العلاقة الهندسية بين الطواف والسعي

أ.د. يحيى وزيري*

 

مقدمة:

 

نبه المولى سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم إلى أن البيت الحرام فيه آيات بينات، مصداقاً لقوله: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام ابراهيم} (آل عمران: 96، 97). وإن الطواف حول الكعبة المشرفة هو أحد أركان مناسك الحج أوالعمرة، مصداقاً لقوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج: آية 29). ومن خصوصيات المسجد الحرام الطواف حول الكعبة المشرفة سبعة أشواط، بدلاً من أداء ركعتي تحية المسجد كما في باقي مساجد الأرض الأخرى. والسعي ما بين جبلي الصفا والمروة من أركان الحج أو العمرة أيضاً، كما أنه لا جناح على أي مسلم أن يسعى بينهما في أي وقت شاء، مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ومن تطوع خيراً فان الله شاكر عليم} (البقرة: آية 158).

 

يلاحظ من الآيات الكريمة السابقة أن القرآن الكريم، قد وصف السعي بين الصفا والمروة بأنه طواف أيضاً، فهل هذا الوصف القرآني الدقيق يلفت أنظارنا لوجود علاقة ما بين “الطوافين”؟، أي الطواف حول الكعبة والطواف بين الصفا والمروة. إن الهدف من هذه الدراسة: هو محاولة كشف العلاقة الهندسية (الحسابية)، بين الطواف حول الكعبة المشرفة والسعى ما بين جبلي الصفا والمروة، انطلاقاً من التنبيه القرآني الذي سبق الاشارة إليه.

 

أولاً: الطواف والسعي لغة وشرعاً:

 

الطواف في اللغة: (الطاء والواو والفاء، أصلٌ واحدٌ صحيح يدل على دوران الشيء على الشيء، وأن يَحُفَّ به ثم يحمل عليه، يقال: طاف به وبالبيت يطوف طَوْفاً وطَوَافاً، وأطاف به)، أما في الشرع فهو: التعبد لله بالدوران حول الكعبة على صفة مخصوصةً.

 

وصفة الطواف المشروع: “أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فيستقبله، ويستلمه، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحَجَر … بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحَجَر … ثم يبتدئ طوافَه ماراً بجميع بدنه على جميع الحجر، جاعلاً يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفاً بالبيت، ثم يمر وراء الحِجر- بكسر الحاء – ويدور بالبيت، فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، فتتم له بهذا طوفةً واحدة، ثم يفعل كذلك، حتى يتمم سبعاً”(1).

 

أما السعي في اللغة: يطلق على المشي، والقصد إلى الشيء، والعدو، والتصرف في الأعمال، واصطلاحاً: المشي بين الصفا والمروة، وقد يطلق على السعي الطواف والتطوف، كما في قوله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، أي يسعى بينهما(2).

 

وقد أوضح فضيلة الشيخ الشعراوي رحمه الله، أن الطواف يعني أن تبدأ من نقطة (أو مكان) ثم تعود إليها(3)، فالمسلم فى طوافه حول الكعبة يبدأ من أمام ركن الحجر الأسود ويطوف حول الكعبة راجعاً إليه فيحسب هذا شوطاً، كما أن المسلم في السعي يبدأ من عند جبل الصفا ذاهباً إلى جبل المروة ثم يعود للصفا، وهكذا تتكرر الحركة ما بين الجبلين فتكون طوافاً.

 

فالخلاصة: أن الطواف لا يعني الدوران وإنما يعني الذهاب والإياب من شيء إلى شيء مهما كانت حالة ذلك الشيء، والسعي يعني المشي بجد وكلاً من المعنيين موجود في الطواف بالبيت والصفا والمروة، فبداية الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة نعبر عنه بالمشي أو السعي وإذا تكرر كان طوافاً فكل طواف هو سعي ومشي(4).

