العربية أمنا

محمد فرشوخ

 

مقدمة:

        أوسع اللغات على الاطلاق فمفرداتها بالملايين، وهي أدق اللغات على الغالب فلكل حركة وحالة ووضع وميل وعمر وشكل وصف خاص دقيق يميزه عن غيره.

كلمات كثيرة مستقاة من الأصوات الصادرة عنها مثل دق الباب، ورخ المطر وسقسقة الماء وزقزقة الطير، وصليل السيوف ورنين الجرس والنسيم العليل والرعد والضجة والطبل والمزمار…

فإذا لم يفهم العجمي المعنى الدقيق للكلمة فلعله يستوحي من تجمع حروفها معنًى قريبًا لها.

انسياب حروفها في الكلمات وكلماتها في الجمل وجملها في السياق جعلوا في نثرها وقصيدها سلاسة تطرب الأذن وتؤثر في النفس وتسهل الحفظ.

لغة عجزت الأزمان الغابرة عن الذهاب بها وأعجزت الأمم الغازية أن تقضي عليها أو تستبدلها، استوعبت أحلى مفردات اللغات الأخرى، فطوعتها وتبنتها وصاغتها في أحسن الصور.

قال الثعالبي[1]: (العربية خير اللغات والألسنة، والاقبال على تفهمها من الديانة اذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد ثم هي لإحراز الفضائل والاحتواء على المروءة وسائر المناقب، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن وزيادة البصيرة في إثبات النبوة الذي هو عمدة الايمان لكفى بهما فضلاً يحسن أثره ويطيب في الدارين ثمره.)

يعطيك الصوت الصادر عن لفظ الكلمة فكرة عن السرعة والكثافة ففي كثافة المطر وسرعة هطوله تقرأ وتسمع: بخ ثم رخ ثم سخ ثم زخ المطر.

كل ما امتد انتهى بالمد: سماء وماء وهواء وعطاء ورخاء وفضاء…

وفي اللغة اسم لكل مرحلة: غرّة الشيء أوله، وكبد الشيء وسطه، وخاتمة الأمر آخره، وغَرب كل شيء حدّه وفرع الشيء أعلاه، وتباشير الشيء طلائعه، ونفاية الشيء أسوأه ونقاية الشيء أفضله وأحسنه، وغور الشيء قعره.

تقارب في المبنى وتفاصيل في المعنى:

–       البذر للقمح والشعير، والبزر للبقول والرياحين.

–       اللفح من الحر والنفح من البرد.

–       الدرج إلى فوق كالدرك إلى تحت. فالجنة درجات والنار دركات.

–       الهالة للقمر والدارة للشمس.

–       الغلط في الكلام كالغلت في الحساب.

–       الضُعف في الجسم كالضَعف في العقل.

–       الوهن في العظم كالوهي في الثوب والحبل.

–       البصيرة في القلب كالبصر في العين.

–       الوعورة في الجبل كالوعوثة في الرمال.

–       العمى في العين كالعمه في الرأي.

لا يقال إلا إذا:

لا يقال للزجاجة كأس الا اذا كان فيها شراب، ولا للخوان مائدة الا اذا كان عليها طعام، ولا للكوب كوز إلا اذا كان له مقبض، ولا للأنبوبة قلم الا اذا كانت مبرية، ولا للفتخة خاتم الا اذا كان فيه فَصّ، ولا للجلد فروة الا اذا كان عليه صوف، ولا للسرير أريكة الا اذا كان عليه جلال، ولا للقناة رمح الا اذا كان لها نصل.

ولا يقال نفق الا اذا كان له منفذ في آخره والا فهو سَرَب. ولا للصوف عهن الا اذا كان مصبوغًا، ولا للحم قديد الا اذا عولج بالتوابل. ولا للستر خدر الا اذا كان وراءه جارية.

ولا يقال للبكاء عويل الا اذا ارتفع معه الصوت، ولا للتراب ثرى الا اذا كان نديًّا. والأرض المهيأة للزراعة قراح والأرض البور براح.

ويدعى الماء رُضاب ما دام في الفم فإذا فارقه صار بُزاق.

كثرة الأوصاف ليست تكرارًا:

ولئن اشتهر للسيف في اللغة العربية أكثر من ثلاثين إسمًا وكذلك عدة أسماء للأسد فهي ليست متشابهة اذ أن كل اسم من هذه الأسماء يصف نوعًا من أنواع السيوف أو حالة من حالات الأسود بحسب هيجانها أو بحسب سنّها.

ولا يقتصر الأمر على السيوف أو الأسود فإنما هي مثل ونموذج لكن الأمر يمتد إلى كل ما عني به العرب واهتموا به من حيوان ونبات وأصوات وحركات وأشكال وهيئات، وأعمار وصفات. من أنواع الأطعمة والأشربة، وأوصاف الحسن والقبح والتراب والطرق والجبال والروائح والرياح والسحاب والمياه والنار والقصر والطول والضخامة والدقة والشدة واللطف والضيق والسعة، والفقر والغنى، والعجز والقوة، والعيون والحواجب والانوف والآذان والشفاه والأسنان. وأحوال الغضب والسرور ومراحل المعارك والحروب والسير والسباق وضروب الأسلحة والدروع.

في أية لغة تجد للمعان تخصصًا؟

لألاء الشمس والقمر – لمعان الصبح – بصيص الدر والياقوت – وبيص المسك والعنبر – بريق السيف – تألق البرق – رفيف الثغر – أجيج النار.

