الإعجاز البياني في القرآن الكريم

محمد فرشوخ

مقدمة: الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى خاتمهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، سيد أهل الصفا والحب والوفا، وبعد:

 لا بد لمن أراد أن يبحث في الإعجاز البياني في القرآن أن يكون له بالبيان باع، وباللغة علم واطلاع، ولا سبيل لتقدير أثمان الجواهر، إلا من كان له بها خبرا، وصرف في تقليبها عمراً ودرسها وتفحصها دهرا. يقول الله تعالى في سورة الشعراء:

وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195} وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ {196} أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ {197} وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ {198} فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ {199} كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ {200} لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ {201} فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ {202}.      صدق الله العظيم

واللسان العربي المبين يعني فيما يعنيه، إحاطة باللغة وبمعاني الألفاظ، ولا يقدر على ذلك إلا معجم ضخم يضم أربعة ملايين كلمة ونيّف، وعليه أن يتصف بالفكر والنطق، ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى، وعلى من يريد أن ينتقد كلاماً بهذ الصفة أن يلم بالصرف والنحو والبلاغة والفصاحة والأدب وسنحاول أن نبين في هذا العرض أن الذين يتمتعون بالقدر الكافي من العلم هم الذين أعجزهم القرآن عن نقده أو عن الإتيان بما يشبهه دون أن يتعرضوا للهزء والسخرية.

 وسنحاول في بضعة أوراق، أن ندخل عالم الإعجاز البياني للقرآن الكريم باستعراض وقعه على المشركين ثم على أهل العلم، ثم نترك للقاريء الكريم فسحةً للتأمل والاستنتاج.

أولاً-إذعان أهل الجاهلية لكلام القرآن الكريم:

مما يؤسف له أن بعض المدعين بمعرفة اللغة العربية، يرون في آي القرآن كلاماً كسائر الكلام وصياغة كسائر الصيغ، مما يدل على قصر نظر وإدعاء كبر، ولو أنهم درسوا الأدب الجاهلي فحسب لوجدوا أن أهله وصنّاعه، قد وقفوا لدى سماع القرآن حائرين، ومن وقعه مرتعشين، أصابهم الذهول، وسلب منهم العقول، فسجدوا مع الساجدين، وانسلوا من بين المشركين ليسترقوا السمع لكلام رب العالمين.

نورد في هذا السياق روايات ثلاث لإعجاب المشركين بكلام القرآن:

الأولى: حين كان ثلاثة من وجهاء قريش: أبو جهل وأبو سفيان والأخنس بن شريق يتسللون ليلاً ليسترقوا السمع في جوار بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويتلو القرآن الكريم:

( فلما أصبح الأخنس أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال: والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان. قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه فقام عنه الأخنس وتركه).[1]

والرواية الثانية: لما أرسلت قريش عتبة بن ربيعة ( كان في الثمانين من عمره وكان يدعى حكيم قريش ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من السعة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قل يا أبا الوليد أسمع “، فقال: يا ابن أخي! إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد شرفا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئي ( يقال رئي للتابع من الجن) تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه، أو لعل هذا الذي يأتي به شِعرٌ جاش به صدرك، وإنكم لعمري يا بني عبد المطلب تقدرون منه على ما يقدر عليه أحد! حتى إذا سكت عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” أفرغت يا أبا الوليد؟ فاسمع مني”، قال: أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:        بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:   حم {1} تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {3} بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ {4} وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ {5} قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ {6} … فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ {13}.(سورة فصلت).

… فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: والله لقد تعلمون أني من أكثر قريش مالا، ولكني لما قصصت عليه القصة أجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر؛ ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله: “مثل صاعقة عاد وثمود” وأمسكت بفيه(بفمه)، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فوالله لقد خفت أن ينزل بكم العذاب؛ يعني الصاعقة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها في، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ! فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سَحَرَكَ والله يا أبا الوليد بلسانه! فقال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.