 

ولكن اذا كان المعنى اللغوي يحتمل أن يصف القرآن الكريم السعي بين الصفا والمروة بالطواف، حتى ولو كانت الحركة بينهما ترددية في خط مستقيم، وليست دائرية أو بيضاوية كما في حالة الطواف حول الكعبة المشرفة، فهل الوصف الذي يجمع ما بين الحركتين لغوي فقط؟، أم أن بينهما علاقة هندسية (حسابية)، يمكن أن تعتبر من الآيات البينات الموجودة في المسجد الحرام؟

 

ثانياً: الطواف حول الكعبة المشرفة في زمن سيدنا ابراهيم:

 

ظلت الكعبة المشرفة بنفس المقاسات من حيث أطوال حوائطها وعلى نفس قواعدها الأصلية حتى عهد قريش، وذلك لأن قريشاً عند اعادة بنائها للكعبة المشرفة أنقصت عدة أذرع من جهة الحجر ولم ترفعه كباقي جدران الكعبة ومع ذلك فقد استمر الطواف حول الكعبة المشرفة بعد أن فرض على الأمة الاسلامية يشمل حجر اسماعيل أيضاً، ويعتبر الفقهاء أن من دخل في طوافه من داخل حجر إسماعيل فقد أصبح طوافه باطلاً، لوجود جزء من الكعبة في حجر إسماعيل، والمطلوب هو الطواف بكل الكعبة لا بالجزء المسقوف منها فقط. (…)

 

ثالثاً: حساب أقل مسافة للطواف حول الكعبة المشرفة:

 

مما سبق يتضح لنا أن أقل مسافة للطواف حول الكعبة المشرفة بمقاساتها الأصلية، كما رفع قواعدها سيدنا ابراهيم وابنه اسماعيل، تحسب على أساس إنسان يطوف بجوار حوائط الكعبة تماماً، وهذا يعني من الناحية الحسابية أن هذه المسافة تساوي محيط الكعبة المشرفة (أي مجموع أطوال حوائطها في المسقط الأفقي).

 

لقد أورد الأزرقي (5) في كتابه “أخبار مكة” أبعاد المسقط الأفقي لحوائط الكعبة المشرفة كمايلي(6): “..فبنى البيت وجعل طوله في السماء تسعة أذرع، وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعاً من الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي عند الحجر من وجهه، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي فيه الحجر اثنين وعشرين ذراعاً، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحد وثلاثين ذراعاً، وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعاً..”، أى أن المقاسات الأصلية للكعبة المشرفة تكون كمايلى:

 

• مقاس الحائط الشمالى الشرقى يساوى 32 ذراعا.

 

• مقاس الحائط الشمالى الغربى يساوى 22 ذراعا.

 

• مقاس الحائط الجنوبى الغربى يساوى 31 ذراعا.

 

• مقاس الحائط الجنوبى الشرقى يساوى 20 ذراعا.

 

وهذا يعني أن محيط الكعبة الأصلي (أي مجموع أطوال الكعبة المشرفة) يساوي 104 ذراعاً، ونظراً إلى أن الإنسان الذي يسير بجوار الحائط يجب أن يبتعد عنه على الأقل مسافة (10سم) حتى لايحتك كتفه بهذا الحائط، مضافاً إليها نصف عرض جسم الإنسان (أي 25سم)، فإن هذا يعني أن المحور الرأسي الذي يمر بمنتصف جسم الإنسان الذي يطوف حول الكعبة يبتعد بمسافة (35سم) أي حوالي (0.68 ذراعاً، حيث أن الذراع يساوي 51سم في حالة قياسات الكعبة(7)) عن حوائط الكعبة المشرفة، أي أنه يجب إضافة هذه المسافة على كل ضلع من أضلاع الكعبة من طرفيه، حتى تكون الحسابات واقعية ودقيقة.

 

إذن أقل مسافة للطواف = محيط الكعبة الأصلي بالذراع + (8*0.68)

 

= 104 + 5.44 = 109.44 ذراعاً.

