثور يوم هجرة الرسول وصاحبه أبي بكر الصديق.

صناع كسوة الحجرة النبوية

يضيف: كنت أقوم بعمل تحقيق صحفي منذ عدة سنوات عن الكسوة الخضراء وهي كسوة الحجرة النبوية، فأتيح لي أن التقي من نالوا شرف المشاركة في نسج هذه الكسوة التي يعود تاريخها إلى قرون مضت، حيث أورد المؤرخ السعودي حسين سلامة في كتابه (تاريخ الكعبة المعظمة) أنه جاء في كتاب الرحلة الحجازية للبتنوني نقلاً عن كتاب الخطط للمقريزي، أن العباسيين كانوا يعملون كسوة الكعبة المشرفة بمدينة (تنيس) المصرية، وكانت لها شهرة عظيمة في المنسوجات الثمينة. ويذكر البتنوني أنه لما استولت الدولة العلية على مصر اختصت بكسوة الحجرة الشريفة، وكسوة البيت الداخلية، واختصت مصر بكسوة الكعبة الخارجية.

واستمرت الكسوة تصنع في عدد من الدول الإسلامية كمصر وتركيا والهند حتى صدر أمر مؤسس الدولة السعودية الثالثة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بإنشاء مصنع كسوة الكعبة بمكة المكرمة، وبات المصنع يقوم بعمل الكسوتين (واحدة للكعبة وأخرى للحجرة النبوية) لأول مرة في التاريخ في أرض الحرمين الشريفين.

وتوجد الحجرة النبوية في الجزء الجنوبي الشرقي من مسجد الرسول، وهي محاطة بمقصورة، عبارة عن حجرة خاصة مفصولة عن الغرف المجاورة فوق الطبقة الأرضية، من النحاس الأصفر، ويبلغ طول المقصورة 16 مترًا وعرضها 15 مترًا، ويوجد بداخلها بناء ذو خمسة أضلاع يبلغ ارتفاعه نحو 6 أمتار بناه نور الدين زنكي ونزل بأساسه إلى منابع المياه، ثم سكب عليه الرصاص حتى لا يستطيع أحد حفره أو خرقه، وداخل البناء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبرا أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

وفي شمال المقصورة النبوية وجدت مقصورة أخرى نحاسية ويصل بين المقصورتين بابان، ويحيط بالحجرة النبوية أربعة أعمدة أقيمت عليها القبة الخضراء التي تميز المسجد، أما الروضة الشريفة فهي بين المنبر وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ويبلغ طولها 22 مترا، وعرضها 15 مترا. (…)

يقول المضواحي: كنت في مكة، فذهبت صوب مصنع كسوة الكعبة، وهناك عرفت أن للمصنع شرفًا آخر، فهو ينتج أيضا كسوة أخرى للحجرة النبوية. التقيت في ذلك الوقت قبل عدة سنوات برجال شاركوا في الصنع والتركيب، لم أشأ حينها أن أفوت الفرصة حيث إن أصغرهم كان في الستينات من عمره، وخفت أن يودعوا الدنيا دون أن أتمكن من توثيق هذا العمل. سجلت معهم أحاديث اختلطت بالدموع والخشوع، خانهم التعبير مرات وخنقتهم العبرات في أخرى، وهم يتحدثون عن تجربتهم الفريدة، كانت أطرافهم ترتعش من مجرد الذكرى كأنها حدثت بالأمس، وليس قبل ربع قرن من الزمان.

كان الشيخ محمد علي مدني، رئيس قسم النسيج الآلي بالمصنع في ذلك الوقت، كريمًا معي، وعرفت منه أنه كان أحد الذين شاركوا في نسج كسوة الحجرة النبوية وتركيبها. قلت له حدثني عن كسوة الحجرة النبوية، صفها لي: جال ببصره بعيدًا، كأنه يستحضر تلك الذكريات الغالية، ثم أجابني: شعرت يومها بحالة ذهول كامل تملكتني. إنها بقعة عظيمة، غاية في العظمة، لا أعرف محيطها بالتحديد لكن بدا لي أن محيط الحجرة النبوية 48 مترًا. هيبة المكان غلبت على أن ألحظ فيها شيئًا ملفتًا للنظر أو للانتباه، كنت مبهورًا ولم أر سوى قناديل معلقة بسقف الحجرة، وهي هدايا قديمة كانت تهدى للمسجد النبوي من قديم الزمان، وقيل لي إنه كانت هناك آثار نبوية وضعت في مكان آخر لا أعرف أين، وما أعرفه أن هناك بعض الأشياء التاريخية محفوظة في حجرة السيدة فاطمة الزهراء، وهو ذات المكان الذي كانت تسكن فيه.