في ترتيب جماعات الناس:

تجمعًا: نفر ورهط ولُمّة وشرذمة ثم قبيل وعصبة وطائفة ثم ثبّة وثلّة ثم فوج وفرقة ثم حزب وزمرة ثم جُبلة وجيل.

وتفرقًا: الشَعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العشيرة ثم الذرية ثم العِترة ثم الأسرة.

في ترتيب ساعات الليل والنهار أربعًا وعشرين:

ساعات النهار: الشروق ثم البكور ثم الغدوة ثم الضحى ثم الهاجرة ثم الظهيرة ثم الرواح ثم العصر ثم القصر ثم الأصيل ثم العشي ثم الغروب.

وساعات الليل: الشفق ثم الغسق ثم العتمة ثم السدمة ثم الجهمة ثم الفحمة ثم الزلة ثم الزلفة ثم البهرة ثم السحر ثم الفجر ثم الصبح والصباح.

في الضحك والبكاء:

اذا تهيأ المرء للبكاء قيل أجهش. عيناه ترقرقت ثم اغرورقت بالدموع ثم دمعت وسالت ثم همت فإذا رافقها صوت قيل نحيب ونشيج فإذا علا الصوت قيل عويل.

وكذلك التبسم ثم إهلاس (اخفاؤه) ثم افترار ثم الكتكتة ثم القهقهة ثم القرقرة ثم الكركرة ثم الاستغراب ثم الطخطخة ثم الزهزقة حين يفقد المرء السيطرة على نفسه.

في عيوب اللسان والكلام:

–       الرُتة: في حبسة اللسان وعجلة في الكلام.

–       اللكنة والحكلة: عقدة في اللسان وعجمة في الكلام.

–       الهتهتة والهثهثة: التواء اللسان عند الكلام.

–       اللثغة: تحويل الراء إلى اللام. والسين إلى التاء.

–       الفأفأة: ترداد الفاء.

–       التمتمة: ترداد التاء.

–       اللفف: ثقل اللسان وانتقاده.

–       اللّيغ: عدم وضوح الكلام.

–       اللجلجة: ادخال بعض الكلام في بعض.

–       الخنخنة: الكلام من الأنف.

–       المقمقة: الكلام من أقصى الحلق.

حذارِ التسرع في التفسير لئلا يعطي المعنى عكس المقصود:

اذا قيل فلان يتحنث أي أنه يتعبد ليخرج من الحنث وهو الإثم والخطيئة.

وان قيل فلان يتنجس فهو يتطهر ليخرج من النجاسة.

وان قيل يتحرج فهو يسعى للخروج من الحَرَج.

واذا قيل يتهجد فهو يصلي من الليل عندما يهجد الناس للنوم.

وان قيل امرأة قذور فهي التي تتجنب القاذورات.

    لغة أعطت اللغات الأخرى كثيرًا من المفردات فأغنت غيرها ولم تتحلل واستوعبت مفردات مستحسنة من لغات أخرى فادخلتها واستعملتها من دون أن يتغير في قواعدها وأصولها شيء. ولربما صارت تلك المفردات منسية في اللغة الأم بينما حفظتها اللغة العربية وأبقت عليها وأحسنت استخدامها.

لغة تفردت بتعابير عزّ وجود مثيلات لها في غيرها؛ كالزكاة والنفاق والفسق والاقامة والتيمم والظهار والايلاء والقبلة والمحراب الخ…

        لغة حفظ أهلها القرآن فحفظهم وحفظها، يستحيل القضاء عليها لأن الخالق الجبار تعهدها بالحفظ والصون، لقوله تعالى: {انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون} وقوله أيضًا: {إن علينا جمعه وقرآنه}.

لئن أجمع العلماء على أن القرآن معجزة الاسلام، فإن معجزة أخرى مستترة هي هذه اللغة الصامدة المعبرة الكافية الوافية فقد حق لها أن تصمد ووجب عليها أن تصمد حتى النهاية ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها لغة أهل الجنة؟

 

هل تعلم؟

من سعة اللغة العربية؛ لكل مائدة إسمها الخاص

        حين توجه الدعوة إلى طعام في أي بلد من العالم ولئن كتبت الدعوة بأية لغة من اللغات ترى الأساليب المتبعة في الدعوة متشابهة وإلى حد كبير وتتضمن شرحًا مسهبًا أحيانًا لتحديد أسباب الدعوة ومبرراتها. إلا في اللغة العربية فان سبب الدعوة يعرف من اسم المائدة ولا حاجة للتفصيل: فطعام العرس يدعى ” الوليمة “، وطعام التعزية يسمى ” الوضيمة ” (من الضيم وهو الأسى)، وطعام المولود ” العقيقة ” (من عق عن النار وهو الفداء) وطعام البناء او المسكن الجديد يدعى ” الوكيرة ” (من الوكر حيث يأوي) وطعام عيد الأضحى يدعى

” الأضحية ” والطعام السنوي للعشيرة أو العائلة الكبيرة يدعى ” العتيرة ” (من العترة)، ويدعى أيضًا ” الرجبية ” لأن العادة جرت أن يقدم في شهر رجب، وطعام الترحيب بالقادم من السفر يدعى ” النقيعة ” (لاجتماع الشمل).

ولئن أطلق العوام على الدعوة اسم ” العزيمة ” فلأنها تعني الاصرار على الدعوة والعزم على المدعو بالتلبية والحضور ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “اذا دُعِيَ احدكم الى الوليمة فليأتها”.

 



[1]  الثعالبي، ابو منصور عبد الملك بن محمد، فقه اللغة وسرّ العربية. تحقيق أمين نسيب، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1998.