 

فإذا كان الطواف حول الكعبة المشرفة محدداً بسبعة أشواط،، فإن أقل مسافة للطواف حول الكعبة سبع مرات تساوي 766 ذراعاً.

 

رابعاً: العلاقة الهندسية (الحسابية) بين الطواف والسعي:

 

اتضح لنا بالحسابات مما سبق أن أقل مسافة للطواف حول الكعبة المشرفة (بمقاساتها الأصلية) سبع مرات (أشواط)، تساوي 766 ذراعاً.

 

فإذا عرفنا أن المسافة ما بين جبلي الصفا والمروة، وهي مسافة السعي بينهما شوطاً واحداً تساوي 766.50 ذراعاً(8)، كما ورد في كتاب “أخبار مكة” للأزرقي في باب “ذكر ذرع ما بين الركن الأسود الى الصفا وذرع ما بين الصفا والمروة”.

 

إن هذا يعني أن الطواف حول الكعبة المشرفة (سبع أشواط) كما رفع قواعدها سيدنا ابراهيم، يساوي السعي ما بين جبلي الصفا والمروة لشوط واحد، مما يعني أن وصف السعي بالطواف أيضاً لا يدل فقط على اشتراك الحركتين في أصل المعنى اللغوي، ولكن أيضاً لوجود علاقة حسابية محكمة ودقيقة، وهو ما يمكن اعتباره من الآيات البينات الموجودة في المسجد الحرام، والتي أشار لها القرآن صراحة في سورة آل عمران. (…)

 

الخلاصة:

 

أوضحت الدراسة أنه توجد علاقة هندسية (حسابية) ما بين الطواف حول الكعبة المشرفة والسعي بين جبلي الصفا والمروة، وهو ما يعني أن الوصف القرآني للسعي بأنه طواف أيضاً لا يقتصر ذلك على اشتراك السعي والطواف في المعنى اللغوي (…).

 

 

___________________________________

* مدير عام المجلس الاسلامى العالمى للدعوة والاغاثة. وللراغبين بمتابعة البحث بكامله مراجعة الموقع www.55a.net

الهوامش:

(1) خالد عبد الله الشمراني (1428هجرى). المكث بعد طواف الوداع في الحج. منقول عن الموقع الألكتروني التالي: www.almoslim.net/node/84279

(2) عن كتاب: “تاريخ الحرمين”، نسخة إلكترونية موجودة على موقع الحج والعمرة التالي: www.tohajj.com

(3) أوضح فضيلة الشيخ الشعراوي هذا المعنى لي، عند لقائي به ليكتب مقدمة لمؤلفي الأول عام 1990م تحت عنوان: “خواطر الشيخ الشعراوي حول عمران المجتمع الاسلامي”، مكتبة التراث الاسلامي، القاهرة.

(4) للمزيد من التفاصيل انظر الموقع الإلكتروني التالي:

 http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=982

 (5) أبو الوليد الأزرقي (1983). أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار (ط3). دار الأندلس، بيروت، ص 66.

(6) المرجع نفسه، ص 64.

 (7) طول الذراع في حالة قياسات الكعبة المشرفة هو 51 سم، وذلك لأن المسافة بين الركن اليماني وركن الحجر الأسود تساوي حسبما ورد في كتاب الأزرقي 20 ذراعاً، وتساوي حسب قياسات مركز أبحاث الحج الحديثة 10.18م، وهذا يعني أن الذراع في حالتنا هذه يساوي 51 سم (المعروف أن المسافة بين الركنين الأسود واليماني لم تتغير منذ أن رفع سيدنا ابراهيم قواعد الكعبة، لذلك تم الاعتماد عليها لمعرفة طول الذراع).

(8) تم التأكد أيضاً من هذه المسافة عن طريق استخدام القياسات المتوفرة في برنامج “جوجل ايرث” باستخدام صور الأقمار الصناعية، حيث يوجد فرق حوالي 4 أمتار فقط بين القياس الوارد في كتاب الأزرقي وقياس طول المسعى حالياً.