والرواية الثالثة: حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: { حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم” بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم {1} تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {2} غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {3} [سورة غافر ]  فسمعه الوليد بن المغيرة يقرؤها (قال في رواية:أعد يا ابن أخي ) ثم قال : (والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بَشَر…).

ولا يدعين أحدٌ أن أهل الجاهلية لم يكونوا ملمين بألوان البيان من فصاحة وبلاغة ومن الأدلة على ذلك ما ذكره الرافعي من استدراك الخنساء على حسان بن ثابت في شعر أنشده بعكاظ، قال فيه:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى?? … وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بنى العنقاء وابن محرق? … فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما

فقالت الخنساء : ضعف افتخارك، وأبرزته في ثمانية مواضع ، قال: وكيف؟ قالت:قلت (لنا الجفنات) والجفنات مادون العشر، فقللت العدد، ولو قلت ( الجفان) لكان أكثر، وقلت: (الغر) والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت (البيض) لكان أكثر اتساعا، وقلت :(يلمعن) واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت (يشرقن) لكان أكثر، لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: (بالضحى) ولو قلت: (بالعشية) لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقا ، وقلت: (أسيافنا)، والأسياف دون العشر، ولو قلت: (سيوفنا) كان أكثر، وقلت :(يقطرن) فدللت على قلة القتل، ولو قلت:(يجرين) لكان أكثر، لانصباب الدم، وقلت (دما) والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفتخر بمن ولدوك)[2].

والخلاصة أن شعراء الجاهلية ونقادها، على بلاغتهم وإتقانهم للشعر وفنونه، لو وجدوا ثغرة ينفذون منها للطعن في القرآن لما ترددوا، لكنه أعجزهم فأقعدهم عن نقده ورده، ومن ذلك ما سمعوه من وصف الله تعالى لذاته بأوصاف ما سمعوا بها من قبل فأعجبتهم وأرهبتهم.

ثانياً-إعتراف أهل العلم بتفوق القرآن الكريم وفضله:

وقد عرف أهل الأدب العربي مسلمين وغير مسلمين، فضل القرآن على تحصيلهم وتثقفهم، يقول الثعالبي في “الإعجاز والإيجاز”:

( من أراد أن يعرف جوامع الكلم ويتنبه على فضل الإعجاز والاختصار ويحيط ببلاغة الإيماء ويفطن لكفاية الإيجاز فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام فمن ذلك قوله عزّ ذكره: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } استقاموا كلمة واحدة تفصح عن الطاعات كلها في الائتمار والانزجار. وذلك لو أن إنساناً أطاع الله سبحانه مائة سنة ثم سرق حبة واحدة لخرج بسرقتها عن حد الاستقامة، ومن ذلك قوله عز وجل: { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}  فقد أدرج فيه ذكر إقبال كل محبوب عليهم وزوال كل مكروه عنهم ولا شيء أضر بالإنسان من الحزن والخوف لأن الحزن يتولد من مكروه ماض أو حاضر والخوف يتولد من مكروه مستقبل فإذا اجتمعا على امرئ لم ينتفع بعيشه بل يتبرم بحياته والحزن والخوف أقوى أسباب مرض النفس كما أن السرور والأمن أقوى أسباب صحتها فالحزن والخوف موضوعان بإزاء كل محنة وبلية. والسرور والأمن موضوعان بإزاء كل صحة ونعمة هنية….). [3]

ومن إيجاز القرآن ما يُعجِز إذ صار معظمه مضرب الأمثال، ولربما أصاب أحدهم مثلاً جيداً لكن أحداً ممن يتكلمون بلغة الضاد، لم يتمكن قطعاً من الإتيان بمثل هذا السيل من الحكم والأمثال، يقول الثعالبي:

(فيما يجري مجرى المثل من ألفاظ القرآن ويجمع الإعجاب والإعجاز والإيجاز:

{ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله }،{إنما بغيكم على أنفسكم }،{ كل نفس بما كسبت رهينة }،{كل من عليها فان }،{ كل نفس ذائقة الموت }،{لكل نبأ مستقر }،{ قل كل يعمل على شاكلته }،{ يا أسفي على يوسف }،{ ولا تنس نصيبك من الدنيا }،{وتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى }،{فضربنا على آذانهم في الكهف }،{ أغرقوا فأدخلوا نارا }،{ولا تزر وازرة وزر أخرى }،{وكل حزب بما لديهم فرحون }،{ويحسبون كل صيحة عليهم }،{ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ” …}. [4]

ويتساءل أعلام اللغة العربية دوماً ، عن هذا السر المتجدد في القرآن، أين يكمن الإعجاز واللغة لغة، وهي في متناول الجميع؟ ولماذا صمت أدباء العصر الجاهلي إزاء هذا الكلام الغض، وقد فسحت لهم الساحات والمنابر ودفعت لهم الأموال وخصصت لهم الأعطيات؟

لذلك ما انتقد كلام القرآن إلا جاهل بالبيان أو متجاهل لأصوله ، وليس المهم أن يلم امرؤ بأبواب البيان والفصاحة والبلاغة والبراعة فقط، فالتعبير البليغ لا يكفي إذا لم يكن له معنى يسبر الغور ويخترق حجب النفس ويهز الإحساس، ويحرك الفؤاد، ومن أعلم بشجون العبد ممن خلقه،{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}، يقول الجرجاني:

( ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة، وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى، غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين، وآنق وأعجب، وأحق بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب،…).[5]

ومن الأقدر على اختيار التعبير الأوفق بين كلمتين تؤديان المعنى ذاته؟ أيهما أشد تأثيرا وأنسب للظرف الذي تتحدث عنه ثم كيف تسبك الجمل سبكاً متتالياً بترتيب الزمن وترتيب العمل وتتابع الأحداث، فمن القادر غير الله تعالى على أن ينظم ويجمع ويوجز ويؤثر في نفوس سامعيه، فشتان بين من خلق الأحرف واللغة يتصرف بها على أحسن صورة، وبين من يؤلف بين الحروف والكلمات، فإذا به كلما نمّقها عطّلها. يقول الجرجاني في المقارنة بين لفظة فصيحة ومتمكنة ومقبولة وقبيحة وقلقة ونابية ومستكرهة :

(وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى: ” وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ” . فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع! أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة؟ وهكذا، إلى أن تستقريها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها، وحصل من مجموعها). [6]

فالكل مشترك في الحروف المفهومة لكن التفرد هو في الكلمة المنظومة، حيث يجتمع المبنى والمعنى والفعل والفاعل والأثر والمتأثر فتعالى الله عما يصفون.

يقول الجرجاني:

(البلاغة ليس مرجعها إلى العلم باللغة، بل العلم بمواضع المزايا والخصائص). [7] ولهذا تحدى المولى تعالى أن يأتي أحدهم بسورة ولم يقل بآية، فالثانية ممكنة والأولى مستحيلة.

ويستشهد بقول الجاحظ  في ذكره لإعجاز القرآن: (ولو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة. لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها). [8]

ولهذا ظهرت حماقة مسيلمة الكذاب حين أراد أن يحاكي القرآن باللفظ وعجز عن المعنى الذي لم يستقم له فقال: (إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر،… والطاحنات طحناً..).

وأخطر الإعجاز وأظهره هو في قدرة المولى وتفرده على مخاطبة جمع من الناس بكلام واحد وغاية واحدة فيفهم كل سامع أو قاريء بالطريقة التي يستسيغها أو التي تهزه، ليشعر كل منهم أنه هو المقصود، وأن الذي يخاطبه علم ما في نفسه فكلمه على قدر فهمه وعلمه وعمله إحساناً أو إساءة. فهل لهذا التخاطب قائل غير الله؟

يقول الله تعالى في سورة يونس: وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ {37} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {38}.