أضاف: كسوة الحجرة نسيج من حرير خالص، أخضر اللون، مبطن بقماش قطني متين، ومتوجة بحزام مشابه لحزام كسوة الكعبة المشرفة، غير أن لونه أحمر قان، خط عليه بتطريز ظاهر آيات قرآنية كريمة من سورة الفتح تشغل ربع مساحته، بخيوط من القطن وأسلاك من الذهب والفضة وهو بارتفاع 95سم2. وهناك قطع أخرى من ذات اللون الأحمر وبنفس النسج لكنها أصغر قليلاً مكتوب عليها إشارات تدل على مواقع القبور الثلاثة، وهي من ذات العينة والطراز للكسوة الداخلية لجوف الكعبة، وباختلاف بسيط يتمثل في اختلاف الآيات القرآنية المنسوجة يدويًا بطريقة “الجاكار” المعمول مثلها آليًا على ظاهر كسوة الكعبة.

كسوة الحجرة النبوية لا تتبدل كل عام مثل كسوة الكعبة المشرفة، فهي محفوظة في بناء الحجرة وبعيدة عن الأيادي وعوامل المناخ• ويتم تغييرها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

مفاتيح الحجرة عند كبير الأغوات

ترتفع السترة بمقدار ستة أمتار، ويتم تركيبها عادة في السادس من شهر ذي الحجة، كلما صدر الأمر الملكي بذلك، وعند كبير الأغوات مفاتيح الحجرة، وهو من يقوم بخدمتها وتنظيفها والعناية بها كل ليلة اثنين وجمعة حتى الآن.

ويضيف عمر المضواحي متحدثا لـ”العربية.نت”: كنت أرغب في المزيد، ووجدته عند الشيخ محمد جميل خياط مدير الإنتاج بالمصنع، وهو رجل بدا لي حينها في الستينات من عمره. قال له الشيخ جميل: تم الإبقاء على الصنع اليدوي في المصنع لعمل الكسوتين، الداخلية لجوف الكعبة المشرفة، والأخرى للحجرة النبوية، للحفاظ على هذا التراث الفني الراقي.

يستطرد المضواحي: ثم التقيت بالشيخ أحمد ساحرتي رئيس قسم التطريز بالمصنع، بدا لي في ذلك الوقت البعيد أيضًا كبر سنه، وضعف نظره، بادرني: (…) لم أعرف لي هواية غير حب العطور والروائح الجميلة، وصرفت ردحًا من أيامي التي عشتها طولاً وعرضًا لأشبع هذا النهم الذي لايزال يرافقني للآن، سافرت كثيرًا وتعرفت على الكثير لكنني أستطيع أن أقول بثقة أن لي تركيبات عطرية خاصة، لا تكون عند غيري ولا يقدر عليها أحد سواي. (…) عندما فتحت لنا الأبواب، ودخلنا الحجرة النبوية، أستنشقت عطرًا وروائح ما عرفتها من قبل، ولم أعرفها من بعد. لم أعرف سر تركيبتها أبدًا، كان عطرًا فوق العطر، وشذًا فوق الشذا، وشيئًا آخر لا قبل لنا به نحن أهل الصنعة والمعرفة.

يحكي عمر المضواحي قائلاً: عندما سألته أن يصف لي الحجرة النبوية، سرت في جسده رعدة خفيفة أصابته، وقال بصوت خافت: أعتقد أن ارتفاع الحجرة أحد عشر مترًا، وأسفل القبة الخضراء، قبة أخرى مكتوب عليها: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر أبو بكر الصديق وقبر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ورأيت أيضًا أن هناك قبرًا آخر لكنه خاو، وبجانب القبور الأربعة، حجرة السيدة فاطمة الزهراء، وهو البيت الذي كانت تسكنه.

