الإعجاز القصصي في القرآن الكريم

محمد فرشوخ [1]

        بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد، يقول الله تعالى في سورة الملك: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟}.

يعرف اللطيف الخبير سبحانه كيف يؤثر في نفوس خلقه، فكان للأسلوب القصصي نصيب هام في القرآن الكريم. وللقصة في نفس ابن آدم أبلغ الأثر، ولا يظنن أحد أنها موجهة للأطفال فقط، فالمجتمعات كلها تحب القصة وما اجتماع الناس أحياناً إلا لتسقط أخبار بعضهم البعض، والناس يقصدون الحكواتي في المجتمعات الفقيرة لسماع القصة ويرتادون المسارح ودور السينما في المجتمعات الأخرى للغاية عينها، لأن النفس البشرية تنزع نحو معرفة الأحداث السيء منها والجيد، وتتهافت على مراقبة ثراء الثري وتسلط الحاكم وتتأثر لرؤية الفجيعة وإلى تفاصيل الخلافات بين الناس، والإنسان يميل إلى تقصي الأخبار ويدعوه فضوله إلى الإنصات والتتبع.

سبك الخالق تعالى قصص القرآن بطريقة بليغة وشيقة وسلسة، يسهل حفظها، لا تخلو من العاطفة والحس والمشاعر الإنسانية، ترافقها ألفاظ وعبارات كأنها جمل موسيقية تتناسب ومناخ القصة، رقيقة عند التقاء الأهل والأحبة، صارمة عند مواجهة أعداء الإيمان، مقنعة عند جدال المشركين، حزينة عند يأس الأنبياء وكرب الصالحين، مرعبة عند نزول البأس والعقوبة الإلهية في القوم الظالمين، فتدخل العبرة منها في خبايا نفس القارئ والمستمع عن غير قصد منهما.

وقصص القرآن مختارة ومتنوعة، ففي كل قصة وموعظة منه خصوصية وتميّز لا تشبه سواها، لأن القصة ليست الغاية بل الموضوع هو الأهم ليكشف ميول النفوس، وأمراض المجتمعات، وأنواع المعاصي، وسمات أصحاب الإرادات العظيمة والنفوس الكبيرة، فيكون بعض الناس عبرة لمن يعتبر ويكون البعض الآخر القدوة والأسوة. فكيف إذا كانت قصص القرآن تتعلق غالباً بالمشاهير من مختلف الأقوام والأمم؟ وكيف إذا كانت هذه القصص تميط اللثام عن قصص الأمم الغابرة وتحسم الجدل الذي دار حولها قروناً طويلة؟

يقول الدكتور سيد قطب رحمه الله عن أغراض القصة في القرآن الكريم، أنها لإثبات الوحي والرسالة، وأن الدين كله من عند الله، وأن أصل الدين واحد، وأن وسائل الأنبياء في الدعوة موحدة وكذلك ردود أقوامهم عليهم متشابهة، وأن الله تعالى ينصر أنبياءه في نهاية الأمر ويهلك العاصين، وأن يتنبه الانسان إلى غوايات الشيطان، وأن الله تعالى قادر على إحداث الخوارق كقصة ميلاد عيسى عليه السلام وقصة إبراهيم وإعادة خلق الطير، وإحياء الموتى…[2]

ولكن في قصص القرآن عبر لا تحصى ولا تعد بعضها ظاهر للعيان وأخرى رقيقة قد تبدو ثانوية في موضوع القصة لكن لها دلالاتها وأبعادها. وللنفس البشرية في قصص القرآن حصة كبيرة بأبواب متعددة.

وقصص القرآن ليست ضروباً من الخيال أو ادعاءً لمواقف صورت في الأذهان إنما هي روايات حقيقية مضت في الأمم السابقة أثبتت الحفريات والمكتشفات الأثرية صحة ما اندثر منها والعجيب المعجز فيها أن الله تعالى أخبر سلفاً أننا سنعثر عليها وأخبرنا بالدليل القاطع على صحتها، ومنها على سبيل المثال نجاة جسد فرعون الغريق والذي أثبت العلماء الفرنسيون وفاته غرقاً حين حللوا رئتيه قبل بضعة عقود، قال عنه تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ {92} (سورة يونس). ومنها أيضاً العثور على سفينة نوح بألواحها والدسر إلخ…