ثالثاً-وجوه البيان في سبك القرآن:

1- إعجازه في بلاغته وفصاحته:

أنظر رحمك الله إلى، العبارات التي تنبه القاريء والمستمع على السواء كالحروف المقطعة في فواتح بعض السور{حم}،{طه}،{ ن} ، أو{ويكأن} والتي فيما تعنيه (وي) للتندم و(كأن) للتقرير أو ويح للكافرين إذ لم يفلحوا…، وإلى عبارة{ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} وهل كانوا من قبل فيه حتى يردوا إليه؟ ولكن الغاية هي إعجاز العبد عن التصرف بمصيره، وإلى التفريق بين حديث النفس وحديث اللسان {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم}، وبين ما تحدق به العين وبين ما يضمره القلب{ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.

 وانظر إلى الكناية، حيث يختار المولى تعالى ألفاظاً لائقة لوصف أشياء يستقبح ذكرها: {أو جاء أحد منكم الغائط} والقصد قضاء الحاجة، ومن مثل:{فأتوا حرثكم أنّى شئتم}،{فلما تغشاها}. فأعطى المعنى المطلوب على خير وجه دون أن يمس الحياء أو يؤذي المشاعر.

 وتمعّن في التمثيل والاستعارة من مثل: {واشتعل الرأس شيبا} في كلامه تعالى ليدلك على المطلوب في أوجز تعبير وأسرع تأثير …وانظر إلى الشبهة في قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون}، لوصف ترددهم وجهدهم حتى فعلوا…وفي التشبيه تخيل هذا المشهد الصحراوي بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (النور :39).

وتمعن نوّرك الله في الاستعارات التالية: {وإنه في أم الكتاب}،{لتنذر به أم القرى}، {والصبح إذا تنفّس}،{فأذاقها الله لباس الجوع والخوف}،{فما بكت عليهم السماء والأرض}،{وآية لهم الليل نسلخ منه النهار}…وما ذلك إلا لجعل وقع الكلام على القلب والنفس والعقل وحتى على الجوارح عميقاً بليغا.

وإلى المجاز في قوله: {فما ربحت تجارتهم}. وانظر إلى قوله تعالى {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب}، فيدلك على دور القلب الذي خلق لأجله، وليس على وجود القلب في صدر الناس.

وتمعّن في قوله:{ ولكم في القصاص حياة }، وقول الناس: قتل البعض إحياء للمجتمع، وقول أهل الجاهلية (القتل ينفي القتل)، بينما يبين كلام الله تعالى الحكمة من العقوبة في أنها تضمن الحياة والأمن والأمل للمجتمع بأكمله.

واعتبر من قوله:{ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}، أي على المزيد وليس على الحياة نفسها.‏ وهل هناك أوجز من: {فانبذ إليهم على سواء}. أي قاتلهم ولكن لا تغدر بهم، بل أخبرهم قبل ذلك بأن عهدهم قد بطل مفعوله.

ثم تخيّل مشهد:{خلصوا نجيا}، عندما تنحى إخوة يوسف جانباً وتحادثوا على غير مسمع من الناس.

وفي الجناس حيث تتجانس الأحرف والألفاظ وتختلف المعاني، من مثل قوله تعالى: {يا أسفي على يوسف}،{فأدلى دلوه}،{وجنى الجنتين دان}،{فروح وريحان وجنة نعيم}.

وفي الطباق حيث يجمع بين كلمتين متضادتين: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا}،{تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى}،{وتحسبهم أيقاظاً وهو رقود}…

وقد حسم الله تعالى الأمر في هذه الآيات: – فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ {38} وَمَا لَا تُبْصِرُونَ {39} إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {40} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ {41} وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ {42} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ {43} وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ {44} لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ {45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ {46} فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ {47} وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {48} وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ {49} وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ {50} وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ {51} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {52} (سورة الحاقة).