من رهبتنا لم نكن نعرف كيف نرفع المقاسات الخاصة بالقبة، كانت أصابعنا ترتجف، وأنفاسنا تتسارع. وبقينا 14 ليلة كاملة نعمل فيها من بعد صلاة العشاء إلى وقت أذان الفجر الأول، لننجز مهمتنا. ظللنا نرفع المقاسات، ونحل أربطة السترة القديمة، نكنس وننظف ما علق بالمكان الطاهر من غبار وريش حمام، هذا الموقف يعود إلى عام 1971 ميلادية، وكانت الكسوة التي قمنا بتغييرها قديمة، كان عمرها 75عاما حسب التاريخ المنسوج عليها، ولم تستبدل طوال هذا الوقت.

ويمضي الشيخ الساحرتي (…) كنا 13رجلاً، لا أذكر معظمهم، فقد ذهبوا إلى رحمة الله. كان يرافقنا كبير الأغوات وعدد من خدام الحجرة النبوية… الهمس حديثنا، هذا إذا لم تكن الإشارة تغني عن الكلام. كنت ومازلت أعاني من ضعف شديد في الإبصار، وهذه النظارة لم تفارق عيني منذ تلك الأيام، لكنني كنت في الحجرة شخصًا آخر… كنت أشعر بذلك، وألمس الفرق.

أشياء غريبة حدثت لي ويقسم الشيخ الساحرتي قائلاً: “كنت أدخل الخيط في ثقب الإبرة من غير نظارة، رغم الضوء الخافت الذي كنا نعمل فيه. كيف تفسر ذلك، وكيف تفسر أنني لم أشعر بحساسية في صدري كنت أعاني منها ومازلت، فأنا أسعل بشدة مع أدنى غبار، لكنني يومها لم أتأثر بغبار الحجرة، ولا بالأتربة المتطايرة، كأن التراب لم يعد ترابا، وكأن الغبار أصبح دواءً لعلتي، كنت أشعر طوال تلك الليالي أنني شاب، وأن فتوة الصبا قد ردت اليّ .

لقد حدث معي شيء غريب آخر لم أفهم سره حتى اليوم، فبعد تجديد كسوة الحجرة يومها، كان علينا أن نخرج الستارة القديمة، حمل من حمل الستارة، وبقي حزامها المطرز بطول 36مترا، قلت لهم لفوه ثم أتركوه، تقدمت إليه، وحملته على ضعفي فوق كتفي هذا، خرجت به من الحجرة النبوية، لم أشعر بثقله أبدا، لكنهم بعد ذلك جاءوا برجال خمسة ليحملوه فلم يستطيعوا، وانخرط الشيخ في بكاء صامت، وأكمل بتأوه: سأل بعضهم عن الذي حمله وجاء به إلى هنا، قلت مجيبًا: أنا، لم يصدقوا… قلت لهم اسألوا عبد الرحيم بخاري خطاط الكسوة الشهير.

أجمل وصف للحجرة النبوية

يقول الناقد والباحث في تاريخ المدينة المنورة محمد الدبيسي: كثير من المؤرخين شغفوا بتاريخ المدينة المنورة والكتابة عنه، لقد أحصيت أكثر من 500 كتاب إضافة إلى الأبحاث العلمية التي نشرت في دوريات، فمثلاً أول كتاب عن تاريخ المدينة كان لابن زبالة في القرن الثاني الهجري، بعد ذلك كتب مؤرخون آخرون مثل المراغي والسخاوي والسمهودي، الأخير له كتاب باسم (وفاء الوفاء في إخبار دار المصطفى) في القرن العاشر الهجري “عام 1325هـ” والذي يحتوي على مجلدين، ويعتبر مرجعًا في هذا الباب، لكن أجمل وصف وقفت عليه بخصوص الحجرة النبوية وجدته في كتاب (مرآة الحرمين) للدكتور إبراهيم رفعت باشا الذي جاء من مصر وزار الحرمين ووصف الحجرة بأروع ما يمكن.

ويقول الدبيسي إن الحجرة تقع شرق المسجد النبوي الشريف، وكان بابها يفتح على الروضة الشريفة التي وصفها الرسول عليه السلام بأنها روضة من رياض الجنة، وهي حجرة السيدة عائشة بنت الصديق التي قبضت فيها روحه فدفن بها، وكان قبره جنوب الحجرة، وكانت عائشة بعد وفاته تقيم في الجزء الشمالي منها، وكما يُذكر تاريخيًا بأنه عليه السلام قد دفن ورأسه الشريف إلى الغرب ورجلاه إلى الشرق ووجهه الكريم إلى القبلة.