ولا يظنن أحد أن في ترداد قصة من قصص القرآن تكرار يدعو إلى الملل، وخاصة في أخبار سيدنا موسى عليه السلام وفي أخبار بني إسرائيل، لأن في إعادة رواية حادثة ما، تركيز على جانب آخر لم يرد في الرواية السابقة ويكون هو الموضوع الجديد المطروح في السورة الحالية وبمثابة الشاهد على الموضوع الذي تعالجه السورة. فأخبار السحرة عند مواجهة سيدنا موسى تطرح مرة من زاوية ولائهم لمن يدفع أكثر، ومرة لإثبات أن السحر باطل لا يطال إلا الأعين وأن ذكر الله تعالى يبطله، وفي مرة ثالثة لإظهار عدم ثبات الكفر في وجه الإيمان والداعي بحيث آمن السحرة رغم التهديد والوعيد…

ويقول الشيخ أحمد كفتارو رحمه الله، إن في تجزئة قصة ما في عدة سور، تجنب للتطويل، ومعالجة لموضوع ما من زاوية مختلفة، وتذكير للقارئ بالقصة كلها من خلال تذكيره بجزء منها فتستعيد ذاكرته كامل القصة عن غير قصد منه كلما قرأ من القصة جزءاً يسيرًا. ناهيك عن الحوار الذي يدور في كل قصة بأسلوب ومعانٍ تسبر أعماق النفوس وتهز المشاعر، وتترسخ في الأذهان .

وليس في القرآن سيرة رسول كاملة في سورة واحدة إلا في سورة يوسف، وفيها على استثنائها إعجاز خاص، إذ لخّصت حياة نبي ومعاناته في قصة قصيرة جداً معبرة وموجزة. لم ينقص الإيجاز فيها من تفاصيل الأحداث الكثيرة ولم يأت الإيجاز على حساب تحليل مواقف الشخصيات ولا على حساب إبراز المواقف والمشاعر والأحاسيس لكل أبطال القصة.

وقصص القرآن لا حشو فيها، من المعجز فيها أنها تقدم لكل قصة ببضع آيات وأحياناً بآية أو أقل من آية لتضع القارئ والمستمع في الجو السائد ثم تنتقل فوراً إلى لب القضية فتصف المشهد وتسجل الحوار وتخلص إلى النتيجة في أقل من نصف صحيفة على الإجمال.

وفي القرآن الكريم عدد من القصص اختصر الله تعالى كلاً منها في آية واحدة أو آيتين ومنها حوار إبراهيم مع ملك زمانه في سورة البقرة:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {258}.

ومن أخبار سيدنا موسى في القرآن يصف المولى تعالى حالة موسى بعد هروبه من مصر ووصوله إلى مدين جائعاَ مرهقاً بائساً، يسقي للفتاتين ولا يطلب أجراً إلا من ربه فيناجيه ثم يأتيه الفرج وكل ذلك فقط في ثلاث آيات: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ {24} فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {25} (سورة القصص).

وأما عن خاتمة حدث جلل سجله تاريخ الإنسانية وهو الطوفان فقد جاءت في القرآن بليغة موجزة دون أن  تقصّر في حق المشهد المرعب الهائل الذي ساد قبل تلك اللحظات فيقول تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {44} (سورة هود). فتنتهي ثورة الطبيعة ويسود الهدوء بعد أن ابتلعت الأرض والماء من قضي عليه من البشر. كل ذلك في آية واحدة.

وما أسلفناه ليس إلا غيضاً من فيض، حبذا لو يتسع المجال للتمتع بدقة السرد الإلهي لأخبار الأمم السالفة، فبعضها يرقق القلب وآخر يرعبه وبعضها الثالث يوعظ النفس وغيرها يوقظ الهمة وكلها تدعو إلى التفكر.

وفي الخلاصة أن القرآن الكريم ليس كتاباً لمجموعة قصص، بل حقائق للموعظة والذكرى وليست القصة فيه إلا لغاية تخدم هذه الموعظة وتلك الذكرى. يقول الله تعالى في سورة هود: وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {120}.

-قصص القرآن حقائق وليست من الخيال

-القصة في القرآن للموعظة.

إعجاز القصة في إيجازها وشمولها وبلاغتها.



[1] Moharshuk@gmail.com

[2]  سيد قطب، التصوير الفني في القرآن.