2-إعجازه في نظمه وأسلوبه: يستخلص محمد السيد الراضي جبريل في هذا المجال ما يلي:

لقد تفرد أسلوب القرآن ونظمه، وتفوق على أساليب العرب ونظمهم رغم بلاغتهم، وبلوغهم الغاية في هذا المضمار، ومن أبرز شواهد هذا التميز ما يلي :

أ- جمع القرآن في أسلوبه ونظمه بين مقصدين : مقصد الموعظة، ومقصد التشريع، فنظمه يفيد بظاهره السامع ما يحتاج إلى علمه، وهو في ذلك يشبه خطب العرب، ومع ذلك فقد ضم معناه ما يستخرج منه العلماء الأحكام الكثيرة في التشريع، وفي الآداب وغيرها.

ب- تفننه، وإبداع تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتذييل والتنظير، والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبا لثقل تكرار الكلمة، وإكثاره من أسلوب الالتفات، وهو من أعظم أساليب التفنن عند العرب.

ج- عدوله عن تكرار اللفظ والصيغة فيما لا يقتضي التكرار بقصد التهويل ونحوه، ومما عدل فيه عن التكرار قوله تعالى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (التحريم:4). فجاء في الآية لفظ قلوب جمعا مع أن المخاطب امرأتان ولم يكرر الصيغة ويقل “قلبا كما” تجنبا لتعدد صيغة المثنى [9] .

د- براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام، إذ يبرز المعنى الواحد بألفاظ وطرق مختلفة بمقدرة عظيمة لا تباريها أو تقاربها مقدرة أقوى فصحاء العرب.

 ( ج )- وفي مجال تعبيره عن إباحة الفعل استخدم طرقا كثيرة منها:

التصريح في جانبه بمادة الحل: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ } (المائدة: 1).

نفي الإثم عنه: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } (البقرة:173).

الأمر به مع قرينة صارفة عن الطلب: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } (البقرة: 187).وغير ذلك كثير في هذا المجال [10] .

هـ- ومما تميز به أسلوب القرآن الكريم تصرفه في حكاية أقوال المحكي عنهم:

ففي القصة المكررةيجد المتمعّن فيها وحدة المعنى واختلاف العبارة، والعجيب هذه التعابير المختلفة انها غير متناقضة بل تدقق في الوصف  وتزيد الموقف وضوحا.

وهكذا فإن الإعجاز اللغوي وجه لا يتسرب إليه الطعن بأي حالة، فبلاغة القرآن وفصاحته لا تخلو منها سورة من سور القرآن الكريم، ولا آية من آياته، وهذا قد يخالف وجوه الإعجاز الأخرى التي ساقها العلماء مثل الحديث عن الأخبار الماضية وسير الأولين، أو الآيات التي تشير إلى حقائق علمية، أو نحو ذلك[11].

3-الإعجاز القصصي:

يعرف الخالق اللطيف الخبير كيف يؤثر في نفوس خلقه؟ وللقصة في نفس ابن آدم أبلغ الأثر، ولا يظن أنها للأطفال فقط، فالإنسان يميل إلى تقصي الأخبار ويدعوه فضوله إلى الإنصات والتتبع، فتدخل العبرة في خبايا نفسه من غير قصد منه. وفي كل قصة وموعظة في القرآن خصوصية وتميز لا تشبه سواها، والقصة ليست الغاية بل الموضوع هو الأهم ليكشف ميول النفوس، وأمراض المجتمعات، وأنواع المعاصي، وسمات أصحاب الإرادات العظيمة والنفوس الكبيرة، فيكون بعضهم عبرة لمن يعتبر العبرة ويكون البعض الآخر القدوة والأسوة.