وعندما توفى الصديق دفن خلف النبي صلى الله عليه وسلم بذراع، ورأسه مقابل كتفيه الشريفين، ولما توفي عمر بن الخطاب أذنت له عائشة بعد أن استأذنها قبل وفاته بأن يدفن إلى جوار صاحبيه داخل هذه الحجرة. وعن القبر الخالي في الحجرة النبوية يشير محمد الدبيسي إلى إن بعض العلماء يذكرون أن هذا القبر سيدفن فيه النبي عيسى عليه السلام.

أما قصة تسمية الكوكب الدري الموجود في الحجر النبوية، فقد كان يوجد في الجدار القبلي من الحجرة تجاه الرأس الشريفة مسمار فضة، ويذكر رفعت إبراهيم باشا أنه ابدل بقطعة من

الألماس كانت بحجم بيضة الحمام، وتحته قطعة أخرى أكبر منها، والقطعتان مشدودتان بالذهب والفضة، ومن ثم أطلق عليهما اسم “الكوكب الدري”.

ويطلق على الحجرة في بعض الكتب – والكلام للدبيسي – المقصورة الشريفة، ولها ستة أبواب، الباب الجنوبي ويسمى باب التوبة، وعليه صفيحة مكتوب عليها تاريخ صنعه 1026 هـ، والباب الشمالي ويسمى باب التهجد، والباب الشرقي ويسمى باب فاطمة، والباب الغربي ويسمى باب النبي وبعض الناس يسمونه باب الوفود، وعلى يمين المثلث داخل المقصورة باب آخر، ثم باب سادس على يسار المثلث في داخل المقصورة أيضًا. ويضيف أن الملك عبد العزيز آل سعود أعطى عناية كبيرة بالحجرة البنوية والقبة الخضراء، ووجه بالمحافظة على البناء العثماني لها، مع الترميم إذا احتاج الأمر لذلك، وكذلك بطلاء القبة كلما بهت لونها. ويقول إن عمر بن عبد العزيز بنى حول الحجرة سور من خمسة أضلاع خوفا من أن تشبه الكعبة فيصلى عليها. ويوضح أن كتاب مرآة الحرمين ذكر أن الخيزران أم هارون الرشيد هي أول من كسا الحجرة الشريفة بالدائر المخمس، ثم كساها ابن أبي الهجاء بالديباج الأبيض والحرير الأحمر وكتب عليه سورة يس، ثم كساها الخليفة الناصر بالديباج الأسود ثم صارت الكسوة ترسل من مصر كل ست سنوات من الديباج الأسود المرقوع بالحرير الأبيض وعليها طراز منسوج بالذهب والفضة. ويشير إلى أن تكاليف كسوة الحجرة النبوية عندما أصبحت تأتي من مصر، أوقفت على بيت مال المسلمين في مصر في عهد السلطان الصالح اسماعيل الناصر، وكانت تجدد كل خمس سنوات.(…)

وحول الحجرة الشريفة 106 من القناديل كلها بالذهب المرصع بالألماس والياقوت وحول الحجرة كذلك معاليق من الجواهر الثمينة ومن اللؤلؤ الفاخر.

وأهدى السلطان عبد المجيد الحجرة النبوية سنة 1274 هـ شمعدانين مصنوعين من الذهب الخالص المرصع بالألماس الفاخر، وتم وضعهما بمقصورة الحجرة الشريفة أحدهما باتجاه الرأس الشريف والآخر بمحاذاة رجليه الكريمتين، كما جاء في كتاب مرآة الحرمين.

ويؤكد الدبيسي أن الكتب التاريخية تشير إلى تعرض الحجرة النبوية للسلب والنهب عبر العصور المختلفة قبل الدولة السعودية، وأن بعض الأشياء التي تعرض في بعض المتاحف التركية، أخذت في عهد الدولة العثمانية من مقتنيات الحجرة، التي يقال إنها كانت تضم الذهب والفضة.

ويشير إلى أن ابراهيم رفعت باشا ذكر في كتابه أن الملك العادل نور الدين الشهيد أمر عام 557 هـ ببناء خندق صب فيه الرصاص حول الحجرة النبوية، عندما علم أن هناك من يحاول الوصول إلى جسد الرسول.

ويقول إن الحجرة مرت بمراحل في بنائها، فقد كانت إبان العهد الأول مبنية باللبن وجريد النخل على مساحة صغيرة ثم أبدل الجريد بالجدار في عهد عمر بن الخطاب ثم أعاد عمر بن عبد العزيز بناءها بأحجار سوداء.

الحجرة تجدد بناؤها أكثر من مرة

وقد ذكر الأديب المصري الراحل محمد حسين هيكل في كتابه ( في منزل الوحي) عام 1947م عن رحلة الحج التي قصد بها الأراضي المقدسة، إن الحجرة النبوية ظلت كما هي حتى زمن بني أمية، حين أمر الوليد بن عبد الملك واليه على المدينة المنورة عمر بن عبد العزيز أن يضم حجرات أزواج النبي رضي الله عنهن.

وبنى عمر بن عبد العزيز الحجرة سنة ثمان وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين للهجرة، وبالتالي فقد ظلت ثمانية وسبعين أو ثمانين سنة بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم في مثل بساطتها حين وفاته.

ويقول محمد حسين هيكل إن الحجرة قد تجدد بناؤها بعد ذلك أكثر من مرة، فقد شب حريق في القرن السابع الهجري وامتد إلى الحجرة ولكنها لم تحرق، كما امتد إلى المسجد كله، وتعرضت لحريق آخر على اثر الصاعقة التي نزلت في أواخر القرن التاسع الهجري.

وقد بنيت أول قبة في المسجد النبوي فوق الحجرة النبوية في القرن السابع الهجري، بأمر السلطان المملوكي المنصور قلاوون الصالحي سنة 678 هـ وهي التي عرفت مؤخراً بالقبة الخضراء، وكانت مربعة من أسفلها مثمنة من أعلاها، مصنوعة من أخشاب أقيمت على رؤوس السواري المحيطة بالحجرة الشريفة، مكسوة بألواح الرصاص، منعاً لتسرب مياه الأمطار.

وفي عام 881 هـ وبعد الانتهاء من بعض الترميمات في المسجد قرر السلطان قايتباي إبدال السقف الخشبي للحجرة بقبة لطيفة، فرفعوا السقف الخشبي، ثم عقدوا قبواً على نحو ثلث الحجرة مما يلي المشرق والأرجل الشريفة، ليتأتى لهم تربيع محل القبة المتخذة على بقية الحجرة من الغرب، ثم عقدوا القبة على جهة الرؤوس الشريفة بأحجار منحوتة من الحجر الأسود والأبيض، ونصبوا بأعلاها هلالاً من نحاس، وبيضوها من الخارج بالجص، فجاءت جميلة بديعة. وقد سلمت هذه القبة من الحريق الذي شب بالمسجد سنة 886 هـ، بينما احترقت القبة التي فوقها، فأعاد السلطان قايتباي عام 892 هـ بناءها بالآجر، وأسس لها دعائم عظيمة بأرض المسجد، ثم ظهرت بعض الشقوق في أعاليها، فرممت وأصبحت في غاية الإحكام.

ثم عمل قبة على المحراب العثماني، وغطى السقف بين القبة الخضراء والحائط الجنوبي بقبة كبيرة حولها ثلاث قباب، كما أقام قبتين أمام باب السلام من الداخل، وقد كسيت هذه القباب بالرخام الأبيض والأسود، وزخرفت بزخارف بديعة.

وفي سنة 1119 هـ أضاف السلطان محمود الأول رواقاً في جهة القبلة، وسقّف ما يليه بعدد من القباب. وفي عام 1228هـ جدد السلطان محمود الثاني العثماني قبة الحجرة النبوية ، ثم دهنها باللون الأخضر، فاشتهرت بالقبة الخضراء، وكانت قبل ذلك تعرف بالبيضاء والزرقاء، وكان بعضهم يطلق عليها: الفيحاء.

__________________________________

*   تقرير منقول بتصرف عن موقع قناة العربية www.alarabiya.net وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.55a.net

[1]  زيادة الجامع الصغير، الإمام جلال الدين السيوطي: رواه الطبراني من حديث لابن عباس.

[1]   أخرجه الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمر.‏ قال ابن الجوزي: حديث لا يصح، فيه إسحاق بن بشير: كذبه ابن أبي شيبة وغيره. وقال الدارقطني: هو في عداد من يضع. وقال ابن العربي: هذا حديث باطل فلا يلتفت إليه.‏