ولا يظنن أحد أن في ترداد قصة من القصص تكرار يدعو إلى الملل، وخاصة في أخبار سيدنا موسى عليه السلام وفي أخبار بني إسرائيل، لأن إعادة رواية حادثة ما تركيز على جانب آخر وشاهد على الموضوع الذي تعالجه السورة. ويقول الشيخ أحمد كفتارو رحمه الله، إن في تجزئة قصة ما في عدة سور، تجنب للتطويل، ومعالجة لموضوع ما من زاوية مختلفة، وتذكير للقاريء بالقصة كلها من خلال تذكيره بجزء منها فتستعيد ذاكرته كامل القصة عن غير قصد منه. ناهيك عن الحوار الذي يدور في كل قصة بأسلوب ومعانٍ تسبر أعماق النفوس وتهز المشاعر، وتترسخ في الأذهان .

وقد سبق أن أوردنا في العدد السابق من مجلة الإعجاز مزيداً من التفصيل في الإعجاز القصصي والإعجاز الموسيقي، وغير ذلك ونكتفي هنا بذكر تلاؤم الحروف وأصواتها في القرآن واختيار الكلمات ذات الوقع والأثر في النفس، بما يجعل المعنى العام يصل إلى قلب القاريء وعقله قبل أن يدركه بالفهم والدرس.

استنتاج أخير: للقاضي عياض في ذلك عبارات جامعة تذكر جانبا من هذا الموقف في العجز، والاعتراف بإلهية المصدر القرآني: قال رحمه الله تعالى: (فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقرعهم أشد التقريع، ويوبخهم غاية التوبيخ، ويسفه أحلامهم، ويحط أعلامهم، ويشتت نظامهم، ويذم آلهتهم وإياهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء، وقولهم: إن هذا إلا سحر يؤثر، وسحر مستمر، وإفك افتراه، وأساطير الأولين، والمباهتة والرضى بالدنيئة كقولهم : قلوبنا غلف ، وفي أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب، ولا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون، والادعاء مع العجز بقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، وقد قال لهم الله { وَلَنْ تَفْعَلُوا } فما فعلوا ولا قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم، بل ولّوا عنه مدبرين، وأتوا مذعنين من بين مهتد وبين مفتون، ولهذا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } (النحل: 90). الآية قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر، وذكر أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } (الحجر: 94). فسجد وقال: سجدت لفصاحته، وسمع رجلا آخر يقرأ { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا } (يوسف:80). فقال :أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام)[12] .

خاتمة: هذا طرف من بيان إعجاز القرآن في نظمه وأسلوبه، ولو أن الإعجاز لا يتوقف عند ما ذكرنا بل يتعداه إلى وجوه كثيرة، نفسية وأخلاقية واجتماعية، ومن الإعجاز عجز الخلق عن الإحاطة بكل الإعجاز ، وما أحسن قول أبى سليمان الخطابي (وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه، وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها.. وقد توجد هذه الفضائل على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه، فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شئ عددا) [13] .



[1] أخرجه ابن إسحق والبيهقي في الدلائل، عن الزهري رضي الله عنه.

[2] للمزيد من ذلك يراجع (النكت في إعجاز القرآن) للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن :ص 76 وما بعدها.

[3]   الثعالبي، الإعجاز والإيجاز (ج 1 / ص 2).

[4]  الثعالبي، الإعجاز والإيجاز – (ج 1 / ص 3)

[5]  الجرجاني، دلائل الإعجاز – (ج 1 / ص 15)

[6]  الجرجاني، دلائل الإعجاز – (ج 1 / ص 16)

[7]  الجرجاني، دلائل الإعجاز – (ج 1 / ص 72).

[8]  الجرجاني، دلائل الإعجاز – (ج 1 / ص 73)

[9]  يراجع في المزيد من ذلك: التحرير والتنوير. 1 / 115-117

[10] عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم – (ج 1 / ص 62و63) ويراجع في ذلك مناهل العرفان للزرقاني:2 / 319 – 321

[11] عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم – (ج 1 / ص 66)

[12]  القاضي عياض، الشفا: 1 / 219، 220

[13] عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم – (ج 1 / ص 65)